يهتم “علم الجليد” (الجلاسيولوجي/ Glaciology) بدراسة موضوع الجليد، وكتله، ومناطقه، وأنهاره، ومحيطاته وقاراته، وتاريخه، والظواهر الطبيعية المؤثرة في تكوينه وتشكله وذوبانه. وهو فرع من علوم الأرض، يجمع بين الجغرافيا الفيزيائية، وعلم الأرض وتشكلها، وعلم المناخ والطقس، وعلم المياه والأحياء والبيئة. كما أن محاولات اكتشاف “مظاهر حياة” كالماء المتجمد على القمر والمريخ إلخ أضافت مجالاً جديدًا لهذا العلم. ومهما يكن تعريف هذا العلم فإن الثلج يـقدم إلينا شتاء كل عام زائرًا أبيضًا نقيًّا، حاملاً الخير الوفير، والأمل الكبير بربيع بعده مزهر وجميل. ويضفي الثلج منظرًا بديعًا، ومشهدًا جذابًا.
ها هو الثلجُ من عليائِهِ نَزَلا …… لولا تَوَاضُعُ هذا الثلج ما هَطَلا
الثلج (Snow) شكل ترسيبي من بلورات جليدية صغيرة تنمو لتكون ندفًا ثلجية Flakes / Snow Crystals. وبهذا يختلف عن “الجليد البلوري” الذي لا فراغات فيه، وكذلك يختلف عن “البـَـَرد”. ففي أحوال جوية محدَّدة يمكن للمطر الهاطل، إذا صادف جبهة باردة، أن يتجمَّد على شكل كرات جليدية صافية شفَّافة أو على شكل طبقات كروية بعضها يميل إلي البياض، ذلك هو “البَرَد”. لكن وجود فراغات يجعل كثافة الثلج أقل بنحو عشر مرات من كثافة الماء، فيكون “هشًا” يتطاير كشظايا رقيقة تشبه زغب القطن. ويشكل عازلاً جيدًا للحرارة يحمي الخضراوات من برد الشتاء، ويحافظ على حرارة الأرض. وبهذا يتميز “الثلج الحر المتساقط” عن “الثلج المتراكم” على الأرض رغم الاستعمال الشائع للكلمة نفسها. ويتكون الثلج في طبقات الجو العليا من البخار مباشرة، فتنمو البلورات على نوى مكونة من جزيئات ماء أو من مواد ذات أصل أرضي كالغبار. ووفق ما تصادفه خلال نموها وسقوطها من بخار مشبع وبرودة وآلية سقوط، تصير ندفًا ثلجية يصل قدرها إلى 3سم أو تذوب فتهطل على شكل أمطار. وقد تصل الأرض بأحجام صغيرة “الضباب الثلجي أو الغبار الألماسي”؛ فتبدو في مناظر بصرية أخَّاذة كالهالات اللامعة والغيوم المتلألئة.
تشكل بلورات الثلج
يحتوي بخار الماء على جزيئات تنتشر بصورة عشوائية، وتكون متباعدة في حالتها الغازية. وتتشكل بلورات الثلج بمرور البخار عبر السحب متعرضًا للبرودة فيقل نشاط الجزيئات وتتكثف وتتجمع لتتحول إلى جسم صلب. وهذا التجمع ليس “عشوائيًّا” بل بنظام بلوري سداسي الأضلاع (من بين النظم السبعة للبلورات). مضلعات سداسية مجهرية منتظمة الشكل، حيث يحتوي المتر المكعب من الثلج على نحو 350 مليون بلورة ثلجية. وتختلف الندف الثلجية في حجمها، فقد تتجمع 100 بلورة مكونة كِسْفَة جليدية قطرها نحو 2,5سم. وعادةً يتراوح متوسط عدد بلورات ندفة الثلج مائة ألف بلورة مصطفة اصطفافًا منتظمًا وذات حواف حادة. وحين تصل الأرض تفقد غالبًا الحواف الحادة وتصبح مستديرة بسبب الذوبان أو الضغط المتسبب في نقص الفراغات وزيادة كثافتها لتقترب من الجليد. وهذا يُميِّز الثلج الأرضي عن الثلج الحر.
وفي مرحلة أولي.. تتكون كل قطعة ثلج من مضلع سداسي ويتبلور من جزيئات الماء (7سم من الجليد الرطب و30 سم من الجليد الجاف الزغب يعادل كمية الماء الموجودة في سنتيمتر واحد من المطر). ومن ثم تأتي باقي المضلعات المتبلورة لتلتحم بالبلورة الأولى. والعامل الرئيس في طريقة تشكيل البلورة هو الالتصاق المتسلسل لهذه المضلعات السداسية كالسلسلة. والمفترض في هذه البلورات هو أن تتخذ الشكل نفسه مهما اختلفت الحرارة والرطوبة. لكن شكلها يختلف باختلافهما (أي باختلاف الحرارة والرطوبة والضغط). إن هذه البلورات الثلجية التي تتجمع لتأخذ أشكالاً عديدة مثل الصحون الصغيرة والكبيرة، أو الشكل النجمي أو حتى الشكل الدقيق جدًّا الذي يشبه رأس إبرة تحقق هذا الاختلاف في التشكل بوسيلة مثيرة للحيرة. حيث يفرض النظام سداسي الأضلاع السائد نفسه على الندف الثلجية خلال تشكلها، فتظهر مجهريًّا بتناظر سداسي أيضًا، ولكن بتنويعات مختلفة ومُدهشة، بديعة الأشكال، والتصاميم الفنية. يقول “هنري ثورو”: “أكاد أجزم أن خالق هذا الكون يتجلى إبداعه في كل ندفة ثلج، أو قطرة ندى. نظن أن الأولى تتماسك بصورة ميكانيكية، والأخرى تسيل فتتهاوى ببساطة، لكنهما في الحقيقة انعكاس لجمال صنعته”،
.(H. David Thoreau: ”On Man and Nature”. ed. Arthur Volkmann. New York, 1960, pp: 6)
من داخل “الوحدة” ينبثق “التعدد”
إن بياض الثلج بسبب انتثار الضوء المتعدد على البلورات الكثيرة في الندفة الواحدة، أمّا البلَّورة المنفردة التي تُكوِّن أحد الأغصان فهي شفافة. وفي بحث دءوب استغرق من حياته نحو خمسين عامًا.. برع “دبليو أ بنتلي” في تصوير نحو ألفي شكل منها وجمعها في كتاب مدهش يعكس جانبًا من جوانب الزخرفة الحيوية في الطبيعة، والزخرفة ليست نتاج الصدفة أو الضرورة، بل ناجمة عن قصد وغاية [راجع: روبرت م أغروس، وجورج ن بستانسيو: “العلم في منظوره الجديد”، ضمن سلسة عالم المعرفة: العدد: 134، فبراير 1989م]. ولقد تم توظيف هذه الأشكال من قبل الفنانين التشكيلين، ومصممي الصناعات: كالنسيج، والسجاد، والخزف، والسيراميك، والحلي، والجواهر إلخ.
الثلج مصدرًا للبهجة
على الرغم من الأجواء الباردة التي ترافقه خلال فصل الشتاء.. هناك عدة أسباب تجعل الثلج مصدرًا للبهجة. حيث يقتصر متوسط معدل تساقط الثلوج في العديد من بلدان العالم على بضعة أيام/ السنة. وتكتسي فيها الأرض باللون الأبيض الناصع، لتكسر أجواء “الروتين والرتابة” في الحياة اليومية، مما يعطي مجالاً للتغيير والتأمل والإبداع في أجواء ساحرة لا تتوفر دومًا. وخلال تساقط الثلوج تتوقف الأعمال والنشاطات المختلفة في معظم الأحيان، مما يعطي فرصة للشعور بالراحة والاسترخاء بعيدًا عن مشاكل وهموم العمل المكثف، بالإضافة إلى ما يوفره المشهد الناصع البياض من سكينة وطمأنينة للنفس البشرية. ولعل أكثر من يفرح عند تساقط الثلوج هم الأطفال، وتدفعهم براءة الطفولة إلى اللهو بالثلج والتزلج عليه على الرغم من برودة الطقس، وكلما تساقط الثلج نجد أنفسنا نشتاق إلى أيام الطفولة الممتعة. ومهما توفر من وسائل ترفيه وألعاب حديثة، ستجد نفسك وأطفالك راغبين في اللعب في الخارج عند تساقط الثلوج. وبناء “كومات كالتلال، وفراشات ثلجية، ورجل الثلج” والتقاط الصور التذكارية الضاحكة المرحة إلى جانبه، كما يوجد العديد من النشاطات الترفيهية الأخرى المصاحبة لموسم الثلوج.
إن الثلج ينقي الأجواء ويغسل الأرض من أوساخها، ويفرشها ببساط أبيض نقي يمنحها مظهرًا براقًا رائعًا، ويعطي شعورًا بالانتعاش والنشاط لدى استنشاق الهواء البارد النقي في الخارج. كما أنه يجمع الأهل والأصدقاء حول الموقد في الشتاء للحصول على الدفء، ويتبادلون أطراف الحديث مع تناول مشروبات وأطعمة ساخنة، في فرصة لن تتكرر كثيرًا في باقي الأيام. وبعيدًا من ضجيج المدن وضوضائها، حيث طغت الأبنية الإسمنتية والأبراج المعدنية، والمظاهر المصطنعة على حياة المدن بشكل كبير، وانفصل السكان عن الطبيعة بشكل واضح، إلا أن الثلج يشكل فرصة هامة تعيد التواصل مع الطبيعة من خلال أحد أجمل وأنقى مظاهرها. ولا يستمر وجود الثلج لفترات طويلة، فسرعان ما يذوب عند شروق الشمس أو يتم إزالته بجرافات، وتعود الطرق والحياة إلى سابق عهدها، مما يجعل هذا الزائر ضيفًا خفيف الظل يتم انتظاره سنويًّا.
للثلج فوائد طبية
يُحدث الثلج انقباضًا شديدًا في الأوعية الدموية المغذية لموضع ما، وبعد حوالي عشر دقائق يتحول هذا الانقباض إلى انبساط في الأوعية الدموية بأوامر من المخ للأعصاب المغذية للأوعية الدموية، بسبب نقص التروية الدموية الذي سببه برودة الثلج. وبهذه الآلية يفيد الثلج في إسعاف الإصابات الحركية العضلية، وفي آلام الظهر، وذلك عن طريق عمل جلسات يستخدم فيها الثلج لمدة عشرين دقيقة للاستفادة من فاعليته في تحسين الدورة الدموية لهذه المناطق. كذلك له تأثير على النبضات العصبية الحسية التي تحمل الألم، فيقوم الثلج بإحداث تسكين للموضع المصاب، فضلاً عن قيامه بانقباض الأوعية الدموية للإصابة الحديثة، ويوقف النزيف ثم يحدث انبساطًا في الأوعية الدموية بالمنطقة المصابة. وصفوة القول: وفي كل قطرة ماء، وندفة ثلج.. للروح حياة، وللعين جمال، وللأذن موسيقى، وللرسام إبداع، وللشاعر إلهام، وللجميع سعادة، وللمريض دواء.
ذوبان الجليد، وتوقعاته
يختلف الجليد المتساقط على الأرض، والمتساقط في الأقاليم القطبية طوال العام. إلا أن أكثف تساقط له يحدث في المناطق الجبلية ذات النطاق المعتدل شتاء. ويعتبر الجليد مصدرًا مهمًّا للماء، وعندما يذوب، فإنه يوفر الماء للأنهار ومحطات توليد الكهرباء من القوة المائية وخزانات الري. ومع ذلك فإن التجمعات الجليدية الزائدة على المنحدرات والواجهات الجبلية غير المحاطة بالغابات قد تسبّب حدوث انهيارات ثلجية خطيرة ومفاجئة. ويتواجد 99% من كل جليد المياه العذبة على كوكب الأرض، فوق غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، وكل عام، يذوب القليل منه في المحيط. وعادة، يستغرق الأمر مئات إلى آلاف السنين حتى يذوب الجليد بأكمله. ولكن، ماذا لو حدث أمر طارئ تسبب في ذوبان عالمي هائل بين عشية وضحاها؟
في حال تم الأمر، سترتفع مستويات سطح البحر بنحو 66 مترًا، وستغرق أغلب المدن الساحلية (مثل نيويورك وشنغهاي ولندن)، بسبب فيضان مروع، ما يضطر نحو 40% من سكان العالم إلى النزوح. إن الجليد في غرينلاند وأنتاركتيكا مكون من مياه عذبة، وذوبانه يمثل نحو 69% من إمدادات المياه العذبة في العالم، وستذهب مباشرة إلى المحيطات. وهذا سيعيث فسادًا في تيارات المحيطات وأنماط الطقس. وفيضان المياه العذبة سيخفف التيارات وقد يضعفها أو حتى يوقفها تمامًا. وبدون هواء دافئ، ستهبط درجات الحرارة في شمال أوروبا، وقد ينتج عن ذلك عصر جليدي مصغر.
وتشكل الأنهار الجليدية في جبال الهيمالايا (تحديدًا) أحد أكبر التهديدات بسبب ما حوصر في الداخل: مواد كيميائية سامة. فهذه الأنهار الجليدية يمكنها تخزين المواد الكيميائية لعقود. ولكن أثناء الذوبان، ستطلق تلك الأنهار موادها الكيميائية إلى الأنهار والبحيرات ومخزونات المياه الجوفية، وستسمم كل منها. وواحدة من أكثر المشكلات إلحاحًا في ذوبان الجليد دائم التجمد، هي التسمم بالزئبق. وهناك ما يقدر بنحو 15 مليون غالون من الزئبق مخزنة في المنطقة دائمة التجمد في القطب الشمالي. وهذا يساوي تقريبًا كمية الزئبق في أي مكان آخر على الأرض. ويمكن أن يتسبب الذوبان في ارتفاع درجات الحرارة العالمية بمقدار 3.5 درجة مئوية مقارنةً باليوم. وقد تتبخر الأنهار والبحيرات في جميع أنحاء العالم، لتحدث حالات جفاف كبيرة ومناخ شبيهة بالصحراء. كما سيغذي بخار الماء الإضافي في الغلاف الجوي العواصف والفيضانات والأعاصير بشكل متكرر وأقوى.
أسئلة لكشف الأسرار
ما زال في علم الجليد (Glaciology) أسئلة عالقة بحاجة لتفسير يكشف عن أسرار هذا العلم. ومن هذه الأسئلة: لماذا توجد البلورات المتناسقة ذات الشكل سداسي الأضلاع في كل ندفة ثلج؟ ولماذا تتنوع فتأخذ شكلاً مختلفًا إحداها عن الأخرى، أما كان لها أن تؤدي وظيفتها بنفس تكرار شكلها؟ لماذا تكون حوافها ذات زوايا بدلاً من أن تكون مستقيمة؟ وكيف ظهرت هذه الأشكال، واختلفت وتناسقت فيما بينها؟ وماذا لو حدثت أمور طارئة تسببت في ذوبان عالمي هائل للجليد بين عشية وضحاها؟ وما هو مآل الحياة علي وجه الأرض؟ وكيف يمكن التحكم بصورة فعالة فيما قد يؤدي إلى انهيار جليدي عالمي؟ وما زالت البحوث والدراسات جارية للتوصل إلى أجوبة عن هذه الأسئلة العالقة.