من المسلمات عند كل مسلم أن القرآن الكريم هو الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن مصدره رب العالمين، الذي خلق الإنسان من سلالةٍ من طين، فهو روح الأبدان، وغذاء الإنسان، ذكره ومدارسته تزرع في القلوب الإحساس بالأمان، والراحة والاطمئنان، دليل ذلك فاتحة القرآن، فلها من الثمار الدانية ما يعجز عن وصفه البيان، اقرأها معي بتدبر أخي العزيز ينجلي لك البرهان، قال تعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين“(الفاتحة: 1/7).
لاحظ معي أخي الكريم كيف أن الله سبحانه بدأ كتابه بالحمد والثناء، يقول الإمام ابن عطية في تفسيره: “الحمد معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر؛” ومن ثمار هذه الكلمة، أنها غاية ما يمكن للإنسان النطق به في مقام الشكر، فقد حكى القرآن الكريم أن أصحاب الجنة عندما يدخلونها ويريدون أن يعبروا لله عن شكرهم إياه يقولون: “الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ“(فاطر:٣٤)، ويقولون أيضًا: “الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ“(الزمر:74)، فلو كانت هناك كلمة أعم لنطقوا بها، لأنهم في مقام يقتضي التعبير بأبلغ الكلام، لكن القرآن الكريم، ذكر لهم في هذا المقام الجليل هذه الكلمة فقط، مما يدل على عظمتها عند الله؛ ويكفي من ثمارها أن قراءتها واجبة على العبد في كل صلاة، إذ لا تقبل الصلاة بدونها، والوجوب دليل على تعظيم الشارع لها، وفي الحديث عن أبي هريرة قال الله عز وجل: “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، وقال مرة: لعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم قال: مجدني عبدي، أو أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وقال مرة: ما سألني، فيسأله عبده: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال. هذا لعبدي، لك ما سألت، وقال مرة، ولعبدي ما سألني” فالله تعالى يحب عبده الحامد، الذي يصفه بالكمال مع محبته وتعظيمه؛ روى البخاري عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض،” يقول ابن حجر: “ومعنى ملء الميزان أن ذاكرها يمتلئ ميزانه ثوابا؛” فما أحلاها من كلمة جامعة، ومن آيات نافعة، أنعم الله بها على عباده، فجعل ثمارها لا تنفد، ومعينها لا ينضب، تروي ظمأ العبد الطامع في رحمة مولاه، المتدرج في مسالك العروج إلى الله، آية آية، بداية بالثناء والشكر، ومرورا بالاعتراف له سبحانه بالملك التام للكون، “مالك يوم الدين” هذا التعبير الجميل الذي يجعل العبد المظلوم في اطمئنان تام بأن حقه المغتصب منه سيرجع إليه قطعًا، لأن الذي يملك يوم الدين، الذي هو يوم الجزاء والحساب هو نفسه سبحانه المالك للدنيا، فهذه الآية إذا تؤملت تزرع في نفس العبد أملاً، فينطق بالعبودية المطلقة لمولاه، ويشعر بالحرية المطلقة من ربقة هواه، فيقول حينئذ: “إياك نعبد”، فيظفر بثمرة إثبات وحدانية الله، وهي ثمرة لا يعرف مذاقها إلا من حارب في نفسه هواها، فأخضعها لمن سواها فألهمها فجورها وتقواها، وفي قوله تعالى: “إياك نستعين” طلب الاستعانة من رب العالمين، في أمور الدنيا وأمور الدين، “لأن إعطاء الله عبده ذلك مع تمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته وافترض عليه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضل به عليه، ولطف منه لطف له فيه” فلو لم يطلب العبد الاستعانة لأصابته المشقة ولعجز عن الأداء، فمن رحمة الله بعبده أن علمه هذا الدعاء ثم استجابة منه.
وبعد إحساس العبد بالاستجابة، يهرع لطلب الهداية فيقول: “اهدنا الصراط المستقيم” أي “الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه” وهو الطريق السهل الذي أنعم الله به على عباده، الذين امتثلوا لأوامره، لقوله تعالى: “وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْرًا عَظِيْمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيْمًا وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ وَالصِّدِّيْقِيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِيْنَ}(النساء: 67). قال ابن عطية: “فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد” فلا هو طريق المغضوب عليهم ولا هو طريق الضالين، فهؤلاء وهؤلاء حادوا عن الصراط المستقيم، فألبسوا أنفسهم لباس العنت، وقيدوها بالهوى، فحرموا من قصد الاستقامة، وثمار القوامة، فخرجوا معا من عموم وصف الإنعام الذي وصف الله به من هم على طريق الاستقامة، فثبت إذًا “أن المنعَم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال ” وهو أصحاب المنهج الوسط من المسلمين. والحمد لله رب العالمين.