جهاز المناعي وإستراتيجياته الدفاعية

جهازنا المناعي مُكلف بضمان سلامة أجسامنا، ومجهز على أعلى مستوى للتعامل مع التهديدات على مستويات مختلفة. يمكننا اعتبار نظامنا المناعي -المزود بإستراتيجيات دفاع محكمة لمطاردة الأعداء المتسللين مثل الكائنات الحية الدقيقة والطفيليات التي تأتي من الخارج من أجل هدم هذا النظام الدقيق- بأنه وحدة دفاع إستراتيجية حربية، تكون تحركات الدفاع والهجوم فيه على قدر كبير من الأهمية، لأن هذه المعركة ليست معركة بسيطة تحدث لمرة واحدة، بل إنها تتضمن العمل الدائم على جمع المعلومات وتطوير الأسلحة وتدريب الجنود.. باختصار، يجب أن يطور الجنود دائمًا أنفسَهم حتى يظلوا نشيطين في هذه المعركة دون أن يُقضى عليهم.

الجهاز المناعي الفطري غير المتخصص

يمكن اعتبار آليات الدفاع العام للجسم، والتي تسمى “الجهاز المناعي الفطري غير المتخصص”، خط الدفاع الأول للجبهة، الذي يمنع قبل كل شيء البكتيريا أو مسببات الأمراض الأخرى (العناصر المُمرضة) من دخول الجسم. يأتي في المقدمة جلدنا الذي يشبه جدران القلعة، ومن بعده يأتي المخاط والدموع واللعاب والأحماض التي يمكننا اعتبارها الزيوت الساخنة التي تُلقى على العدو من القلعة ضمن خط الدفاع هذا. فإن نقاط الدخول الحساسة والمفتوحة على الدوام مثل الجهاز التنفسي، مغطى بطبقة مخاطية سميكة ولزجة تقبض على مسببات الأمراض ليتم طردها من خلال العطس أو السعال. أما النقاط الحساسة الأخرى مثل العينين، يتم غسلهما باستمرار بالدموع، حيث يتم إنتاج الدموع في الغدد الموجودة فوق العينين، وتتدفق إلى أسفل بالقرب من الأنف لتوفر بيئة معقمة.

أما مسببات الأمراض التي تتمكن من اختراق خط الدفاع الخارجي هذا، فيتم التصدي لها بآلية تسمى الالتهاب. والغرض الرئيسي من الالتهاب، هو منع مسببات الأمراض التي تخترق الجلد، من الوصول إلى الدم. يبدأ الالتهاب كاستجابة فورية للخلايا المناعية (الأجسام المضادة) في الأنسجة المصابة. يمكن اعتبار هذه الخلايا المناعية “خلايا دورية” وتوجد في جميع أنحاء الجسم وليس فقط في الدم. بمجرد أن تواجه هذه الخلايا مستضدًّا غريبًا (البصمة الجزيئية لخلية أو فيروس)، يُطلق إنذار بدء الالتهاب.

هذا الالتهاب الذي يسبب الألم في المنطقة المتورمة، هو في الواقع خط دفاع مهم في هذه المعركة. ويحدث الالتهاب في منطقة اختراق الكائن الدقيق وتكاثره، نتيجة زيادة تدفق الدم نحو هذه المنطقة المصابة، والتي يبدأ فيها الضرر وهجوم الخلايا الآكلة للجراثيم التي تسمى الخلايا البلعومية وتخثر الدم مكان الخرق الجلدي. يحدث تخثر الدم بشكل سريع نسبيًّا، لأن عوامل التخثر غير النشطة موجودة بالفعل وما تحتاج سوى سحب الزناد فقط لتبدأ عملها. يمنع تخثر الدم في هذه المنطقة الخروقات الأمنية، ويحول دون دخول المزيد من الميكروبات المسببة للأمراض إلى الجسم. تنطلق الخلايا البلعمية وهي خلايا مناعية كبيرة جدًا، إلى مكان حدوث هذا التخثر وتلتقم البكتيريا التي تصادفها. كما يساعد زيادة تدفق الدم نحو المنطقة المصابة، على تسهيل وتسريع عملية دخول وسائل الدعم، مثل البروتينات المضادة للبكتيريا، وخلايا الدم البيضاء الأخرى. ومن ثم يكون هذا هو سبب الاحمرار والتورم والانتفاخ في المنطقة المتضررة.

نظام المناعة التكيفي المتخصص

إذا فشلت كل آليات الدفاع هذه، وتمكنت مسببات الأمراض من دخول مجرى الدم، فلن يكون أمام الجسم خيار سوى استخدام أسلحة أكبر وأكثر فتكًا، ووضعها في المقدمة. هذا النظام، الذي يمكن أن نطلق عليه “نظام المناعة التكيفي المتخصص”، ويُفهم من اسمه أنه نظام فريد من نوعه؛ حيث إنه يرصد العدو ويتعرف عليه، ويضع إستراتيجية تتكيف مع نوع العدو. كل مُمْرِض، لديه نقاط قوة ونقاط ضعف، فبعض هذه الأجسام الممرضة مقاوم للبروتينات المضادة للبكتيريا، والبعض الآخر مقاوم للبلعمة (الخلايا البلعمية التي تأكل الأجسام الممرضة وهي حية). في المواجهة الأولى على الجبهة، يجرب الجهاز المناعي التكيفي طرقًا مختلفة لتدمير العامل الممرض، و”يسجل” أكثر الطرق فعالية. ثم يخزن المستضد المحدد الفعال ضد هذا الميكروب. وبذلك يكون جهاز المناعة التكيفي في المواجهة الثانية، “يعرف” بالفعل هذه المرة ما يجب القيام به، ويقضي على العامل الممرض على الفور. يمكننا أن نوضح بشكل أكبر نشاط هذا الجهاز المناعي الذي يعتبر صاحب أفضل الإستراتيجيات الدفاعية في العالم.

هناك العديد من أنواع الخلايا المتخصصة في جهاز المناعة التكيفي، التي تم تأهيلها لعمليات مختلفة، مثل قوات الكوماندوز تمامًا. كل واحدة منها لديها واجباتها ومهامها الخاصة. فـ”الخلايا التائية (T) السامة أو القاتلة” مسؤولة عن تفتيت وتدمير البكتيريا. وهي تتميز عن الخلايا البلعمة في طريقة نشاطها. على عكس البلاعم، لا تعمل الخلايا التائية (T) السامة للخلايا من تلقاء نفسها، بل تبدأ في عملية القضاء على الميكروبات الممرضة بعد تحفيزها بواسطة خلية أخرى تُعرف باسم “الخلية التائية المساعدة”. الهدف الرئيسي للخلايا التائية المساعدة، هو تحفيز الجهاز المناعي للرَدّ على الميكروبات المعادية أو قمع الاستجابة، مثل مفتاح التشغيل والإيقاف بالضبط. تتمتع هذه الخلايا التائية المساعدة بسلطة التحكم والقيادة، وبدون إفرازها، يكون الجهاز المناعي التكيفي معطلاً تمامًا، أي تتلاشى قوات الدفاع بالجسم ضد مسببات الأمراض.

تحتاج الخلايا التائية (T) السامة إلى تعريف نفسها بالخلايا الأخرى. وتتم عملية التعريف هذه بواسطة خلايا تقديم المستضد (APC’s). عندما تجد خلايا تقديم المستضد APC’s مستضدات أجنبية (بروتين أو جزء ينتمي إلى ميكروب) تركتها البكتيريا في الدم، فإنها تلتصق أولاً بأغشيتها، ثم تقوم بتسليمها إلى الخلايا التائية السامة، كما ترصد الشرطة المجرمين من ملصقات (مطلوب القبض عليه). من خلال ربط قطعة معرِّف الميكروب هذه بجسم الخلايا التائية السامة، تقوم أثناء الدوران في الدم بالتقاط الميكروبات التي تصادفها وتفحصها، وعندما ترى ملاءمة نوع المستضد مع العينة التي تحملها، فإنها تقتل تلك البكتيريا على الفور.

الاختلاف الثاني بين الخلايا البلعمية والخلايا التائية السامة، هو طريقة التخلص من العدو. على الرغم من أن الخلايا البلعمية تقتل البكتيريا عن طريق البلعمة، أي أكل البكتريا حية، إلا أنها تُدخل أنبوبًا رفيعًا أو بروتينًا على شكل أنبوب في غشاء البكتيريا، فتتدفق السوائل التي بداخل البكتيريا إلى خارجها، حتى تتقلص وتنكمش، إلى أن تجف وتموت.

بعد تعافي الجسم من المرض، يتم تدمير معظم المخلفات الجرثومية المنتشرة في الدم. ومع ذلك، يتم الاحتفاظ ببعض منها وتخزينها في الخلايا الليمفاوية البائية الذاكرة (B) بحيث يمكن استخدامها في المستقبل دون الحاجة إلى تكرار عملية التعرف عليها في هجوم جرثومي جديد. تشبه الخلايا البائية الذاكرة الأرشيف الخاصَّ بجهاز المناعة؛ لأنها طويلة العمر ومحفوظة في أعماق نخاع العظام. يتم الاحتفاظ بملف كل نوع من البكتيريا في هذه الخلايا، مزود بمعلومات كافية للتعرف والاكتشاف السريع عند حدوث هجوم جديد. فإذا ما واجه الجسم نفس النوع من البكتيريا مرة أخرى في المستقبل، فلن يضيِّع جهاز المناعة أي وقت في محاولة التعرف عليها. بعد التعرف السريع على الميكروب، تبدأ عملية الفحص دون أن يشعر بذلك، ويبدأ الجهاز المناعي في قتل الميكروبات دون إظهار أي أعراض للمرض. فإذا كان عدد الميكروبات منخفضًا، تنتهي العملية قبل أن نمرض؛ بينما إذا كان عدد الميكروبات أكثر مما تستطيع تحمله، فعندئذ تظهر على الإنسان أعراض المرض، وفي نفس الوقت يقوم الجهاز المناعي باستنفار جنود جدد من الوحدات الاحتياطية للانضمام إلى القتال في الدم. في الواقع، تشكل هذه الآلية المنطق الأساسي لصنع اللقاح؛ حيث يتم حقن أجزاء ميتة أو غير ضارة من الميكروبات في الجسم، ويتم تسجيل أجزاء الميكروبات الميتة المأخوذة مع اللقاح في أرشيف الخلايا البائية الذاكرة، فنواصل بذلك حياتنا بدون التعرض للمرض الذي يسببه هذا الميكروب.

خطط سرية ضد الجهاز المناعي

أثناء هذه المواجهات الطاحنة، تمتلك البكتيريا بعض الخطط والإستراتيجيات السرية ضد دفاعنا. فهي في النهاية أحياء أيضًا، وقد وهبها الخالق بعض القدرات الكامنة التي تزيد من أعدادها وتبقيها على قيد الحياة. إن السلاح الأعظم للبكتيريا في هذه العملية، هو قدرتها على تغيير مادتها الجينية دون التعرض لمشاكل خطيرة. في الواقع، إن تغيير المادة الجينية (DNA)، أي حدوث طفرة جينية، يمثل خطرًا كبيرًا للكائنات الحية مثلنا، من حيث التسبب في تغييرات وتشوهات هيكلية معيبة أو معطلة يمكن أن تسبب ضررًا بالغًا.

ونظرًا لأن البكتيريا كائنات وحيدة الخلية، فإن جميع أنظمتها موجودة داخل هذه الخلية المفردة. لذلك، فالاختلافات التي تسببها هذه التغييرات الجينية في هياكلها، قد تسمح لبعضها بامتلاك خصائص أقوى. على الرغم من أن كل البكتيريا عبارة عن خلية وحيدة مستقلة بشكل فردي، إلا أنها تستمد قوتها من اتحادها وارتباطها. على سبيل المثال؛ لنتخيل مجموعة من 100 نوع من البكتيريا، لكل منها جينات مختلفة: أثناء الإصابة، يحاول جهاز المناعة لدينا تدمير البكتيريا بتكتيك خاص (على سبيل المثال، الالتقام بالبلعمة)، إلا أنه إذا عملت إحدى هذه البكتريا على تغيير حمضها النووي واكتسبت جدارًا خلويًّا قويًّا وسميكًا، بهذه الطفرة الجينية الجديدة لحماية نفسها من تكتيكات نظام دفاعنا، فإن هذه البكتيريا تبقى على قيد الحياة بينما يتم تدمير 99 من البكتيريا الأخرى. عندها تنقسم هذه البكتيريا وتتكاثر بعد ذلك، حيث تخلق 100 بكتيريا جديدة بجدران خلوية سميكة مقاومة للبلعمة. في هذه الحالة، يضطر جهاز المناعة لدينا، إلى إيجاد إستراتيجيات جديدة، للتغلب على دفاعات هذه الأنواع الجديدة من البكتيريا القوية.

تتعقد وظيفة جهاز المناعة لدينا وتصبح أكثر صعوبة أمام هذه التحفيزات والاستفزازت التي من شأنها تقوية البكتيريا وجعلها أكثر مقاومة. بمجرد فهم هذه الآلية، بدأ تجنب الإفراط في استخدام الأدوية المضادة للبكتيريا؛ لأن المضادات الحيوية تعمل على توفير الراحة المؤقتة للمريض، في حين أنها في الوقت نفسه تتسبب عن غير قصد في زيادة مقاومة البكتيريا. لذلك يجب تشجيع أجسامنا على النيل من هذه البكتيريا بوسائل الدعم النافعة المختلفة، مثل التغذية الصحية، والفيتامينات التي تجعل نظام الإعفاء صحيًّا وقويًّا، ولا ينبغي استخدام المضادات الحيوية إلا في حالة استنفاذ جميع الحلول.

على الرغم من أن البكتيريا ماهرة في الطفرات الجينية، إلا أن هناك مجموعة أخرى من الأعداء أكثر خطورة ومهارة منها، ألا وهي الفيروسات.

الفيروسات كائنات دقيقة جدًّا، لدرجة أن البكتيريا بجانبها عمالقة ضخمة. ونظرًا لصغر حجمها، فقد وضعت دراسات لسنوات حول ماهيتها، أهي من الأحياء أو جسيمات جزيئية صغيرة غير حية.. إنها أكثر مهارة للطفرات الجينية من البكتيريا مما يجعلها أكثر خطورة، لأنها تحمل فقط القليل جدًّا من المواد الجينية بدون السيتوبلازم. إنها قادة على التحول بسرعة كبيرة لدرجة أنه لا تتاح الفرصة لأجسامنا لإنشاء ملف ذاكرة لها. والأهم من ذلك، أنها لا تحتاج إلى التحفيز أو الاستفزاز لتقوم بعملية التحول الجيني، لأن الطفرة جزء أساس من دورة حياتها.

هذا هو السبب في أن نقص المناعة (ضعف الجهاز المناعي) من أسوأ أنواع الأمراض. ترتبط العديد من أوجه القصور المناعي بالوراثة والفيروسات. ويعتبر الإيدز (AIDS) من أكثر أمراض نقص المناعة سمعة سيئة على الإطلاق. يرمز الإيدز إلى “متلازمة النقص المناعي المكتسب”، ويحدث نقص المناعة عند البشر بسبب فيروس نقص المناعة البشرية (HIV). السبب في أن هذا الفيروس سيء ومخيف للغاية، هو أنه يستهدف الخلايا التائية المساعدة التي تحفز جهاز المناعة على العمل. بدون إفراز الخلايا التائية المساعدة، يتم إغلاق الجهاز المناعي التكيفي بالكامل تقريبًا. بعد ذلك، حتى أبسط الأمراض، يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة.

نظام المناعة لدينا مثالي للغاية ومعقد، ولديه إستراتيجية رائعة. ونحن مجرد مشاهدين في هذه المعركة، بل إننا حتى كمشاهدين لا نفهم تمامًا المعركة التي تدور في ساحة الجبهة، ناهيك عن الصراع الدائر في الزوايا المظلمة من الجبهة. يقوم جهازنا المناعي بتطوير إستراتيجيات جديدة لحماية أجسامنا من آلاف الهجمات اليومية. ونحن لا نعرف شيئًا عن كل هذه الإستراتيجيات والدفاعات إلى أن تفشل ونمرض. في هذه المعركة التي تتطلب قدرة ثابتة على التكيف واليقظة ودفاعات صارمة، قد يخسر الناس ويموتون أحيانًا، وأحيانًا قد تخسر الميكروبات وينتصر الجهاز المناعي. 

(*) كاتب وباحث تركي. الترجمة عن التركية: خالد جمال عبد الناصر زغلول.