”كن جميلاً تر الكون جميلاً” عبارة ذات دلالات متعددة تجمع في طياتها جمال النفس، وجمال الباطن والظاهر، وجمال الكون. فهناك حاسة في باطن النفس تفطن للجمال وتحسه وتستجيب له؛ ولكي يشعر الإنسان بحقيقية الجمال، فلا بد أن يتوفر الجمال في ذاته وجوهره وفطرته. فالفطرة الجمالية إذا تركت على أصلها وجبلتها، فإنها ستشرق بنورها في جنبات الكون، ويفوح عطرها، فيستنشقه كل من يتعامل معها. وصاحب هذه الفطرة يصعد بروحه إلى عليين في ملكوت السماوات فيزداد قربًا من الطبائع الملائكية، غير أن هذه الفطرة الإنسانية الجميلة تختلف عن الطبيعة الملائكية في أنها تتفاعل كيميائيًّا مع مكونات الكون، فيراها الكون جميلة، وترى الكون جميلاً، وبذلك تتم الكيميائية الكونية في انسجام وترابط وتلاحم؛ وذلك لأن المكونات والجزيئات غير متنافرة، بل متوحدة ومتماسكة، فتسير الحياة في مسارها الجمالي في ظل نتاج هذا التعانق الجمالي بين الكون والإنسان، وتنزل السكينة على العالم كله، وتكون السعادة عنوانًا رئيسًا في حياتنا، فلا ترى عوجًا ولا أمْتًا.
إما إذا فسدت الفطرة وانحرفت واضطربت، فسوف يرتد صاحبها إلى أسفل سافلين، وساعتها يفقد كل عناصر الجمال في نفسه، وفي حياته وفي رؤيته وفكره، ويتلطخ بالطينية، ويفقد النفخة الروحية، فيشتم منه رائحة الكير التي تؤذي بقبحها كل من حولها.. ويرى صاحب هذه الفطرة المعوجة الكون من حوله بصورة مغايرة تنبع من القبح القابع فيه، فيحدث التنافر الكيميائي بين هذه الفطرة وبين كل الموجودات.. وبذلك تتنافر الكيمياء الجمالية بسبب تنافر وتباعد مكوناتها وعناصرها وجزئياتها. وإن هذا التنافر الحادث بين الجمال الذاتي للإنسان والكون من حوله، سببه الرئيس فقدان الجمال الفطري أو فساده بما كسبت الأيدي، أو بسبب اضطراب في الرؤية الجمالية ذاتها. فالبعض تنحصر رؤيته الجمالية في الماديات، والبعض الآخر يحصرها في الروحانيات، وكلاهما بعيد عن الصواب ولا يحققان المعادلة الكيميائية الصحيحة للجمال؛ وذلك بسبب فقدان أحد عناصر المعادلة التفاعلية بين جمال النفس، وجمال الكون، وغياب المفهوم الحقيقي للجمال. فنحن لا نستطيع أن نصل إلى مفهوم الجمال الحقيقي إلا من خلال رؤية شاملة للعالم (الكون والإنسان والحياة)، كما أننا لا نستطيع تذوق الجمال إلا من خلال الرؤية المزدوجة التي لا تنظر إلى الجمال من طرف واحد (الطرف الخفي)، ولا تعتمد على النظرة المادية في رؤيتها الجمالية، ولا على الرؤية الروحية وحدها، بل لا بد من الجمع بين الرؤية المادية والروحية، رؤية الجسد والروح، لأن الاقتصار في المفهوم الجمالي على الرؤية المادية، يؤدي إلى انعدام التوازن والانسجام في كل شيء، مما يحدث قصورًا ملموسًا في الحياة كلها. وبذلك يفقد الإنسان جوهر سعادته وسكينته بسبب غياب جانب الروح، ذلك الجانب الذي يرقى بالإنسان إيمانيًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا، ويستشعر النعيم والمتعة والجمال في كل لحظات حياته، حتى عند وقوع الاختبار والابتلاء، حيث يرى أن كل ما يصيبه في هذه الحياة بقدَر وحكمة من الله الجميل الذي يريد أن يرى جمال الرضا في قلب عبده. كما أن حصر مفهوم الجمالي على الرؤية الروحية فقط، يجعل الجمال حبيس المثاليات والمجردات بعيدًا عن الواقعية، فيصبح الإنسان منعزلاً حضاريًّا عن الكون الذي يعيش فيه، غارقًا في عالم افتراضي يكيفه كيف يشاء، وتتوقف عجلة الزمان بالنسبة له.. فالناس في تقدم ونهوض ورقي وهو هائم حول أحلامه وانسجاماته العاطفية الجرداء التي لا زرع فيها ولا ماء.
الاقتصار في المفهوم الجمالي على الرؤية المادية، يؤدي إلى انعدام التوازن والانسجام في كل شيء، مما يحدث قصورًا ملموسًا في الحياة كلها، وبذلك يفقد الإنسان جوهر سعادته وسكينته بسبب غياب جانب الروح.
يقول العالم الفيزيائي جان أ. شارون: “إن كل المادة تصبح حاملة للروح، وكل محاولة لإقامة تصور علمي حتى ولو كانت محاولة البيولوجيا إذا ما أقصت حقيقة الروح، فإنها تصبح ملفقة ولاغية؛ لأن الموقف العلمي الحالي يقوم على التمسك بأحسن نموذج تقدمه الفيزياء، وهو النموذج الذي يقرّ بوجود الروح في كل جزيء من جزيئات المادة”، وهذه الحقيقة العلمية، هي حقيقة وجدانية كذلك. فلقد “أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة، حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله، وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه، بالإلهام الذي فيه، ولكنها كانت تغيم عليه وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس. ولقد استطاع -أخيرًا- أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون، ولكنه لا يزال بعيدًا عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق”.
إن الجمع بين الرؤية المادية الحسية للجمال، والرؤية الروحية، بداية الانطلاق إلى إدراك الجمال الكلي المطلق، وبداية الانسجام مع الكون سمائه وأرضه هوائه ومائه ومع كل ذرة في الكون.. وبداية الانسجام مع الإنسان ككونه إنسانًا دون نظر لأي اعتبار آخر، والانسجام والرقي في الجانب الأخلاقي مع الكون.. وبذلك يكون الجمال بهذا المفهوم ليس إحساسًا باللذة الحسية الأرضية فحسب، وإنما هو إحساس صاعد نحو الأعلى مع النفخة الروحية التي منها بدأ.. فلا بد أن يتعامل الإنسان مع الجمال من خلال مكوناته جميعًا، عقلاً وروحًا وحسًا وجسدًا ووجدانًا.
(*) عضو في مجمع البحوث الإسلامية / مصر.