التكنولوجيا ضرورة أم ترف؟

تجــــــاوز استشــــــراف التكنولوجيــــــات المستقبلية اهتمام الدوائر التقنية العالمية إلى اهتمام جماهيري عالمي، لذلك دأبت الشركات التقنية والهيئات الاقتصادية والعلمية، على إصدار تقارير دورية؛ لرصد أهم المجالات التكنولوجية التي ستشهد انتشارًا متزايدًا وأهمية حياتية أوسع على المستوى الفردى والمجتمعي والعالمي. ومن أهم هذه التكنولوجيات سريعة النمو، التي وردت في تقارير استشرافية مختلفة:

المواد النانوية

تم تقدير سوق المواد النانوية بحوالي 20 مليار يورو في عام 2014. وعلى الرغم من عدم اليقين بشأن سميتها، فإنه يتم استغلالها لخواصها الكهربائية، والضوئية، والمغناطيسية الفريدة من نوعها، التي يمكن استخدامها على وجه الخصوص في تحسين عمليات التشخيص الطبي.

علم الأحياء الاصطناعية

يستند هذا المجال البحثي الجديد إلى مبادئ الهندسة الوراثية في معالجة الحمض النووي للكائنات والنباتات، بهدف تصميم وبناء أجزاء بيولوجية جديدة، وعمليات الاستنساخ، وإعادة هندسة النظم البيولوجية الطبيعية لأغراض مفيدة. وسيكون لعلم الأحياء الاصطناعية فوائد اجتماعية واقتصادية كبيرة في عدد من المجالات الهامّة؛ كالطاقة لتوفير وقود بتكلفة منخفضة نسبيًّا للنقل، والزراعة مثل تعديل النباتات وراثيًّا، وغير ذلك.

التقنيات العصبية (Neurotechnologies)

ستساعد التقنيات العصبية على فهم عمل الدماغ ومختلف جوانب الوعي والفكر وأنشطته العليا، وهي ثرية بتطبيقاتها، وواعدة لعلاجات جديدة. وستساعد -مثلاً- في تعديل العمليات العصبية لمعالجة بعض الأمراض العصبية، وابتكار واجهات تمكن الدماغ من التعامل مباشرة مع الآلات والتحكم فيها، أو في تطوير الروبوتات النانوية.

مجالات الصحة الرقمية

يوجد حاليًّا حوالي 100 ألف تطبيق صحي رقمي جوال؛ ملفات وأضابير مرضية افتراضية، ومراقبة ذكية للمصابين بالأمراض المزمنة، وجمع إحصاءات وبيانات بكميات كبيرة، من أجل التنبؤ بموجة “الرشح” أو إعداد سجل مرض السرطان. فبفضل ثورة التقنية الرقمية، باتت قطاعات الصحة “الإلكترونية” والصحة “الرقمية/الجوالة” من أكبر الأسواق نموًّا في العالم. وهناك “سوار اللياقة البدنية، المرتبط بتطبيقات الهاتف الذكي”، حيث يتم إخبار المرء بعدد الكيلومترات التي ركضها حتى الآن، وبسرعة دقات القلب، كما تخبره متى يُفتَرَض أن يستيقظ تجاوبًا مع الساعة/النظام البيولوجي لجسده. ومن الابتكارات؛ عدسات لاصقة تقيس معدل السكر في الدموع وترسل هذه القيم إلى الهاتف الذكي. وربما ستشعر قريبًا حساسات دقيقة مزروعة في الجسم بإصابة بعض الخلايا بالسرطان، وترسل هذه المعلومات مباشرة إلى الطبيب. وبينما يدور الجدل حول “أمن وسرية” بيانات المرضى الحساسة المُخَزّنة على البطاقة الصحية الإلكترونية الجديدة، قامت شركات ألمانية بتطوير تطبيق “ون لايف”، لمعالجة البيانات الصحية لمجموعة من الأطباء الاختصاصيين من مختلف التخصصات. وتجهز تطبيقًا للمريض يتواصل من خلاله مع الطبيب مباشرة باستخدام ما يشبه سكايب، بما في ذلك غرفة انتظار افتراضية.

التقنيات المتقدمة لتخزين الطاقة

ما زالت معضلة تخزين الطاقة تمثل عائقًا اليوم أمام توسيع استعمال الطاقات المتجددة والنظيفة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتعمل الكثير من الفرق البحثية في العالم على تطوير تقنيات جديدة تمكن من تصنيع بطاريات ذات سعة عالية لتخزين الطاقة، وهو ما سيؤدي إلى تحسين أداء نظم الطاقة، وتسهيل دمج مصادر الطاقة المتجددة الضرورية، لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي. وتلعب مصادر الطاقة البديلة دورًا هامًّا في عالم “البيت الذكي” الذي يعمل بالتقنية الرقمية تجهيزات كهروضوئية، ومضخات حرارة، وعدادات ذكية تترابط مع بعضها البعض، بحيث يصبح المنزل مركزًا صغيرًا للطاقة المُرشّدة. وهناك أجهزة حساسة متنوعة تحذر من محاولات السرقة وأخطار الحريق وأضرار الماء، وتخبر بها مركز الإنذار، كما يمكن أيضًا التعرف فيما إذا كان هناك باب أو نافذة مفتوحة.. وحتى فرن الطهي يمكن إطفاؤه عن بعد. فضلاً عن أن طلائع رجال/سيدات التنظيف الآلي (روبوتات) تعمل في المنازل منذ فترة طويلة.

الأقمار الصناعية الصغيرة

وهي أقمار يقل وزنها عن 500 كلغ، وتضم فئات مختلفة مثل الأقمار الميكروية (Microsatellites) (من 10 إلى 100 كلغ)، والأقمار النانوية (Nanosatellites) (من 1 إلى 10 كلغ)، والأقمار الفمتو (Femtosatellites) (أقل من 100 غرام). وتم إطلاق 158 قمرًا صناعيًّا صغيرًا في عام 2014، وسيتم بحلول عام 2020 إطلاق أكثر من 2000 قمر من هذه النوعية في جميع أنحاء العالم، لاستخدامات مدنية في خدمة البيئة (البحوث والمراقبة من اليابسة والمحيطات) والدفاع.

تحليلات البيانات الكبيرة (بيغ داتا)

سيكون لهذه التقنية آثار كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي من المستحيل تقييمها، ولكنها ستدفع أصحاب القرار إلى إيجاد توازن بين الحاجة إلى الانفتاح، والحماية ضد التهديدات الناجمة من الإفراط في وضع بيانات قد تشكل خطورة على الحياة الخصوصية للأفراد، أو الأمن، أو العدالة، أو النزاهة.

سلسلة الكتل (Block Chain)

هي تكنولوجيا قاعدة بيانات موزعة تعمل مثل سجل عام مفتوح مشترك وآمن، لا يستطيع أحد تزويره ويمكن لأي شخص تفقده. ويمكن لهذه التقنية خفض التكاليف المرتبطة بالمعاملات المالية العابرة للحدود بعشرين مليار دولار في جميع أنحاء العالم عبر تغيير البنية التحتية المصرفية. كما يمكن تطبيقها في الصناعة لتتبع المنتجات، وفي الاقتصاد التعاوني لتأمين المعاملات، بما في ذلك المبادلات التي ستتم اعتمادًا على الأشياء المتصلة بالإنترنت.

الطباعة ثلاثية الأبعاد

هي تقنية الإضافة التدريجية للمواد بهدف تشكيل المنتج، وهي عملية غير مسبوقة في التصنيع، وتعتمد على نماذج تجارية جديدة، وستحدث في المستقبل تغييرات كبيرة في الصناعات القائمة. وستمثل هذه التكنولوجيا قاطرة للابتكار والتجديد في الهندسة الميكانيكية، والسيارات، وصناعة الدفاع، والفضاء، وكذلك في مجالات الصحة، والأدوية، والتكنولوجيا الحيوية.

المدن الذكية

بدأت في تبني الرقمنة، فقامت “برشلونه” بتركيب أجهزة استشعار في المواقف الأرضية. وقامت بإطلاق نقل عام مترابط كجزء من إستراتيجيتها لمدينة ذكية. وقامت مدينة “نيس” بإنشاء “جادة مترابطة” وهي عبارة عن شارع عريض تكتنفه الأشجار ويضم إضاءة ذكية ومراقبة بيئية. ولدى ميناء “هامبورج” نظام رقمي لترشيد المياه، والسكك الحديدية، والحد من الازدحام المروري.

تقنيات النقل

سينتهي ازدحام الطرق، وتختفي الكثير من الإشارات الضوئية الحمراء مع قيادة أكثر أمانًا. ففي “القيادة التشابكية” تتبادل السيارات المعلومات عن سرعتها وموقعها، وتحذر بعضها البعض في حال وجود اختناقات مرورية. وتتطور أجهزة الحفاظ على خط المسير ومساعدات المكابح. وتم تطوير كاميرا يمكنها التعرف على الأطفال ومستخدمي الكرسي المتحرك وتقوم بإنذار السائقين. وثمة أنظمة تتواصل مع البنية التحتية، مع إشارات المرور الضوئية على سبيل المثال. وسيتم نقل البيانات على طرق يصل طولها نحو 1300 كلم، وبجودة عالية. إنها “قيادة تلقائية”، حيث يركب السائق سيارته ويسترخي، ويلتفت إلى الأمور الهامة فقط، بينما تقوم السيارة ببقية العمل. فلقد قدمت شركة “غوغل” للمرة الأولى عام 2014 “سيارة ذاتية التحكم، تقود نفسها بنفسها”.

ضرورة أم ترف؟

عديدة هي الجوانب التي تغيرت وستتغير بحياتنا تغيرًّا جذريًّا نتيجة “الثورة الرقمية”، والروبوتات متعددة الاستخدامات (الصناعية، والزراعية، والطبية، والجراحية)، وتطبيقات الهواتف الذكية ..إلخ. لذا لم تعد الحياة كما كانت منذ سنوات قريبة، وفي جُعبة المستقبل القريب تطورات أكثر إبهارًا في “حياتنا الرقمية”. لقد اختفت الجريدة اليومية (الورقية) كمعلم صباحي أساس، وأصبحت أخبار الصباح، وتبادلها مع الأصدقاء، مع غيرها من معلومات، عبر الهاتف الذكي فوريًّا (أون لاين). فكل صباح يتشارك ملايين عبر العالم في وسائل التواصل الاجتماعي التي تجاوزت دائرة الأصدقاء والمعارف إلى دوائر أرحب. ومع كل الانفتاح يتزايد الطلب على مزيد من الأمان والخصوصية للاتصالات. وتعقد الآمال على “المُخَدّم الشخصي”، حيث تكون البيانات الشخصية على مُخدّم صغير خاص. ويتم نقل المعلومات والبيانات بأشد درجات الحرص والتشفير.

وفي المنزل، تبدأ الغسالة بالعمل تلقائيًّا، ثم تنطلق المكيفات/التدفئة المركزية، ويمكن التحكم بدرجات حرارتها عبر تطبيقات الهاتف الذكي، لتهيء لسكان المنزل دخول بيت مريح. كما يلقي المرء عبر الهاتف الذكي، نظرة افتراضية على المطبخ، ويرى ما هي المواد الغذائية التي يتوجب عليه شراؤها خلال تسوقه.

لقد غيرت التقنية الرقمية طريقة الوصول إلى المعارف والعلوم؛ فعبر نقرات يمكن البحث عن كل شيء تقريبًا. ولقد بات ممكنًا فك رموز خريطة المورثات الجينية، ومعادلات معقدة في مجالات أبحاث المناخ والفيزياء والكيمياء. كما تستفيد الدراسات المقارنة في عالم اللغات والأدب، من التقنيات الرقمية بمختلف أنواعها وأدواتها، لتسفر عن علوم إنسانية رقمية. وحتى علوم التاريخ والآثار، انفتحت لها طرق وإمكانات رقمية جديدة؛ إنها معرفة في متناول الجميع.. سيل منهمر من النشر الإلكتروني، وكتب ومكتبات، ومتاحف لا تعرف أوقات عمل وأوقات راحة.. متعة ثقافية رقمية، وجولات مستمرة في أي وقت، حيث كل ما يحتاجه الزائر هو رمز الدخول فقط. وفي مجالات ثقافية أخرى تتغير طريقة المشاهدة والمشاركة، فيتم مشاهدة حفلات الأوبرا، وعروض السينما والمسرح أون لاين.

في مجال الأعمال والتجارة

سيتكون محرك الاقتصاد العالمي الجديد، من صناعات (الإنفوميديا)، وهي الحوسبة والاتصالات والإلكترونيات الاستهلاكية. وهي أكبر الصناعات العالمية الآن وأكثرها نموًّا، حيث يبلغ رأس مالها أكثر من 3 تريليونات دولار. كما يتزايد نمو القطاع التجاري الإلكتروني بمعدل يتراوح بين 10-13% شهريًّا. وتشكل مجموعة من المشروعات والمؤسسات التجارية، القوى الكبرى المستخدمة للإنترنت، وتوجد القوى التجارية المستخدمة للإنترنت في مجال عريض من الصناعات المرتبطة بالحاسب الآلي، وشركات النفط وشركات المستحضرات الطبية والصيدلية، والصناعات المرتبطة بالرعاية الصحية، والخدمات المالية والبنوك.. إن عمالقة الصناعة ليسوا وحدهم المستخدمين للإنترنت، بل يستخدمها كذلك العديد من الشركات الصغيرة والمستثمرين الأفراد، مقابل تكلفة يسيرة من خلال موزعين تجاريين.

ونقد الإكتروني لأسواق رقمية، حيث توجد العديد من أشكال النقود الرقمية؛ البيتكوين وأخواتها، ونظم المديونية وبطاقات الائتمان الإلكترونية وغيرها من البطاقات الذكية. وتتيح برامج الحاسوب دفع الفواتير إلكترونيًّا.

الخلاصة

تنسج التكنولوجيات الحديثة خيوطها بوتيرة سريعة، في كل جزء من أجزاء حياتنا، وتتوغل في كل شبر من كياننا، لتصنع أجيالاً وعقولاً جديدة، وزيادة كبيرة في الإنتاجية، وتحولات شاملة عميقة وجذرية. وهي لا تغيّر قطاعات محدَّدة فحسب، بل تغيّر طريقة حياتنا وأنماط تفكيرنا وطرق تعاملاتنا.. ورغم أنها قد تقضي على فرص عمل، لكن يبدو أن لا مناص من صيرورتها للأمام حتى لو تم أتمتة أجزاء كبيرة من العمل الفكري البشري، بعد تفوقها في أعماله اليدوية. 

(*) كاتب وأكاديمي مصري.