التجليات الثقافية والإثنوغرافية في راوية صابون تازة

راهنت الرواية المعاصرة على أبعاد دلالية جديدة، تتجاوز الحدود الواقعية التي رسمتها التجربة الروائية لنجيب محفوظ، لتمتد إلى تجارب جديدة تستقي مادتها من وجود الإنسان وكينونته وتحاول الإجابة عن أسئلته الجديدة التي يطرحها في محاولته لفهم هذا العالم المتقلب والمتغير من حوله، ولعل من أبرز هذه الأسئلة سؤال الهوية المرتبط بالفضاء الوجودي للإنسان.

وإذا كان جل الروائيين قد ارتبط الفضاء الروائي بأحداثه وبُناه السردية عندهم بالمدينة، باعتبارها رهان التحديث والخروج من الأزمة العارمة التي ألقت بظلالها على العالم العربي الموسوم بالتقليد والجمود، والذي لم يستطع بعد ركوب الحداثة، فإن إبراهيم الحجري في تجربته الروائية يراهن على القرية كفضاء تخيلي للخروج من ضجيج الحضارة المزعوم، والذي لم يخلف في الواقع سوى الدمار باسم التحديث والتقنية، ومن أجل التعريف بعالم القرية وثقافتها الشفهية والفولكلورية وكونها تمثل الأصل، والمنبت، وكونها رهانًا أيضًا من أجل عالم بدون ضجيج.

تقف هذه الدراسة على روايته الأولى صابون تازة (1) الصادرة في طبعتها الثانية عن “روافد للنشر والتوزيع” سنة 2015، والتي تشكل لبنة أساسية في التجربة الروائية المغربية المعاصرة، من حيث كونها محاولة تجديدية تكسر النمط الروائي التقليدي على مستوى الرؤيا والمتخيل، وعلى مستوى الشعرية أيضًا، وتبئر على قيم جديدة، انبنت أساسًا على الثقافي بمفهومه العام، والفلكلوري الشعبي القروي بشكل خاص.

نسعى إلى دراسة هذه الرواية من زاويتها الإثنولوجية والأنثروبولوجية، التي يبدو أن الرواية جاءت غنية بها، من خلال اعتماد الشخصية والمكان والكلمة الحوارية، فتعود بنا الدراسة إلى المتخيل الروائي في الرواية المغاربية المكتوبة بالفرنسية التي حلقت في سماء الغرب مع الطاهر بن جلون والشرايبي وكيليطو والصفريوي، ناقلة القيم الإثنوغرافية المغربية، بلغة أخرى فرنسية اجتثت معها في الأصل هذه القيم، من خلال الأسلوب الذي شبهه عبد الفتاح كيليطو بلسان الحية la langue fourchue، والذي لن يستطيع الحفاظ على أمانة المنقول في أصله، فانتقلت القيم الإثنوغرافية المغربية إلى العالم الغربي في الرواية المكتوبة بالفرنسية بشكل غير أمين، في غالب الأحيان، وهذا ما تسعى الرواية المغربية العربية ذات الاتجاه الإثنوغرافي إلى تجاوزه، لكونها موجهة أساسا إلى متلق مغربي مثخن بتاريخه وثقافته وتراثه.

صابون تازة الرواية الحابلة بالقيم الإثنولوجية والثقافية تسائل المفهوم الباختيني الحواري، من خلال دراسته لرابليه (Rabelais) ووقوفه أساسًا على أهمية الكرنفال في الثقافة الغربية في العصور الوسطى، باعتباره أداة تعبيرية تمثل “حدثًا شعبيًّا موجها ضد الثقافة الرسمية” (2)، ليقف على كونه تمهيدًا للبوليفونية التي ستتأسس في الرواية الغربية مع دوستويفسكي، حيث إنها (صابون تازة) حافظت على حواريتها عبر مبدأ التعدد الصوتي والتنوع الإيديولوجي والاحتفال بالروح الكرنفالية.

صابون تازة رواية تقع في 183 صفحة من الحجم المتوسط، جاءت لتوصيف الواقع المغربي وأدرانه التي لا يستطيع أن يغسلها صابون تازة، كأرقى وسيلة تنظيف في المتخيل الشعبي، ومن ثم البعد السيميائي الدلالي للعنوان الذي جاء مركبًا إضافيًّا، حابلاً بالثقافة، بما يشير إليه من صعوبة أو استحالة تطهير المجتمع والواقع من الأوساخ التي لطخته، وهي أوساخ معنوية ترسبت عبر الزمن من خلال التناقضات والصراعات والمفارقات الاجتماعية التي تخص هذا الواقع.

فالواقع المغربي الذي يتشيد عبر طقوس ضاربة في التعقيد، لن يكفيه صابون تازة لغسله، وهذا ما راهنت عليه الرواية من خلال متن مغرق في الدلالة، تشيد عبر حكاية قصها الوالد على الابن ربيع، حول فضاء قروي مثلته كطرينة، سيدفع أهاليه بفعل المرض والأوبئة إلى مغادرته نحو المدينة، حيث سيصطدم البطل بشخوص متعددة ويتعرف عبر الذاكرة وعبر محاورة شخوص تنتمي إلى عوالم مختلفة، خبايا هذا الواقع الضارب في المتناقضات بين قيم إيجابية وأخرى سلبية.

البعد الدلالي والتقاط مفارقات الواقع الاجتماعي

تتنوع المحكيات في الرواية بدءًا من أصل الحكاية حيث مهد الأب للحكاية قبل وفاته في المقطع الأول، لتتطور الحكاية عبر محكيات متعددة نوعت التشكيل السردي للرواية، من خلال وقائع متعددة ومتفرقة، تشير، عبر الاسترجاع، إلى ظروف انتقال الوالد إلى المدينة بعد أن أصاب قريته الوباء والمرض، وتفضح الفساد من خلال الأخ “المثقف” الملقب بالبلاستيكي، والمتشبه بالنساء، لتفضح من خلاله انتشار أمراض اجتماعية شاذة، كما تفضح الفساد السياسي، ومشكل البطالة من خلال البطل، وما يتعرض إليه المعطلون من حملة الشواهد العليا من إهانة وإقصاء اجتماعي.

ويعود الحكي مبئرًا على مشكل الأخ الذي لقبه “إيروتيكا الوحش” في توصيف مظاهر الشذوذ، والمشاكل الجنسية، قبل أن يعود السارد باحثا عن قريته كطرينة، والتي سيصلها عبر شخوص أثاروا الدهشة لدى السارد الذي سيتحول إلى مروي له، منبهر بأحداث درامية من قبيل الفقيه الذي كان يصطاد النساء، ومن المدنس إلى المقدس، تحاكي الرواية طقوس الزاوية وحكم المجاذيب والمتخيل المنقبي عبر ذاكرة عبد الرحمان المجذوب، ويتحدث عن الزاوية وذكريات التبرك بها، والبحث عن الكنوز، والشريف الذي سينتهي به الأمر في قبضة رجال الدرك.

كما تصف كيف سيصل الشواذ إلى السلطة، عبر جمعيات، دعمتهم وجعلت شذوذهم قضية وطنية قابلة للدفاع عنها في المحافل الوطنية، ويتوارى السرد، بعد موت الراوي عباس، خلف شخصيات عبرت عن البؤس الاجتماعي بالقرية من خلال المصطفى السوصوليكس البئيس العاق والمجنون، والعماري، وكرط بلكدية، وعيوش الخادم، وبزط ومسيعيد الكوديار، والطرخوي، وولد الشرقاوي الذي عرف بنكده ونحسه ومرضه، وشويطح الذي عاش قويا ومات ذليلا، ومعاناة المرأة القروية كتلك التي اتهمها زوجها بالحمل سفاحا فتناولت السم وماتت

وتنتهي الرواية بفصل “فوضى” في دلالة معبرة عن فوضى العالم التي تبدأ بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال المذياع، وخطر تسونامي الذي يهدد العالم، وفوضى كطرينة، قبل أن ينتبه السارد المركزي من نومه، وأحلام كطرينة تضعضع رأسه.

تجدد البنية، تجدد الرؤيا:

راهنت صابون تازة على رؤيا جديدة من خلال التوجه نحو الثقافي والإثنوغرافي والعودة إلى الكرنفالية، والتبئير على الفضاء القروي بقيمه المتنوعة الجامعة بين السلبي والإيجابي، ومن ثم استلهمت الحوارية الباختينية في جانبها الثقافي والإيديولوجي الذي يعمد إلى تجريب رؤيا تقوم على الحوارية.

ويتجسد التجديد الأسلوبي من خلال بناء الحكاية التي توزعت عبر قصص متنوعة، جعلت لكل شخصية قصتها إلى جانب القصة الإطار، فالمحاولة التجديدية تتمثل في قيام الرواية على تنوع السرود وتعدد الرواة، وفي تماهي الرواية مع الحكاية الشعبية القديمة، متقمصة شخوصا تلعب أدوارها وفق منطق التناوب، فضلا عن الشعرية التي تعتمد على تلاقح الأجناس والاشتغال على التناص، واعتماد التهجين والأسلبة، مما قرب لغة الرواية من واقع المحكي.

التراث الشفهي والكرنفالية

يعتبر التراث الشفهي مكونًا أساسيًّا في الثقافة المغربية، وقد سلطت الرواية الضوء على الحكاية بمفهومها التقليدي من خلال رواة عبروا بلغة الحاكي التقليدي، عن الواقع” كنا يا ولدي نرعى الغنم على شط وادي أم الربيع قرب السد، بينما كانت الشياه تنهمك في ملء محصلاتها من العشب الأخضر(ص. 39).

كما تسترفد من التراث الغنائي الشعبي “أشعل المختار الحاكي، الفنان الشعبي الستاتي عبد العزيز يصدح بأغنية “وراه كاينة ظروف: حكمة عليها الظروف(ص. 93)، وتستحضر المجاذيب مثل مولاي عبد الله أمغار وسيدي مسعود بن حسين وعبد الرحمان المجذوب.

وتصف الرواية المتخيل الشعبي الذي يجمع بين الأسطوري والواقعي، كما جاء على لسان الحاج الساقي: “كان ذلك، منذ زمن بعيد، يا ولدي (…) كان الاستعمار، وكان شيخ الرمى، وكانت الكرامات وكانت أشياء أخرى مثل عيشة قنديشة وبوعو وخوخو” (ص. 63)، في توصيف المعتقد الأسطوري بمعناه السلبي.

الشخصية الكرنفالية بين الجنون والأسطورة

تتنوع الكرنفالية في شكل طقوس صورتها شخوص الرواية التي تحيل على ثقافة متنوعة يطغى عليها الأسطوري والجنون مثل مبارك الملقب بـ”الطار وعلا” والذي يتميز بسرعته الفتاكة، والمصطفى السوصوليكس الملقب بالنمر الآدمي والعاق “المسخوط”، حيث كان يهاجم “والديه بمذراة أو بمدية مهددًا إياهم بالقتل” (ص. 111) والذي انتهى به الأمر إلى ضريحي بويا عمر ومارستان برشيد.

ومثل “الرداد” الذي كان مصدر تطير عند الناس يتبرأون منه كلما رأوه، و”عيوش الخادم” التي تأتيها القطط والكلاب من كل حدب وصوب، و”لحسن بيخا” الذي كان يشرب الماء المغلي ويأكل الثعابين، وكلها شخصيات وسمت بالجنون، وبعضها الآخر ادعى الجنون ليبعد عنه أذى الآخرين.

وقد فطنت الرواية إلى حياة المجانين، لاستجلاء الواقع المزري للشخصية القروية المنسية في فضاء القرية القاسي، حيث لم يكن الجنون سوى نتيجة للإقصاء الاجتماعي، كما أنها اهتمت بالجنون في بعده الإيجابي، بالنظرة نفسها التي اتخذها سقراط في المصاب بالجنون أو الهذيان، حين قال لفيدر “إن الهذيان، عندما يكون ممنوحا لنا كعطية إلهية، يمثل مصدر الخيرات الأعظم(3)”

في العادات والتقاليد القروية

تقف الرواية على حياة القرية واصفة عاداتها وتقاليدها واحتفالاتها، وتفضح بعض القيم السلبية، عبر الرفض والنقد الذي يضمره سارد متذمر من التحولات الاجتماعية، كما تجسدت عند أخ السارد الذي لم تعد فيه روح “رجولية”، كما تفضح بعض مظاهر الفساد في القرية، وما كان ما يشوبها من مرض وأوبئة وبؤس مرده إلى اندحار القيم.

ومن العادات السلبية ما يتعلق بطقوس السحر واستخراج الكنوز، وسلوك الفقهاء الذين يستغلون صورتهم الاجتماعية لاستغلال النساء في القرية، والطقوس الصوفية التي تحولت مع الجهل إلى نوع من الشطحات والإيهامات يقوم بها أميون يسعون إلى الكسب واستغلال سذاجة الآخرين.

صدام المقدس والمدنس

في صابون تازة يقيم الثقافي والإثنوغرافي بنيته على الصراع بين المقدس والمدنس وتجاذب القيم الإيجابية والسلبية، فيتحول الأمي إلى شريف: “حكى لي الفقيه المختار أن بالقرب من القرية يوجد شريف(…) ابتدأ حياته كصانع خزف، قبل أن يتحول في لحظة غضب شديد إلى شريف يعرف خبايا الجن ويحكمه بل يعين للناس طبيعة المرض والوصفات اللائقة” (ص. 75)، ويتحول فقيه المسجد الذي يعلم الصبيان إلى مفسد وفاسق “ضحك سي المختار وهو يحكي لي دون تحفظ، وتلقائية عن تجربته العاطفية، بالرغم من الحصار المضروب عليه، قال لي بكون النساء هنا، هن من يستدرجنني، مع أنني أتحفظ من فضائحهن ومكائدهن)(ص. 49)، ويكفر عن معصيته عندما “يفرغ عليه سطلاً من الماء، ويصلي صلاة يسميها ركعات الاستغفار من ذنب الزنا(ص. 178)

وهكذا يعبر التناقض بين المقدس والمدنس عن صراع القيم في القرية الي تمثلها كطرينة، والتي حولها البؤس والفقر إلى فضاء لاستشراء القيم الدنيئة التي تتحول مع الزمن إلى شكل من الجنون: “إن كثيرًا من هؤلاء المجانين الذين يرمونهم في مزابل المارستانات ومحجات الحمقى، قد يكونون من أنجب أبناء هذا الوطن، ومن أحسن خدامه”(ص, 28).

وهكذا يمكن القول إن رواية صابون تازة نموذج الرواية الجديدة التي بنت تجربتها على رؤيا، تتجه نحو الاهتمام بالإنسان المهمش في المجتمع المغربي من خلال اقتفاء حياة المشردين والفقراء والمقصيين والمجانين الذين همشهم الأدب بدوره، مع أنهم يشكلون جزءا هاما من المجتمع.

وقد استطاع الروائي أن يتخلص من مركزية السارد، عبر ترك السرد لرواة متعددين خلقوا نوعًا من التعدد في المحكيات مما جعل الرواية روايات، وأسهموا في خلق نوع من الحوارية والتعدد الصوتي، مما سمح بتلاقح أفكار ورؤى متعددة بنت الرؤيا الأساس للرواية والمتمثلة في التعريف بقيم البادية المغربية، والاهتمام بالإنسان القروي وما يتعلق به من قيم إيجابية أو سلبية.

هوامش:

  1. صابون تازة، إبراهيم الحجري، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية، 2015
  2. بيير زيما، النقد الاجتماعي، علم اجتماع النص الأدبي، ترجمة عايدة لطفي، مراجعة أمينة رشيد وسيد بحراوي، دار الفكر للدراسات، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991، ص. 157.
  3. كلود كيتيل، تاريخ الجنون، من العصور القديمة وحتى يومنا هذا، ترجمة سارة رجائي يوسف وكريستينا سمير فكري، مراجعة داليا محمد السيد الطوخي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015، ص. 28.