في خضم الصراع من أجل إثبات الذات، وفي معترك المواجهة الفكرية المفتوحة بين مختلف تيارات الفكر الإنساني المعاصر، وفي قلب الأحداث المؤطرة لسياقات الزمن، يرتفع صوت شجي ينادي بأعلى قوته إلى إعادة تشكيل العقل الإسلامي على أسس جديدة، ومنظور جديد، ووفق منهاج جديد؛ من أجل انبعاث الموروث الحضاري الإسلامي، ومعانقة الواقع المعاصر بكل أعبائه وأثقاله، بروح إسلامية متجددة قادرة على الحوار والتواصل واستيعاب الآخر، والتأثير فيه والتفاعل معه دون إقصاء أو إلغاء. إن هذا الصوت هو صوت الأستاذ المفكر والمربي، الرائد والمرجع، الرجل الأمة المتحرق لتأسيس الذات الإسلامية؛ الأستاذ محمد فتح الله كولن.

إن الأستاذ فتح الله كولن ليس مجرد مفكر، بل هو مرجع فكري نهضوي جمع بين الحركة والتأصيل. إنه صاحب مشروع وبرنامج عمل؛ من أجل بناء الشخصية المسلمة على أسس جديدة، ووفق رؤية ومنظومة فكرية وحركية متكاملة، قوامها الانطلاق من الذات والانفتاح على الآخر دون مركبات نقص أو إسقاطات.. ولذلك فإن كتابه “ونحن نبني حضارتنا”، إذا تأملنا في مضامينه وحلّلنا أبعاده، نجد أنفسنا أمام سؤالين، الأول: ما هي عناصر الأطروحة التي يؤسس لها الأستاذ فتح الله كولن من خلال مؤلفه “ونحن نبني حضارتنا”؟ والثاني: ما هي مضامين الرسالة التي يسعى إلى تبليغها من خلال هذا الكتاب؟

ومن أجل الإجابة على هذين السؤالين، لا بد من التذكير بمعطيين منهجيين اثنين، الأول: أن المتأمل في مضامين هذا الكتاب، وفي بنائه المفاهيمي، يحيلنا على كثير من الآراء والأفكار الواردة في محاضراته وتنظيراته المنبثة في ثنايا مؤلفات أخرى، ونخص بالذكر منها مؤلفه “طرق الإرشاد في الفكر والحياة”، و”الموازين أو أضواء على الطريق” أو “ونحن نقيم صرح الروح”. وأما المعطى الثاني: أن الخيط الناظم لهذه المنظومة الفكرية التي أصل لها الأستاذ كولن، يكمن في استحضار البعد الروحي أو الروحاني في كل الأطروحات الفكرية التي يؤسس لها.

إن هذا البعد ذا الدلالة القلبية والإيمانية الخالصة عند الأستاذ فتح الله كولن، ليس مقتصرًا على تنظيراته الفكرية، وإنما نجد له امتدادًا في مشروع الخدمة الإيمانية التي تمثل جزءًا هامًّا من التجسيد الفعلي لدعوته وإرشاداته ومواعظه ومناشداته ومشروعه.

يقول كولن في سياق من سياقات الكتاب، وهو أول سياق دعوي ينتقل فيه من لغة التحليل والنقد والتشخيص والتوصيف إلى لغة الدعوة والفعل: “والأمر الوحيد الذي ينبغي أن نعمله اليوم، هو أن نهرع إلى أخذ موقعنا في التوازن الدولي، بالشعور الجاد بالمسؤولية، وبهويتنا الذاتية ومن غير هدر للزمن. فإن تلكأنا في تعيين هذا الهدف، فقد نعجز عن إدراك الغد، بله التقدم والتطور. فنحن اليوم أمام أحد خيارين؛ إما الكفاح المصيري في الهمة والذي يؤدي بنا إلى “الانبعاث”، وإما الخلود إلى الراحة والاسترخاء الذي يعني الاستسلام للموت الأبدي”.

إن هذا الخطاب الذي يؤصل له انطلاقًا من المرجعية القرآنية واستقراء علوم العصر، هو خطاب مفصلي يجعل الإنسان المسلم اليوم في مفترق طرق بين خيارين لا ثالث لهما؛ إما النهوض أو السقوط، إما الحياة أو الموت. ومن أجل الحياة يجعل الأستاذ كولن لغة خطابه لغة المستقبل، ولغة التفاعل بين حقائق الإيمان وحقائق العصر، بين البعد العقدي/الروحي والبعد العقلي المعرفي، إنه يعتبر “أن من إحدى الأمور في بناء الجيل الحاضر، هو تيسير تنقلهم بين عوالمهم الداخلية وحقائق الوجود، بتحفيز عزم التفكر المنظم لديهم، وتحبيب الإيمان والتعلم والتمحيص والتفكير إليهم، بتدريبهم على مطالعة الآفاق والأنفس ككتاب مفتوح”.

ولعل عنصرًا من عناصر أطروحة الأستاذ فتح الله كولن التي يسجلها هذا الكتاب، تكمن في تلك الحقيقة التي اعتبرها حقيقة فريدة تتلقاها روح الإنسان من ثلاثة منابع أساسية، هي الإيمان، والمعرفة، وتعلق القلب بالله وهي آية المحبة.

وهنا نقف عند أصل من أهم أصول ثقافة كولن، ومرجعية من أهم مرجعياته، ألا وهي المرجعية الصوفية الرقيقة ذات البعد التربوي والنفسي والعرفاني؛ إذ نجده يقول: “إن معاني الإيمان والمعرفة والمحبة توحد بين الإنسان والكون”، وهي خلاصة تتضمن معاني غزيرة ودلالات عميقة، تترجم رؤية فلسفية لعلاقة الإنسان بالكون، تنهل من أصول إيمانية محددة.

أما العنصر الآخر من عناصر هذه الأطروحة، فيكمن في جعل البناء الحضاري المنشود -إلى جانب البعد الروحي- قائمًا على مفهوم الإحياء والانبعاث؛ إنه إحياء للأمة وانبعاث جديد لها. وتلك عناصر تذكرنا بالفكر النهضوي المؤسس للفكر الإسلامي في مستهل القرن العشرين، والذي ظلت أسئلته وأطروحاته مستمرة الحضور في عقل وقلب كل مفكر مسلم تحت ضغط الواقع وإكراهاته. ومن هؤلاء، الأستاذ فتح الله كولن الذي يجعل تحديد إطار فهم الحضارة المنشودة، وإعادة النظر في كنهها، والوقوف عند معنى ومحتوى ماضينا، وفوضوية الواقع الحالي وما يتحلى به من غموض، وتحديد المعالجات المتصورة للغد المستقبل.. يجعل من هذه المقدمات منطلقًا منهجيًّا أساسيًّا لمشروع البناء الحضاري الذي يدعو له ويدافع من أجله. وهو من هذا المنطلق يعتبر أن أساس البناء الحضاري يكمن في ثلاثة مفاتيح رئيسة:

1- إعادة بناء الذات من جديد، وشرطه “أن نتخلص من احتلال المفاهيم والأفكار الغريبة في داخلنا، المبرمجة على تخريب جذور الروح والمعنى فينا، وأن نتبع -بالضرورة- سبيلاً يمكّننا من العمل على طبع فكرنا الذاتي، ونظامنا الاعتقادي الذاتي، وفلسفتنا الذاتية في الحياة على نسيجنا الحضاري الخاص”. إنها دعوة الأصول.

2- تكوين الإنسان المؤهل، وهو في هذا السياق يعتبر أن المسلك الذي نسلكه اليوم خاطئًا؛ لأنه يقوم على استكشاف الطرق السهلة والرخيصة، للحصول على نعم الحضارة ووسائل تقاسمها، في حين أن الشعوب التي تقدمت إنما تبني كل شيء على الإنسان والأخلاق والتعليم والثقافة.

واستنادًا إلى مقاربة علمية شمولية تتوسل بالأنثربولوجيا والتاريخ القديم والجغرافية وتاريخ النجاحات والإخفاقات في حياة الشعوب، يعتبر الأستاذ كولن أن أقوى أسس البناء الحضاري يستلزم إقامة دولة حرة ومستقلة، واستثمار أثمن لرؤوس أموالها، ألا وهو الزمن.

3- استثمار الثقافة الذاتية للأمة وهو مفتاح للبناء، يقوم على تثمين المادة الثقافية الذاتية الخصبة التي بها يصنع تاريخ الشعوب. والأستاذ فتح الله كولن يعتبر أن صناعة التاريخ الثقافي للشعوب والأمم ليس عملاً فجائيًّا وبدون مقدمات، ولكنه مسار طويل، يقول: “إن تلك الحضارات التي كانت تذهل العقول وتبهر العيون بغناها الثقافي، لم تظهر في روما وأثينا ومصر أو بابل فجأة من غير مقدمات، إن الثقافة في كل مكان إنما ولدت بعد حضانة طويلة في عالم المشاعر والأفكار للأفراد”.

وفي خلاصة جامعة، فإن مفاتيح البناء الحضاري تروم الانطلاق من الذات من أجل إحيائها؛ لأن هوية الشعوب -كأساس للبناء الحضاري- لا يمكن أن تنسخ من تجارب الآخرين. إن الأستاذ فتح الله كولن يشدد على الذات أولاً، ثم التفاعل ثانيًا. ولذلك يعتبر أن استنهاض الهمم من منطلق إيماني، يعطي للبعد الروحي مكانة خاصة، من شأنه أن يجعل الإنسان المسلم صاحب قدرة على امتلاك أدوات العصر من أجل تحقيق رسالة الله في الأرض.

وأما الرسالة في ضوء هذه العناصر التي يسعى إلى تبليغها، فيمكن أن يُختزل في عبارة واحدة هي “رسالة الإحياء”؛ الإحياء الحضاري القائم على استخلاص العبر من تجارب الأمم والشعوب. وهو في توصيف محتويات هذه الرسالة، يقدم تحليلاً صافيًا -عبر صفحات الكتاب- للواقع المؤلم الذي تعيشه الشعوب، ويحدد معالم الطريق السالك إلى النجاح الدائم دون منزلقات، متمثلة في زرع روح الأمة في كل مكان -من خلال بناء جيل ذهبي- وهي القيم الإيمانية التي قادت أبناء مشروع “الخدمة” في إنجاز مشروعهم من منطلق إيمانهم وعشقهم وحماسهم.

ونرى أن جزءًا لا يتجزأ من الكتاب، هو عبارة عن خطاب حركي من أجل الدعوة والتحفيز والحث وشحذ الهمم، ورسم معالم الطريق السالك الذي يسلكه الربانيون المحمديون، أو “رجال القلوب المتحفزون بالإيمان”، أو “المحتسبون”، أو “الأبناء المضحّون”، أو “أبناء الخدمة”، أو “أبناء الخلود”، أو غيرهم ممن يتفوقون على المسافات ويتجاوزون الزمن. يقول الأستاذ كولن: “إن قضيتنا الكبرى التي تفوق كل القضايا، هي إلهاب جمرة “الرغبة في إحياء الآخرين” في أرواح أفراد الأمة مرة أخرى، وتنقية الأفكار الغريبة المندسة والحائلة بين الأمة وأهدافها السامية”.

ونعتقد أن هذا المؤلف المرجع، ليس فقط مادة من المواد الفكرية للأستاذ فتح الله كولن، بقدر ما هو خطاب دعوة حركية من أجل الاستنهاض الحضاري المأمول في كل ربوع العالم الإسلامي، بل وحتى خارج هذه الربوع.

إن الأستاذ كولن من خلال مضامين هذا الكتاب، ومن خلال مقاربته المنهجية وقراءته العميقة والعالمة لواقع العصر بكل تشكلاته وتعقيداته، أسس لمنطلقات إعادة تشكيل الذات الحضارية الإسلامية، جاعلاً إياها المبدأ الأساس في البناء الحضاري المنشود، المستند إلى روح الأمة وعقيدتها الإيمانية وثقافتها الذاتية الأصيلة.

 

(*) كلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط / المغرب.

المرجع

  • ونحن نبني حضارتنا، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2011.