في سنة 1973 عقد في باريس مؤتمرًا كبيرًا بمناسبة مرور مئة سنة على بداية المستشرقين لمؤتمراتهم العالمية. وقد جاء هذا المؤتمر كنتيجة لإدراك المؤتمرين أن مصطلح “الاستشراق” بات متسمًا ببعد أيديولوجي يمثل المرادف الذهني للصورة البغيضة للمحتل، والرؤية العدائية، وعدم الحيادية العلمية والموضوعية.
فتوافقوا فيما بينهم على إلغاء مصطلح “الاستشراق” وابتدأوا باسم المؤتمر الذى غيروه إلى: “المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا”، ثم تواصوا على استبدال الاسم القديم “مستشرق” إلى مسميات أخرى يرونها أكثر تحديدًا وقبولاً، بل وتقديرًا مثل “مستغرب” أو “مختص بالإسلاميات”.. وغيرها من المسميات التي انطلق بها المستشرقون الجدد، هؤلاء الذين لم يستطيعوا التنازل عن ميراث الاستشراق القديم، فوجدوا أنفسهم يعملون على إحيائه وإعادة تشكيل أطروحاته، وذلك بالاستمرار في تثبيت الصورة النمطية التقليدية السلبية عن الإسلام والعالم العربي الإسلامي.
ويتبنى النيواستشراق خطابًا ثقافيًّا جديدًا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة يتعلق بانتقاد الإسلام وخاصة الإسلام السياسي. فقد شكل زوال الاستقطاب الأيديولوجي بين المعسكرين الغربي والشرقي أحد المداخل القوية لانبثاق وتكريس الرواية النيواستشراقية في المجال الفكري والإعلامي الأمريكي والغربي عمومًا، وأدى انهيار الروايات التقليدية مثل المواجهة بين الليبرالية والشيوعية في تسعينات القرن العشرين إلى سباق لأجل صياغة بديل للتوازن التقليدي بين الشرق والغرب. فإذا كان الاستشراق القديم قد صور الشرق الإسلامي متخلفًا في مقابل الغرب المتحضر، فبرر بذلك للإمبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين احتلال هذا الشرق بحجة نقله من التخلف إلى التحضر، فإن النيواستشراق يعطى للغرب وعلى رأسه أمريكا الحجة والمبرر لشن حرب عالمية ظاهرها على الإرهاب، وباطنها- كما في كتابات المستشرقين الجدد- على الإسلام كرسالة ودين للعالمين، ولابد من خلق عالم آخر يحد من انتشاره الواسع الملحوظ ومكانته التاريخية والعربية.
وعلى ذلك ينظر المستشرقون الجدد إلى الإسلام بوصفه كتلة مصمتة ساكنة، ويقيمون نمطًا من التعارض بين غرب ديناميكي حديث يشكل معقلاً للتحرر ويوفر مساحات للإنجاز الفردي، وبين شرق جامد يشكل الفرد فيه بالثقافة والدين الإسلامي، وهو ما يفسر في نظرهم ظهور “الإرهاب” كنتيجة لخصائص الثقافة العربية الإسلامية المتأخرة. فتأتى الرواية النيواستشراقية لترتيب عالم ما بعد الثنائية القطبية من خلال ربط الهوية الإسلامية بالتوتر، وبحدود الإسلام الدموية التي رسمها صمويل هنتنجتون على الخريطة بالمعنى الحرفي في كتابه الأشهر “صراع الحضارات”.
فيؤكد المستشرقون الجدد على أن كل من هنتنجتون وبرنارد لويس يمثلان قلب الانتقال من الاستشراق الكلاسيكي إلى النيواستشراق أو الاستشراق الجديد. فمن الواضح أن الآثار العملية لنموذج كل منهما في صياغة عدو ديني حضاري ثقافي مستمرة منذ سبتمبر2001 وحتى الآن. فلقد ساهمت كتابات برنارد لويس وخاصة كتابه “ماذا حدث خطأ” وكتابه “أزمة الإسلام” في أثقفة وأسلمة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وصاغ هنتنجتون المفردات والأسلوب المناسب لقراءة هذه الأحداث وتطبيقه بفكرة “الحرب على الإرهاب”.
فالرواية النيواستشراقية تعكس مذهبًا ثقافيا لأشكلة العالم الإسلامي والعلاقات بين الهويتين الإسلامية والغربية، وذلك في سياق يتميز بأدلجة متنامية للعلاقة بين الشرق العربي الإسلامي والعالم الغربي، تعمل على تشجيع العودة إلى قراءة ماهوية للعالم الإسلامي. وتؤكد الرواية النيواستشراقية على وجود تحديد مزدوج لعالم عربي إسلامي ينظر إليه ككيان متجانس، ومحددات ثقافية يصدر عنها الفعل الجماعي والفردي للمسلمين. وينتج عن هذا الموقف سلسلة من الافتراضات المنهجية للنيواستشراق من أمثلتها: الاستخدام المتكرر للمبررات الدينية، واستخدام مفهوم الأمة الذى يتجاهل التقسيمات الجغرافية والثقافية، وكذلك فكرة الممارسات السياسية الإسلامية المشروطة باللاهوت.
وتحاول الرواية النيواستشراقية تأكيد وجود تعارض بين فضاء غربي تحرري، وفضاء إسلامي غير صالح ثقافيًّا أمام التحديات. والحل الذى يطرحه المستشرقون الجدد للعالم الإسلامي إذا أراد الخروج من عصوره الغابرة، هو إحداث قطيعة مع “الإسلام”. وفى هذه السبيل تتناول الرواية النيواستشراقية الممارسات المرتبطة بالحجاب بوصفه رمزًا لحالة تمييز بين سلطة ذكورية فاعلة وخضوع أنثوى سلبي، ودليلاً على الفصل بين فضاء الحداثة وتقليد غابر.
إن الهدف الرئيس للاستشراق الجديد هو التحرر من الوقائع التي لا تتوافق مع مصالح هوياتية أو مهنية أو إيديولوجية أو سياسية، ويأتي تأكيد هذه المصالح بإخفاء التحاليل المنهجية للأحداث والعلاقات بينها، وسرد قصص تحكى صراع، وتعرض التفاعلات بين الهوية الغربية والهوية الإسلامية بتسطيح كبير للوقائع.