الشيطان في الثقافة الغربية

ينطوي لفظ “الشيطان” تلقائيًّا على معان ودلالات سلبية في ذهن المستمع، بل إن إطلاقه على شخص ما أو وصف تصرفاته بأنها شيطانية يعد إهانة لا يمكن التسامح معها بالنسبة للكثيرين نظرا لمرادفة اللفظ لكل ما هو شرير ومظلم ومراوغ. إن ارتباط الشيطان بممارسة المحرمات وبارتكاب الجريمة وبالإغواء الجنسي غير المشروع، إضافة إلى تواشجه بالسحر والشعوذة وإساءة استعمال نصوص الكتب المقدسة، كل ذلك يلقي بظلال كئيبة وسوداوية على هذا الاسم والمفهوم، وهذا واضح في الاستعمال باللغة العربية، خاصة حين تكون مستوحاة من ثقافة دينية راسخة ومتواصلة، إلا أنها تظهر كذلك في اللغات الأخرى (شرقية وغريبة) ليس فقط بين الأقوام التي تحتضن الأديان المنزلة كاليهودية والمسيحية والإسلام، بل كذلك بين أتباع الأديان الأخرى كالعبادات الوثنية والمشركة وغيرها.

لذا ابتكر العقل الجمعي والشعبي ألفاظًا خاصة لتسمية الشيطان وتحديده وتوصيفه. وإذا كانت لغة القرآن الكريم قد قدمت العديد من الألفاظ في هذا المجال، فإن اللغات الأوربية هي الأخرى قد وضعت الألفاظ الخاصة بالشيطان ومنها اللفظة المستعارة من اللغات السامية (العربية والعبرية الأصول) من نوع Satan، ومنها الألفاظ غير المستعارة من نوع Devil أو Mephistopheles أو lucifer أو Teufel وسواها كثير.

وتشيع في الثقافة الشعبية في عصرنا هذا متغيرات لصورة الشيطان كما يتخيلها البعض. فهي مرتبطة (في السينما الأمريكية خاصة) بشكل المرأة الجميلة المغرية القادرة على جرف الرجل وحرفه عن طريق الاستقامة والأخلاق الحميدة، زد على ذلك توظيف هذه الصورة لابتكار أقوام أسطورية من نوع مصاصي الدماء Vampires واختلاق عوالم الموتى والمقابر والسحر والقلاع المهجورة والبيوت المسكونة، على سبيل الإثارة ومغازلة ميل الإنسان إلى اكتشاف العوالم السفلية الغامضة، وهذه حسب الخيال الشعبي هي الأماكن المظلمة الي يفضلها الشيطان وينشط فيها “أتباعه” من الشياطين والمتشيطنين. هؤلاء الذين باعوا أرواحهم لهذا الملاك المحتال، مقابل تلبية نزوات أو رغبات أو تحقيق أمنيات دنيوية تبعدهم عن الله عز وجل.

لذا عمدت الرواية القوطية  Gothirفي الأدب الإنجليزي إلى استثارة عواطف القارئ من خلال القصص الذي يتموقع في القلاع المهجورة التي تسكنها البوم والتي تعصف بها الريح حيث تنتشر رائحة الموت وتتبلور فكرة مرور الزمن عبر عوالم غادرها الإنسان وتسكنها الأرواح الشرية.

ولذلك نجد شعر المقابر ينتشر في الأدب الإنجليزي ونجد أعدادًا كبيرة من النتاجات الأدبية والإعلانات الثقافية التي توظف الشيطان كائنا مصورا في كتاباتها مثل تلك التي نجدها في أدب وروايات “جون ميلتون” مثل “الفردوس المفقود” المستوحاة من القصص الإنجيلي ومن قصة الخلق والخليقة. وهي صورة مؤثرة ودراماتيكية لقصة سقوط أجمل الملائكة من الفردوس، نظرًا لتمرده على إرادة الخالق. وسنجد من بعد كيف يأتي المسيح وصلبه مضحيا بنفسه من أجل إزالة تلك الزلة.

عن الإنسان غير المعصوم، وهكذا يتواشج الشيطان بقوة مع الأداب الغربية، خاصة بين الأمم التي يعتنق غالبيتها المسيحية، ذلك أن مثل هذه القصص الإنجيلي يشكل الخلفية الروحية الشائعة في نظامهم الديني، لذا يظهر الشيطان مرادفًا للملعون والمخادع والكذاب والمتمرد والثائر والمغري.

ولا شك أن مسرحية كريستوفر مارلو Marlowe المعنونة الدكتور فاوستس Dr Faustus تستحق الملاحظة في مثل هذا السياق نظرا لأهميتها الرمزية في تاريخ أوربا. وقصة فاوستس هي قصة الباحث العالم الذي سبر أغوار المعارف بالدرجة الكافية لاستشعاره داخليا بـ”الكمال” وبأنه مخلوق كامل لا ينقصه شيء لأنه قد توج العقل بديلا عن الإيمان الروحي، والتجربة بديلا عن التنزيل. هذا الاختلال المأساوي كان وراء الاعتقاد بأنه مخلوق “كلي” القدرات لا تحد قدراته وآفاقه أية قوة. فخدم هذا الضعف الذي يخترقه الغرور منفذا نفذ منه الشيطان إلى حياة هذا الفيلسوف العبقري.

والمسرحية في أغلب صفحاتها تتشكل من قصة وتفاصيل الحوار السري بين الفيلسوف والشيطان وهو محور الصراع المركزي بين إرادتين وذهنيتين متناقضين أدتا إلى أن قاد الغرور و”تأليه” العقل الدكتور فاوستس إلى إمضاء “عقد” قام بموجبه ببيع روحه إلى الشيطان، وهكذا أمتلك الشيطان روح الفيلسوف فاوستس ليؤشر عصرا جديدا في تاريخ أوربا من كينونة إيمانية التمحور (مركزية الكنيسة الكاثوليكية) God – centered Europe إلى كينونة بشرية التمحورMen – centered  تتوج الإنسان وتعّظّم الروح التجريبية.

وهنا يكمن شرخ (الانتقالية) في التاريخ الأوربي من العصر الوسيط (عندما كانت أوربا عالما مسيحيا واحدا يتبع البابا على رأسه Christendomإلى عصر النهضة الذي شهد تتويج الإنسان والإيمان بقدراته اللامحدودة على الإنجاز العلمي والتقني. حدث هذا كله في اللقطة الرمزية عندما “باع” فاوستس (رمز أوربا كلها) روحه للشيطان الذي اشترى هذه الروح مقابل “هدية” المعرفة والقدرات البشرية اللامحدودة.

من هنا ينظر المؤرخون إلى عصر النهضة والاستنارة على أنه العصر الذي شهد أكبر منجزات الإنسان العقلية والتجريبية (المادية وليست الروحية)، ذلك أنه العصر الذي شهد اكتشاف العوالم الغامضة والقارات الجديدة (امريكا واستراليا وسواهما)، عصر رجال من نوع كولومبس، كما أنه عصر الاختراعات والابتكارات كالطباعة والبارود التي أدت إلى ظهور الروح القومية الشوفينية، ومن ثم الدولة القومية في أوربا (ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، وسواها)، لقد كان فعل الشيطان (في قعر العقل الأوربي) فعلاً فظيعًا لأنه تمكن من إقصاء سلطة الكنسية الكاثوليكية الموحدة لإحالة أوربا إلى مجموعة دول قومية متخاصمة، بعد أن أحيا اللغات القومية التي كانت تعد لغات محلية، محتقرة مقارنة بلغة الثقافة في القرون الوسطى، اللغة اللاتينية، من هنا تكون شخصية الدكتور فاوستس رمزا للانحراف في التيار الشيطاني الذي تسبب في أن تنسى أوربا الخالق وأن تتشبث بـالعاصي أو المتمرد الذي قدم لها المعرفة والذهنية التجريبية بديلاً عن الإيمان الروحي.

التصور الفلسفي للشيطان في العصر الحديث

يقدم لنا الدكتور الُخشت في مقاله السابق هذا التصور حيث أن هناك من الفلاسفة من نظر للشر نظرة مختلفة عن النظرة المسيحية، مثل الفيلسوف “كنت”، ولكن كان للتصور المسيحي للشيطان باعتباره منبع الشر تأثير على بعض.

الفلاسفة المحدثين الآخرين، مثل ديكارت، في حين أن هيجل يؤكد أن الوقوع في الشر والانشقاق ثم يقظة الوعي تنبع من طبيعة الإنسان ذاتها، وهو في ذلك يختلف عما ترويه قصة السقوط في الكتاب المقدس عندما نسبت تخلي الإنسان عن وحدته الطبيعية إلى غواية خارجية هي الشيطان المختفي في شكل الحية، لكن هيجل يقبل العقيدة المسيحية عن الخطيئة الأصلية.

وعامة فقد أدخل ديكارت الشك في كل شيء بما في ذلك وجود نفسه ووجود العالم الخارجي، افترض وجود الشيطان باعتباره كائنا شخصيًّا غير مرئي في حد ذاته، ولكنه يظهر بعمله وتأثيره وله القدرة على تضليل حواسنا وخداع إدراكنا. يقول J.H.Hick على لسان ديكارت “ربما للوصول إلى منتهى الشك. يوجد شيطان ماكر ذو قدرة كاملة، وهو لا يضلل حواسنا فقط، بل يتلاعب كذلك بعقولنا”. وبالنسبة لإمكانية وجود شيطان ماكر يستطيع (بواسطة التلاعب بذاكرتنا) أن يجعلنا نعتقد أن حجة ما صحيحة مع أنها ليست صحيحة.

من الظاهر أن آلية النجاة الفلسفية عند ديكارت تتحدد في “الفكر” وحده هو سبيل النجاة الكافي بذاته، أم أنه بحاجة إلى ضمان إلهي، ومن ثم تصبح النجاة الفلسفية ذاتها غير ممكنة إلا بتحقيق النجاة الدينية أولا ؟ في الواقع ثمة دورا منطقيا في موقف ديكارت، حيث أنه يستخدم الفكر الواضح كآلية لا تُخدع للاستدلال على وجود الله، لكنه من ناحية أخرى يلوذ بالله الصادق من أجل ضمان مصداقية الفكر الواضح ضد ألاعيب الشيطان الماكر، فإذا كان ديكارت يصرح بأن الفكر يكتشف نفسه في اللحظة التي يقوم فيها الشيطان بممارسة أفعال الخداع والتضليل المختلفة، وكأن يقين الفكر “أنا أفكر إذن انا موجود I am thinking Therefore I exist حقيقة أولى Apriori متسمة بالوضوح والتميز، حيث أن الشيطان يستطيع أن يشكك الإنسان في كل شيء سوى أنه موجود.

إذا كان الأمر على هذا النحو تارة، فإنه تارة أخرى وفي نصوص أخرى من الكثرة بمكان، يؤكد أن هناك حقيقة حدسية أسبق من حقيقة الفكر منطقيا، لأنها هي التي تضمن صحة الفكر نفسه بوضوحه وتميزه ضد عوامل الخداع المختلفة بما فيها الشيطان، أي أن الفكر يستلزم أولا ضامنا له.

هو “الله الصادق” الذي لا يُخدع، والذي لا يسمح للشيطان أن يتلاعب بأفكار الإنسان، فهو مصدر الحقائق وهو ضامنها، ومن هنا فإن “المخلص” الحقيقي من براثن الشك، بما له من أسبقية منطقية وأنطولوجية في عملية العبور من الشك إلى اليقين، إنه بمنزلة الجسر الذي يعبر عليه الفكر تلك الهوة المحفورة بين الجانبين، ومن ثم فإن آلية النجاة الفلسفية تظل بحاجة دوما إلى تدعيم من آلية النجاة الدينية، مما يدل على أن مفهوم الشيطان رمز الشر، والشر هنا هو الشك، حاضر في بنية التفكير الديكارتي.

لكن هناك من الفلاسفة من نظر للشر نظرة مختلفة عن النظرة المسيحية، مثل “كنت” الذي يبدأ في تناول الخطيئة عند أدنى مرتبة أخلاقية وهي الشر، ويطرح المسألة برمتها طرحًا فلسفيًّا يرفض فيه الخطيئة الأصلية التي تقول بها المسيحية، والميول هي التي تسمح بالانحراف نحو الشر، فهو الأساس الذاتي لإمكان النزوع أو الشهوة، وهي قد تكون فطرية طبيعية بيد أنها غالبا ما تكون مكتسبة بسبب خطأ يقع فيه الإنسان. وهذا ما يجب تصوره، والميول تتنوع إلى ثلاثة أنواع، هي ضعف العزيمة أو القلب، وهو ما عبر عنه بدقة القول الآتي “عندي الإرادة بيد أني أفتقر إلى التنفيذ”، والنجاسة أو عدم النقاء، تحدث عندما لا يكتفي الفعل بالقاعدة الخلقية، ويحتاج إلى دوافع أخري”، وأخيرا الفساد الذي ينشأ عندما تميل الإرادة إلى تفضيل دوافع دنيا على الدوافع الخلقية.

وتأخذ هذه الميول مجراها نتيجة سوء استعمال الإرادة الحرة، عندما لا يسلك الإنسان وفقا للواجب، وإنما بدافع من بعض المغريات، وهذا يعني أن الشر لا ينشأ عن وجود إرادة شريرة كامنة أنطولوجية في الطبيعية الإنسانية، وإنما عن ضعف هذه الطبيعة عندما لا تفصل بين بعض الدوافع وبعضها الآخر على أساس القاعدة الخلقية. ويذهب كنت إلى أفسد تفسير لأصل الشر الأخلاقي القول إنه خطيئة أولى منتقلة بالوراثة من الآباء إلى الأبناء، وهو في هذا يتفق بوضوح مع الإسلام، ولذلك يرفض كنت مواقف القديس أوغسطين ومارتن لوثر بالإضافة إلى رفضه لكل محاولة ترمي إلى إخضاع الإنسان لتحمل خطيئة أصلية لم يتسبب هو في جلبها لنفسه. ومن هنا فإن جوتة وهردر وشيلر لم يحسنوا فهم موقف كنت من الخطيئة، عندما اعتبروا انه قد لطخ رداءه الفلسفي بنظرية الخطيئة الأصلية، وفتح ثغرة لاعقلانية في نفسه النقدي العقلاني المحض.

في حين أن “هيجل” يحلل موقف المسيحية من الشر عبر تحليله لقصة السقوط، سواء في “محاضرات في فلسفة الدين” أو في “موسوعة العلوم الفلسفية” ويذهب في الأخيرة إلى أن الإنسان في مبدئه يتمتع بالبراءة الأولى. لكنه انقطع مع هذه البراءة وانشق عن الطبيعة، واختلف مع الله، نتيجة التدخل الشيطاني، وهذا هو معنى الوقوع في الشر، ومعاناة الألم والشقاء في العالم، وهو ما عبرت عنه قصة السقوط.

شرقنة الشيطان

أما رؤية الغرب الحديث للشرق عامة وللإسلام خاصة فهي رؤية ذات طابع خاص، ومن هنا نجد الكاتب العراقي محمد الدعمي في مقال له عن “لمحات شيطانية” يقول بشرقنة الشيطان أي أن العقل الغربي عبر تاريخه غالبا ما ينزع إلى الربط بين الشرق والشيطان، تعسفًا، تأسيسا على الاعتقاد الخاطئ بأن المسيحية الأوربية تمثل الإيمان “الأوحد” وأن ما عداها من أنظمة دينية وتقاليد روحية هي: إما وثنية أو كافرة أو محرّفة عن المسيحية بفعل ابتعادها عن الكنيسة، ويبدو أن رواية سلمان رشدي سيئة الصيت “آيات شيطانية” Stanic- Verse التي أحدثت الكثير من الامتعاض في العالم الإسلامي لم تكن سوى رأس الجليد الذي تختفي تحت سطح محيط من الضغائن والتصورات المشوهة والمفاهيم المسبقة التي كومها الغرب عن الشرق، الشرق الإسلامي خاصة، وتزخر بها أدبيات الاستشراق (خاصة الاستشراق التاريخي) بالكثير من القرائن التي تساعد المرء على التنقيب في قعر العقل الغربي لاستخراج ما يكمن عليه من مثل هذه المفاهيم الخاطئة للحضارات والثقافات الشرقية عامة، فعلى الرغم من اعتراف اوائل المؤرخين الأوربيين (في القرون الوسطى المتأخرة) بالإسلام كدين توحيدي، إلا أن تورخة قصة الإسلام وحياة الرسول الكريم وتطور مؤسسة الخلافة تعكس ذلك الشعور “الوسواسي” الذي شاب الذهنية الأوربية في أن هذا الدين الحنيف إنما يشكل “انحرافا” عن عقائدهم برغم ارتكانه على عقيدة التوحيد.

لذا ركزت تواريخهم للأمم الإسلامية على استلاب الجوانب “المظلمة” والبقاع السلبية التي شابت هذا التاريخ بدلا من ان تركز على انتخاب الجوانب المشرقة والمضيئة فيه، لقد كان جل ما ُكتب عن المسلمين والسلاطين والخلفاء مستوحى من الأسطورة ومن الأدبيات الخرافية التي تؤول إلى تشويه الإنسان المسلم، ثقافته وعقائده، بوصفه ضحية لكينونة يركبها الشيطان، لذا كان تركيز الغربي على أعمال فلكلورية من نوع “ألف ليلة وليلة” أكبر من التركيز على الحركات الفكرية والفقهية والفلسفية أو على الشواخص المشرقة في ماضينا والمتمثلة بأبطال الثقافة والفكر والعلوم.

بل إن القراءة النقدية المستنيرة لأدبيات الاستشراق حتى في العصر الحديث تدل على تواتر هذا “الاستمكان” التعسفي الذي تعمده بعض المستشرقين لدفع كل ما هو “شيطاني” إلى الأمام (خاصة في العناصر الطارئة على تراثنا من الأمم الأعجمية” ضمن جهودهم لرسم الصورة التي يرغبون بها للشرق، فقد كانت صور الخلفاء والمتنفذين غالبا ما ترتبط بالفنون “الشيطانية” أو بـ”السحر الأسود” والاعتقاد والتشبث بالغيبيات والماورائيات، كما كانت شخصية السلطان (الشرقي، المسلم، الأسمر) لا تفارق شخصية ساحر البلاط الذي يعتمد مثل هذه الفنون الشريرة للنبوءة وللتأثير على مجريات الأمور والأحداث الشخصية العامة . ويبدو أن أفضل نموذج لهذا النوع من “التحالف بين السلطان والساحر يتجسد في تورخة ابي الأدب الأمريكي، واشنطن إرفينغ Irving لقصة ظهور وسقوط الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، خاصة في كتابه المهم “الحمراء The Alhambea

وإذا كان القرن التاسع عشر (عصر الثورة الصناعية) قد جسد هذا الميل الغربي إلى اعتبار الشرق العربي الإسلامي كينونة شيطانية، أو كينونة يمتطيها الشيطان ينبغي دراستها وتجنب محاكاة نموذجها، فإن هذا الميل يتبلور في كتابات مؤسس حركة اوكسفورد The Oxford Movement الكاريدنال “جون هنري نيومن”، حيث أن كتابه الموسوم بـ”تصورات تاريخية: “الترك وعلاقاتهم بأوربا” يؤشر لهذا النوع من الاستثمار السلبي، المتعسف والمتحامل دينيا، لدور الإسلام والمسلمين في التاريخ.

إن هذا المجلد المهم والمنسي مستوحى من أحداث “حرب القرم” ومن موضوع تدخل بريطانيا وسواها من الدول الأوربية لصالح الدولة العثمانية ضد الروس. وإذا كان هذا موضوعا سياسيا طارئا، فإن الكتاب يوفر للباحث المسلم بيئة تاريخية خطيرة توثق اعتقاد نيومن وسواه من كبار رجال الدين الكاثوليك أن الأتراك لا يستحقون أن يكونوا إمبراطورية كبرى.

وبأن واحدا من أهم الأسباب يرد إلى اعتناقهم الإسلام. وبالرغم من احترام نيومن للعرب (على نحو ما يميزهم عن الأتراك) لأنهم شعب ذي عمق وشعب ميال إلى العلوم والتحضر والثقافة، فإنه يرى أن الإسلام كان يشكل سلاحا ذا حدين على أيدي العثمانيين بسبب تموقعهم الجغرافي بين الشرق والغرب، بين إقليم الشيطان وإقليم الرب، وتأسيسا على هذا الاستكمال الاستعباطي الذي اختلقه هذا الكتاب المهم، يذهب المؤلف مذهبا خطيرا في تشويه هذا الدين الحنيف، قائلا إن الأتراك العثمانيين إنما يمثلون “أداة الخالق” عندما يتوجهون نحو الشرق الأقصى حيث تنتشر الديانات الوثنية والمشركة، بينما هم يمثلون “أداة الشيطان” عندما يتوجهون إلى الغرب (أوربا)، في إشارة حقود إلى الفتوحات العثمانية التي طالت أوربا من بلغاريا واليونان إلى هنغاريا والنمسا.

ناهيك عن طرائق تعامل الفكر الغربي مع قصة الوجود العربي في الأندلس الذي تواصل لحوالي ثمانية قرون. هذه الازدواجية تشكل خلفية تاطيرية يصعب على العقل الغربي الإفلات منها، وهي عقلية تنظر إلى الشرق باعتباره إقليما شيطانيا طافيا على بحار من اللذات والممارسات المحرمة، ابتداء من غياب اليقين وانتهاء باضطهاد المرأة أو الحريمHarem كما يفضلون تسميتها.

وإذا كانت مثل هذه المفاهيم الاستشراقية الخاطئة قد أخذت تتلاشى في عصرنا الحاضر بسبب التواصل الحضاري والحوارات الثقافية وثورة الاتصالات. فإن مثل هذه التصورات المشوهة تستحق المراجعة من قبل الإنسان العربي والمسلم لأنها تساعده على التنقيب في العقل الغربي ليس من أجل تغذية المفاهيم والتلاقح الثقافي على سبيل تجاوز الكبوات وإزالة تراكم الأحقاد، حيث إن مثل هذ الجهد لابد أن يفضي إلى رفع ما رسب في قعر العقل الغربي من تشويهات عبر تاريخ طويل من الارتطامات الحضارية والاحتكاكات العسكرية والتحديات الفقهية التي منعت مد جسور التفاهم والتعايش السلمي.

ومن الجدير بالذكر أن في اللغات الأجنبية نحو 25 اسما، تطلق على الشيطان وأبليس: فنجد Lucifer وSatan وDemon، ومنها demonology اسم للبحث في أحوال الشيطان وفنون الشر وأشهرها devil التي تجعل مقابلا لكلمةangel.

والمتبادر إلى الذهن أن يكون الشيطان عنوانا للمهالك، وأن يكون موقف الإنسان منه هو موقف الحذر بل العداوة، لكن الموقف النقيض أن يكون الشيطان محل التعظيم والتقديس لدى طائفة تزعم أن الشيطان هو عنوان الكبرياء، وتعظيم الشيطان لون من التمرد، يمارسه بعض المسحوقين والمقهورين، بهدف إغاظة الكبار، وتحدي المجتمع، وبخاصة في مجتمعات الوفرة والفراغ (نعمتان مغبون فيهما ابن آدم: الصحة والفراغ).

نظرية موت الشيطان: هذه النظرية ليست نظرية فلسفية فقط، بل هي ظاهرة يمكن ان يشعر بها المسلم والعربي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية لعدة سنوات، إذ يمكن بوضوح ان يلاحظ هذا المهاجر ان الأمريكيين لا يتحدثون كثيرا عن الشيطان، صحيح أن هناك افلاما امريكية عديدة تنتمي إلى سينما الرعب المليئة بالمخلوقات المتوحشة القادمة من الأرض والبحر والسماء، وصحيح ان الأمريكيين يحتفلون كل عام بعيد “الهلويين” الذي يخصص لطرد الأرواح الشريرة، ولكن في المقابل هذه الأفلام والعادات لا تخرج عن كونها مظاهر جماهيرية يسخر منها الأمريكيين او يمارسونها من قبل المرح والتلاهي لا من قبيل الإيمان بها أو تصديقها أو اتباعها.

أكثر من ذلك يمكن القول إن المساجد والمراكز الإسلامية بالولايات المتحدة لا تتحدث إلا نادرا عن الشيطان، فالحديث بتلك المؤسسات عادة ما يركز على تحفيز المستمعين لشحذ الهمة وترويض النفس على العبادة وعلى العمل الجاد داخل المجتمع لتغيير ظروف المسلمين الخاصة وظروف المسلمين كأقلية امريكية بصفة عامة.

وقد يعود هذا إلى طبيعة المجتمع الأمريكي كمجتمع مفتوح وملئ بالفرص بشكل نسبي، مما جعل هناك دائما حلم أمريكي. ولكن من قتل الشيطان؟ ترى بعض الدراسات أن الحداثة وعصر التنوير الأوربي العلماني رفض الإيمان بالغيبيات بشكل عام بما في ذلك الآخرة ووجود الإله ووجود الملائكة أو الشيطان، ومن ثم أصبح الحديث عن الشيطان أمرا مرفوضا. ويرى هؤلاء ان الشيطان كان موجودا في الثقافة الأمريكية في القرن الثامن عشر، ولكنه بدأ ينمحي تدريجيا منها حتى أصبح الحديث عنه نادرا بالمجتمع الأمريكي التي تنظر إلى هذا الحديث على أنه نوع من الخرافة.

ويرى البعض أن السبب الأهم في نظرية “موت الشيطان” يرتبط بما أسماه البعض بالجانب الأسود من ثقافة بعض الجماعات المسيحية الأصولية التي لعبت دورا هاما في بناء أمريكا ألا وهي جماعة البيروتين (الأتقياء) وهم إحدى الجماعات البروتستانتية التي عرفت بتشددها الديني والي وصفها الكاتب الأمريكي الراحل “آرثر مللر” في إحدى مسرحياته (المحنة) وكيف أن تشدد هذه الجماعات كان يقود إلى حملات جماهيرية غوغائية للتخلص من أنصار الشيطان الذين يعيشون وسط الأتقياء وهم (انصار الشيطان) في العادة اناس بسطاء وصموا ظلما بمحالفة الشيطان.

ولذلك كان يرى البعض بسوء نية أنه لابد من التخلص من هؤلاء، مما ألحق الكثير من الضرر بالأبرياء والضعفاء والنساء الفقراء والمستضعفين، وانتقلت بعض هذه المعتقدات مع الجماعات الأصولية التي هاجرت من أوربا إلى أمريكا. وقد تصبح تهمة الشيطان تهمة سهلة على الألسن وظيفتها هي إدانة الآخر وتبرئة الذات، فالآخر يصبح الشيطان الذي ولد شيطانا حاقدا كريها وسوف.

يموت كذلك والذات تصبح كيانا بريئا وقع ضحية الشيطان، وذلك دون الحديث عن أخطاء الذات وعما تحمله الذات من نصيب من الشر الداخلي.

وللأسف يصبح انتشار ظاهرة “إلقاء اللوم على الشيطان والتضحية به” في مجتمع ما عاملا قويا لنفور هذا المجتمع من فكرة الشيطان بأكملها ورفضه الحديث عنها وسعيه للبحث عن بدائل فكرية أخرى تشرح ظاهرة الشر الموجود بالعالم وكيفية التعامل معه. ولعلاج المشكلة السابقة وضعت إحدى الدراسات مبادئ أربعة ترشد عملية التعامل مع الشيطان وفهمه:

المبدأ الأول: هو ان الشر موجود وينتج عن سوء استخدام البشر لإرادتهم البشرية.

المبدأ الثاني: يرى أن تراكم أفعال وأفكار الأفراد السلبية في ثقافة ما يؤدي إلى بناء أفكار سلبية هدامة داخل تلك الثقافة مما يؤدي لنشر الشر على نطاق اوسع داخل تلك الثقافة.

المبدأ الثالث: هو ان البشر يميلون أحيانا إلى تجسيد حجم الشر الموجود من خلال الإشارة إلى مصادره بما في ذلك الشيطان.

المبدأ الرابع: هو ضرورة توخي الحذر عند تجسيد الشر حتى لا تتحول هذه العملية إلى أسلوب نعفي من خلاله أنفسنا من أية مسؤولية ونعلق أخطاءنا على شماعة الشيطان.

وفي الحقيقة ليس إبليس الشماعة الوحيدة التي يستخدمها الإنسان من أجل الهروب من تحمل مسئولية أخطائه، ولأننا تعودنا على إلقاء المسئولية على الغير سواء كان إبليس أو غيره لنصور لأنفسنا أننا ابرياء مما ارتكبناه، فإنه من الصعب علينا الاعتراف بالخطأ بالرغم من أن الاعتراف بالخطأ فضيلة.

وإن كان لإبليسي النصيب الأكبر من تحمل الأخطاء البشرية، أخطاء في بعض الأحيان تجعله وإخوانه يحمرون خجلا. والأخطر هو إبليس البشر، وهو الشخص الذي نحمله مسئولية أخطائنا في الاختيار أو وقوعنا في الخطأ أصلاً، فإبليس الزوج الفاشل، هي الزوجة التي لم تدفعه للأمام، وإبليس التلميذ البليد هو المدرس الذي لم يأخذ معه درسا خصوصيا فتسبب في رسوبه، وإبليس الموظف المرتشي في المرتبات المتدنية وإبليس العاطل، هي الحكومة التي لا توفر وظائف “ميري” للألوف.

ومن هنا يمكن أن يكون الشيطان كلمة نضع عليها وزر ما نفعله لنريح ضميرنا، ولا يوجد أسهل من حجة الشيطان عندما ينكشف ستر أي من الأشياء الممنوعة التي أرتكبها. حتى في السياسة وجدنا أن كثيرا من الساسة يلقون بتبعية اعمال بعضهم البعض على إبليس!.

ونحن لا نستطيع ان نستمر بعقلية العصور الوسطى حيث كانوا يحيلون أيا من الظواهر الغريبة والغامضة التي لا يجدون لها تفسيرا إلى عمل من أعمال الشيطان، فحينما يخطئ أحد منا يجعل إبليس ذريعة لأخطائه كأننا مخلوقات لا إرادة لها ولا عقل، هنا يبرز الفرق بين الأحمق والحكيم والفرق ليس في كون الحكيم لا يرتكب الأخطاء، ولكن في تعلمه من الأخطاء التي ارتكبها، أما الأحمق فهو من يلقي بلائمة أفعاله على الغير متوقعا من الجميع تصديقه، فلماذا لا نكون صريحين مع أنفسنا ونعترف بالخطأ والتقصير ونواجهه مع الأخذ في الاعتبار أن أغلب هذه الذنوب نتيجة هوى النفس لا وسوسة الشيطان.

عبدة الشيطان

ربما لا يعلم كثير من الناس أنه توجد في العالم تجارة يروج لها، قوامها تصاوير وقمصان وفانيلات وحقائب وأغان، وتذكارات لحفلات عبادة الشيطان والقداس الأسود. ورغم دخول الغرب في عصر الحداثة والعقلانية بُعثت عبادة الشيطان من جديد، وتدور عقائد عبدة الشيطان عامة في العصر الحديث على أن الشيطان يمثل الوجود الحيوي والروحانية الحقيقية والفكر الذكي، في مقابل الأمل الكاذب الوهمي! ويدعو إلى الانتقام بدلا من الحب الزائف للحاقدين وجاحدي الجميل، ويمثل الحكمة غير الزائفة في مقابل ما يوجد في الأديان من خداع النفس بأفكار زائفة، فالشيطان يعّبر عن الانغماس الذاتي في الأهواء والشهوات والتمتع ويقبل كل ما يُطلق عليه خطايا أو آثام باعتبارها طاعات لأنها تؤدي إلى الإشباع العضوي والعقلي والعاطفي.

وفي القرن التاسع عشر دعا إلى عبادة الشيطان الساحر الإنجليزي بريت أليسر كرولي Brite Crowly aleiser (1875 ـ1945) ومع دخول القرن العشرين إلى منتصفه دخل هذا الدين الخرافي مرحلة ثانية بصدور كتاب “لافالي ” الكتاب الشيطاني المقدس” سنة 1957، شرح فيه طرق ممارسة شعائر عبادة الشيطان، والأركان الأساسية للإيمان بالشيطان كإله تتجسد قوته في التحكم بعناصر الطبيعة، وإنكار البعث والجنة والنار، ومن ثم دعا إلى استغلال الحياة في ممارسة كل الرغبات، والشذوذ، والسحاق، والاستعانة بالسحر والشعوذة للحصول على أي شيء، ودعا إلى عدم قتل الحيوان (عدا البشر) إلا دفاعا عن النفس أو لتقديمها قربانا للشيطان.

وطقوس عبادتهم هي دماء وخمر وسحر أسود، وممارسة الجنس الشاذ الجماعي، وصخب وشموع وسط الظلام، وأجراس وسيف، ووشم وقمصان سوداء، ومخدرات وجماجم وطلاسم ونجمة خماسية تحيط بها دائرة، ويبجلون الرقم (666) والأحرف (FFF)، ولديهم ما يسمونه “الوصايا التسع” و”إنجيل الشيطان”، لمؤسس جماعة عبادة الشيطان “انطون لافي ” الشيطان خير صديق، الشيطان يمثل المسؤولية، الشيطان يعني الإشباع العضوي والعقلي والعاطفي. الشيطان أعنف حيوان على الإطلاق، الشيطان يمثل الانتقام بدلا من إدارة الخد، الشيطان يمثل الشفقة، الشيطان يمثل الحكمة، الشيطان يمثل التواجد بدلا من الأمل الكاذب، الشيطان يمثل إطلاق العنان للرغبات بدلا من الامتناع.

وترحب جماعة عبدة الشيطان بالأعضاء من عمر 16ـ 20 سنة(مرحلة من أخطر ما يكون) ويلقنونهم من “كتاب الظلام” أن كل عضو في عبادة الشيطان هو إله، ليس لأحد سيادة عليه، وان الدين هو ما يعتقده الشخص، وليس هناك من آخرة، وأن الشر منتصر في النهاية وأن طقوس كل الأديان وثنية، وأن الزواج حرام ،ويحرم أكل اللحم والجبن والبيض وكل ما جاء من تناسل ذكر وأنثى، وأن البقاء للأقوى، والضعيف يستحق ان يراق دمه، وأن كل ما يؤمن به عبدة الشيطان هو مضاد للأديان شذوذ في شذوذ، ومبلغ الشذوذ أن يستعبد العقل، وتستبد الشهوة، في غلاف من السرية، تذكرنا بسرية المحافل الماسونية وتوابعها.

وكل العقائد الغربية تتنصل مما يقال عنها، وتؤكد أنها بخلاف ما يقوله عنها غير المؤمنين بها، وبخاصة العقائد المدونة بلغات قديمة جدا، أو لغات لا يعرفها إلا افراد قليلون (كهنة أو ما شابه) وكذلك العقائد التي لها شقان مُعلن يدعى إليه جهرا، وباطني يحرم الاطلاع عليه إلا للخواص، والذي يفشي الأسرار تدق عنقه، أضف إلى ذلك كل تلك التعقيدات والأسرار والمصطلحات الخاصة جدا في كل عقيدة، والتي لا يكفي معرفة اللغة التي كتبت بها لفهم ما تعنيه.

ويؤكد الدكتور محمد الصاوي في مقال له أن جماعات عبدة الشيطان لئن ظهرت سنة 1996 في مصر والأردن والبحرين والمغرب ولبنان فإن عبادة الشيطان هي عقيدة قديمة وجدت قبل ميلاد المسيح عليه السلام، فقديما تصور الناس إلهين إله للخير وآخر للشر، وقد نظر الناس على ما يقع لهم من مصائب وكوارث ونكبات نسبوها إلى قوى شيطانية، فاخترعوا إزاء ذلك فكرة القرابين لترضية الشيطان، واختلط الأمر بطقوس السحر.

ومن المنطقي تماما ان يحّرم عبدة الشيطان ما أحل الله، وأن يحلوا ما حرم الله، فهم يحلون كل الموبقات من الخمر والشذوذ، ويحرمون الزواج، ومنهم اليوم من يضع شارة الصليب مقلوبة ويرفضون تقديس الصليب في ذاته، ومبررهم في ذلك أنه ما من أحد يعبد المشنقة التي خنقت أباه.

ويعزو بعض الباحثين انتشار عبادة الشيطان حديثا إلى تنازع الكنائس فيما بينها، وإلى تناقض المذاهب الدينية، وإلى تناحر مجموعات ترفع شعارات دينية، وإلى فشل رجال الدين في إزالة الشبهات عن عقائدهم. بجانب أسباب ودوافع أخرى كالرغبة في الانتقام والتمرد والتنفيس عن الشهوات المكبوتة، وتحدي المجتمع، وانتشار الإنترنت.

على الجانب الآخر لا يؤمن كثير من الباحثين في الفلسفة والعقائد بأن للدين مصدرا سماويا، واتساقا مع عدم إيمانهم فإنهم يقولون إن الشيطان هو(فكرة) نشأت في عقول الناس قديما أو أسطورة وثنية pagan myth توارثتها الأجيال عبر العصور، التي تطور فيها الذكاء البشري حتى وصلت إلى(الأديان) فاستقرت في تعاليمها! وكأن العقائد صارت خاضعة لنظرية النشوء والارتقاء كما فهمها داروين!.

وعامة تنسب عبادة الشيطان في التاريخ الإسلامي إلى اليزيدية التي نشأت بعد انهيار الدولة الأموية، ويقطن أكثر أتباعها الشمال الشرقي من الموصل وبغداد، ودمشق وحلب، ومنهم طوائف في إيران وأوران الروسية وتقوى الشكوك حول هذه الطائفة عند التدقيق العلمي، لأن اغلب الدراسات الشائعة تقول بعابدتهم للشيطان بينما ثمة دراسات أخرى لا سيما من أبناء هذه الطائفة تنفي هذا، والرؤية التقليدية هي أن اليزيدية تدين بعبادة الشيطان بسبب تأثرها بالعقيدة الزرادشتية، فهم بقية عبدة اهريمان، وقيل لأنهم يعتقدون أن الشيطان تاب إلى الله والله قبل توبته، فرجع يتعبد مع الملائكة، والذي أسسها حسب هذه الرؤية هو عدي بن مسفر المتوفى حوالي 1154م، والذي قال بتحريم لعن الشيطان.

ويعتقد آخرون أن هذه الفرقة ظهرت في العصر العباسي من مجموعة أحاديث كبار المتصوفة في بغداد، ولهم كتابان مقدسان أحدهم يسمى(الجلوة) وفيه خطاب الإله إلى اليزيدية خاصة ويشتمل على عقيدة تناسخ الأرواح ويؤكد ان الكتب السماوية بُدلت وحُرّفت، أما الكتاب الثاني فيسمى “مصحف رش” أي الكتاب الأسود، وفيه الشرائع التي أنزلت إليهم، ومنها الإباحية، وشرب الخمر وارتكاب الفواحش.

وقد وصلتنا وثيقة من عام 1022م في أورانس بفرنسا، أشارت إلى أنه حوكم عدد من الأفراد لاشتراكهم في عبادة الشيطان، كما ظهرت فرق مشابهة في إنجلترا والنمسا تبتهل للشيطان، وقد اكتشفت الكنيسة هذه الفرق وقامت بحرق مجموعة من اتباعها وقتلت زعيمها ما بين عام1310 و1325م، ولكن الحرق والقتل لم يقض على عقائدهم الشيطانية، إذ ظهرت بمدينة “تولوز” جماعة تدعو لنفس العقائد، لاسيما التضحية بالأطفال وقد خطفت مئات الأطفال لهذا الغرض بين عامي 1432 ـ 1440م.

وثمة إشارات في المراجع المختلفة تصف فرسان الهيكل وجميعية الصليب الوردي في القرون الوسطى مع عبدة الشيطان وتنسب لهم كثيرا من المعتقدات المذكورة أعلاه. وظهرت في القرن 17 فرق مشابهة مثل “باكين”، و”الشعلة البافارية”، والشعلة الفرنسية، وأخوة أسيا، وكلها ذات طقوس ومفاهيم تؤله الشيطان.

هناك نمط آخر في اليهودية والمسيحية لرؤية الشر في العالم وهو النمط الذي يعد الشيطان هو الأساس في وجود الشر في العالم، لكن هذا الشيطان ليس كائنا قديما ازليا، ولكنه مخلوق، كان في البدء خيّرا، ثم تمرد على الأمر الإلهي وتحول كائنا شريرا يسعى لغواية البشرية. إن الكتاب المقدس في رؤيته للعالم لا يستطيع ان يحقق اتساقا داخليا في نسق عقائده دون افتراض شيطان ماكر يلعب دورا رئيسيا منذ بداية التاريخ البشري في محاولة إضلال الإنسان ولذا فإن اليهودية والمسيحية من النمط الذي يرد الشر إلى الشيطان المتمرد.

وفي عام 1996 م ظهر كتاب “إنجيل الشيطان” في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية، وأسس مؤلف الكتاب “انطوان تليدر ليفي” أول معبد لعبادة الشيطان، ثم أنشئت معابد أخرى في عدة بلدان أمريكية وأوربية، وفي هذا السياق من التخبط الذهني والروحي ظهرت عدة مؤلفات له “الطقوس الشيطانية” و”الساحر الشيطاني” و”مذكرة الشيطان”، كما ظهرت كتابات أخرى مثل “صمت أبليس” تأليف د. لورانس بازدر، وتكونت طائفة أخرى بزعامة “مايك وازنكي” تزعم أن الملة الشيطانية تشمل بعض التيارات المسيحية مثل روحانية العصر الحديث، كما توجد جماعات عبدة الشيطان في منطقة “بروكن بابك” المقدسة عند عبدة الشيطان بجبال هرينس بألمانيا.

وفي عام 1980م فضحت ميشيل سميث في كتابها “ميشيل تتذكر” كل رذائلهم بعد أن خرجت من طائفتهم، ووصفت ما تعرضت له من تعذيب جنسي، وشرحت كيف يقومون بعمليات تضحية بشرية كجزء من سحرهم الأسود الذي يقوم على الاعتقاد بأن الألم الذي يتعرض له الضحايا يزيد من فعاليته.

ومن أسف فقد وجدت هذه المعتقدات الشيطانية لها سبيلا في بلدان بعض الدول العربية مثل مصر والأردن والمغرب … نتيجة حياة الترف والتحلل الاجتماعي والفراغ الروحي الموجود عند بعض فئات الطبقات الغنية، وقد تم القضاء على أتباعها بالسجن.

عبادة الشيطان والحداثة: يقدم الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقالة له عن العبادة الإبليسية أنها ثمرة من ثمرات الحداثة المنفصلة عن القيمة، ورغم ان هذه الحداثة تضرب بجذورها في التشكيل الحضاري الغربي الحديث إلا أنها أصبحت جزءا من تشكيلنا الحضاري، خاصة بين أعضاء الطبقات الثرية التي تم تغريبها، وهناك العديد من الأساطير الشيطانية التي تسيطر على هذه المنظومة، من ذلك أسطورة “برومثيوس” الذي سرق النار (أي المعرفة) من الآلهة وأعطاها الإنسان كي يبدأ الحضارة، فقامت الآلهة بتعذيبه، وهناك أسطورة “فاوستوس”، هذا العالم الذي باع روحه للشيطان كي يحصل على المعرفة . وفي خلفية كل هذه الأساطير توجد قصة السقوط في العهد القديم التي تقول إن الشيطان أغوى الإنسان وجعله يأكل من شجرة المعرفة المحّرمة.

وثمة عنصران أساسيان: العنصر الإلهي والعنصر الشيطاني، وفي جميع الحالات ينضم الإنسان للشيطان ويرفض الإله حتى يصل إلى المعرفة الكاملة، ومن ثم يتحكم في الكون، وهو في موقفه هذا ينكر فكرة الحدود ذاتها، ليصبح إنسانا متألها، إرادته ورغباته ليس لها ضابط او رابط، وبالتالي فإنه يستمد معياريته من ذاته وحدها، أي لا يعبد إلا ذاته، وهذا هو جوهر الفكر(الإبليسي).

إبليس هنا ليس كائنا له قرون وذيل وإنما هو يتمثل في فكرة إنكار الحدود وإعلاء الذات والإرادة، وهي فكرة محورية في الحداثة المنفصلة عن القيمة، ظهرت بشكل مباشر في الرؤية الداروينية الاجتماعية، ثم في الفلسفة “النتشوية” التي تهاجم العطف والمحبة والعدل والمساواة باعتبارها أخلاق الضعفاء، والعالم في منظروها ليس سوى حلبة صراع، لا يوجد فيه عدل أو ظلم، وإنما فقط قوة وضعف ونصر وهزيمة، والبقاء ليس للأفضل، وإنما للأصلح من منظور مادي، أي للأقوى من هذا المنطلق، ثمة مطلق واحد هو إرادة الإنسان، البطل القوى المنتصر، الإنسان المتأله، أي الشيطان بالمعنى الفلسفي.

هذه النزعة الشيطانية لا تعّبر عن نفسها من خلال أفكار مجردة، وإنما من خلال أفكار بسيطة تتغلغل في حياتنا، فمن أهم قناعاتنا وثوابتنا الآن أن الهدف من الحياة هو البحث عن اللذة وتعظيم الفائدة، ثم إن الأمور كلها نسبية، باعتبار أن كل شيء يتغير بما في ذلك المعايير، ومن ثم فالعالم لا مركز له، ولا توجد مطلقات معرفية أو أخلاقية، الأمر الذي يتعذر في ظله التواصل بين الناس، هذه الرؤية العدمية تفضي بالإنسان إلى حالة من الخواء الروحي لا نظير له، ولم يعرفه في تاريخه، إذ يصبح الإنسان حبيس “قصته الصغرى” كما يقول دعاة ما بعد الحداثة، وليس لديه “قصة كبرى” أي منظومة فلسفية أو دينية شاملة تفسر له عالمه وتسبغ عليه شيء من المعنى.

إلى جانب هذا الفراغ الفلسفي يظهر فراغ اجتماعي ونفسي متعدد المصادر، ففي عالم الحداثة المنفصلة عن القيمة كل شيء مباح، ويجد الإنسان نفسه محاصرًا بعدد هائل من الأشياء المباحة، التي لا يمكن للجهاز العصبي استيعابها، فعقل الإنسان، لا يمكنه استعياب كل شيء، وما تعدد السلع إلا مظهر من مظاهر التعددية المفرطة هذه، التي تجعل الإنسان في صيرورة دائمة، لا توسع من نطاق حريته وإنما تقوضها، وتقوض مقدرته على الاختيار، حدث ذلك في وقت تآكلت فيه الأسرة، فأصبح الإنسان يتيما بشكل حرفي يواجه العالم وحيدا، بغير معين، فقد جرى تهميش الإله، وفقد المرجعية الدينية والاجتماعية والأسرية.

أدى الإحساس باليتم هذا إلى ظهور حاجة إلى جماعة أو تنظيم أو ديانة جديدة، تملأ الفراغ الذي خلّفه غياب المرجعية وتفتت المجتمع وتراجع الأسرة، الأمر الذي أدى إلى ظهور عبادات وديانات جديدة في الغرب تشبع هذه الحاجة. ومن الظواهر المدهشة أنه كلما تصاعدت معدلات التحديث والعلمنة (بما استصحبه ذلك من تقليص لنطاق الغيب والمطلق)، تزايدت العبادات الجديدة ذات الطقوس البدائية الوثنية المغرقة في اللاعقلانية والجهالة، فظهر ما سُمى T.M أو Transcendental Meditation أي التأمل المتجاوز، وهاري كريشنا، وما يسمى بعبادة العالم الجديد (كأن يعبد الإنسان أشكالا هندسية أو قطعة من الكريستال) وانتشر المنجمون والعرافون والسحرة (المعروف أن زوجتين ريجان وكلينتون لجأتا إلى العرافين قبل اتخاذ العديد من القرارات الحاسمة) وعبادة جايا (أي عبادة الكرة الأرضية).

الشيطان والرؤية الإسلامية

ومن الغريب أو العجيب أنه يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير! هكذا جاءت فاتحة كتاب “إبليس” للمفكر الراحل عباس محمود العقاد. يدافع العقاد عن وجهة نظره فيقول: “كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يُعرف الشيطان بصفاته وأعماله وضروب قدرته وخفايا مقاصده ونياته، كان ظلام لا تمييز فيه بين طيب وخبيث ولا بين حسن وقبيح، فلما ميز الإنسان النور عرف الظلام” وهكذا فتاريخ الإنسان عند العقاد لا ينفصل عن تاريخ الشيطان وأوله هذا التمييز بين الخير والشر.

عندما نتأمل الوجود الإنساني بمعايير تلازم وتناقض الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، فإننا سوف نقف أمام صورة يصعب حدها بمقاييس أية مدرسة فكرية او فنية، وهو أمر يشير إلى تعقيد هذه الثنائية المقلقة للعقل والوجدان، مما جعل منها على امتداد التاريخ الإنساني إشكالية ترافق وجود الإنسان من أول صرخة يطلقها في الوجود إلى آخر واحدة يرافقه بها الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والأعداء، بل إن الوعي الإنساني قد رفعها في محاولاته تحديد المعنى الجلي والمستتر في وجوده وأفعاله إلى مصاف البداية الأزلية، وهي صيغة عصية على المنطق، لكنها معقولة برغبته في تفسير ما يكمن في أعمق أعماق نزواته المنكسرة في إرادة ما يريد، وما يعانيه من نهي منطقي أو أخلاقي لما يعتقده فضيلة تسمو على ما طبيعته.

ومن هنا فليس مصادفة ان نعثر على تسميات ونماذج شيطانية، تفوق في كميتها ونوعيتها، النماذج الملائكية، بل حتى في القرآن الكريم نعثر على 94 مرة يتكرر فيها اسم الشيطان بينما يبلغ عدد المرات التي يتكرر فيها اسم الملائكة 73 مرة، وهي نسبة يمكننا العثور عليها في الأدب والفن وقصص الأطفال وأحاديث العجائز وحكايات الشعوب وأعمال الفلاسفة وأقوال الحكماء.

كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول إن الشيطان هو المرافق الخفي لسر الأسرار اي لدراما الحياة المتذبذبة بين يقينين، وفي هذا يكمن أيضا سر(اختياره) مبدأ الدراما التاريخية ونهايتها للإنسان، وفي هذا أيضا يكمن مصدر الصراع التاريخي في التفسير والتأويل والمواقف والمساعي تجاه القوة التي تتحدى الإنسان وتنبع منه بقدر واحد.

ولكن يجب أن نعي أن الإسلام يختلف بوضوح عن كل الديانات الوضعية، بل ويختلف عن اليهودية والمسيحية التاريخيتين في تفسير وجود الشر في العالم، وفي النظر إلى الشيطان من حيث طبيعته، ودوره، وكيفية التغلب عليه فضلا عن وجود عناصر أخرى في الإسلام غير الشيطان لتفسير الشر في العالم، وقد استطاع هذا الدين ان يتخلص من أساطير القدماء ومن أوهام البشر ومن مغالطات بعض الفلاسفة المتأثرين بالديانات الوضعية أو المحرفة.

فالشر موجود من أجل إمكان الحرية الإنسانية، لأنه يمتنع القول إن الإنسان حر إذا كان مجبولا على الخير فقط، ولا يكتسب فعل الخير ميزته إلا إذا كان فعل الشر ممكن الحدوث، ومن هنا يمكن القول بأن الإسلام لا يقول بطبيعة شريرة في الإنسان، وإنما إمكانية للشر وللخير، موجودة في الإنسان كأساس ضروري للحرية فإمكانية الشر والخير هي التي تجعل الحرية ممكنة، والشر ليس محركه الشيطان فقط، بل النفس أيضا عندها القابلية.