تنهدات القلب

من بين مرور الساعة بسرعة، ليال قضت فأصبحتُ ونهار مضت فأمسيتُ، ووصلت أمام أشباح انعكاسي المختلفة، أمام بحر تموج في أطلالها موجعات قلبي المتلاطمة وأفراح نفسي المتراغبة.

أصبحت بنفسي مصبورة تتوغل في عروقها روح اليأس والأمل معًا، تتصفّح في كتابها صفحات الحياة والموت معًا، فاسودّت ورقة وتليها نور. توهّمت الليلة سعيدة فجلا لي فجر صادق بطلوع شمس مشرق، جاوزت صحراء على رمل فوجدت آثاري بين جلاء وخفاء. سمعت الصدق والكذب معا بشفتي روحي تُهمسان في آذان نفسي، فانتهيت إلى زاوية البساتين المزهرة المزخرفة وشاطئ البحور المتلاطمة غير الثابتة، فهنا توارت أماني الخرافيّة وانزوت أفراحي الفانية وغارت دموعي وابتساماتي اللاأصيلة فكل بدر منير أعتق لساني فتكلّمت وكل شمس مشرق مزّق أجفاني فبكيت ففتحت حنجرتي فشكوت وتنهّدت..

دنياكم حبيبة لكنّها غدّارة

علمت أنّ الدنيا زائلة، وكلّ ما اتصل بها سراب، يخدعك ولا يهديك، وجدت الحياة تورق خضرة فتصفر، وتفوح فيها وردة فتذبل. نعم، هذه الورقة لا تعلم أنّ الساعة تمر والزمان سيذبله ويدفنه ما بين الأوراق البالية من زمن مضت، الدنيا مخرسة بعدما تنطق لها، وهي مدلهمّة بعدما أشرقت لك وجهها، وهي تحف بالظلمات العاتية بعدما استحلى قطعة مسحرة من فواكهها المريرة.

توهّمت الكذب تهدى فرأيت الطريق مملوءا بالعقارب، والصدقَ تقتل فعلمت ماذا يعنى الصراط المستقيم، اشتاق العينان واليدان والرجلان لتعصي مولاي، لترغب عن الله الّذى لا تخفى عليه خافية، لترغب في الشهوات الفانيات، لتقبح ما وراء الأبواب المغلقة والأستار المرخاة في النوافذ العظيمة، أمام العليم البصير الّذى يبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء وهي ماشية، فانتهيت، ووجدت نفسي في عرض اليمّ السود تتدافع الأمواج سفينتها الراقصة بتلاطمها المبهرة، بل تخوّفها غدر الزمان والحوادث المروّعة.

فتيقّنت، أيّام مضت على جلوسي في الزّاوية، حان لي أن أنهض مجدّدا، أن أصل إلى مبتغاي، أن أعبر كلّ عراقيل أحلامي، أن أضع قدمي، أن أبدأ بالتضحية والمثابرة، وعلمت أنّ الحلم انتهى، وهذا الوقت وقت التنفيذ، فلأصلنّ إلى أحلامي ولأكسّرنّ كلّ عقبات الظلام والفشل، فأُصبحَ فخر الزمان، وسطورَ الصفحات المشرقة، وبعد كلّ هذا جلا لي عبارة مشرقة “التقوى مدار الكلّ”.

تزوّدوا بالتقوى فإنّ الرحلة طويلة

تماما، انتبهت وانتهضت بحمد الله ولكنّ الزاد قليل، علمت أنّ الرحلة تطول ومواسمي مضت غير زرع ولا حصد، فليس عندي أيّ زاد ليوم الميعاد، أضلّنى غفلتي والإغترار، ثمّ التعامي وعدم الاعتبار، كيف أصلّى؟ وأنّ قلبي في مكان وجسمي في مكان، وكيف أتصدّق؟ أبذل وأنا للعيون مشتاق، وكيف أخشى؟ وأنّ صحيفتي بالذنوب سود وقلبي بالمعاصي قد حفّت. نعم، فهمت أنّ الزمان مضى وانقضى كأنّه ما كان.

فيا ربّى لا بدّ لهذه الأمور من أخير، لا بدّ للعيون أن تدمع، وللقلوب أن تخشع، ولنفسي أن تتواضع، فأغيب في عالم الحبّ والانعطافات مع ربّى، وأمتزج مع النجوم الوهّاجة خارجا عن مستنقع اليأس والقنوط، وأجعل الدنيا مزرعًا للآخرة، حينئذٍ، أنسى كلّ ذكرياتي الأليمة.