يأتي كولن -في إطار إسلامي تَفصله قرون عديدة عن كونفوشيوس وسقراط- ليقدم نظرية مشابِهة كثيرًا في التعليم والروح والتنمية الإنسانية، حيث ينظر إلى النفس الإنسانية -مثل زميليه القديمين- باعتبارها كيانا يشتمل على مكونات جسدية وعقلية وروحية. وكلُّ مكون من هذه المكونات يجب تنميته بشكل سليم لبلوغ أقصى الإمكانات البشرية. وهذه التنمية تحدث من خلال التعليم. ويوضح كولن ذلك فيقول:
“إن الإنسان ليس مخلوقا يتكون من جسم فقط أو عقل فقط أو مشاعر فقط أو روح فقط، بل هو عبارة عن مزيج منسجم من كل هذه العناصر. فكلٌّ منا له جسم ينطوي على مجموعة متشابكة من الحاجات، وكذا عقلٌ له حاجات أكثر دقة وحيوية من الجسم، وتسيطر على هذا العقل مخاوف بشأن الماضي والمستقبل. (…) كما أن كل إنسان هو مخلوق مكون من مشاعر لا تكتفي بالعقل وروحٍ نكتسب من خلالها هويتنا الإنسانية الفعلية. فكل فرد هو هذا كله معًا، وعندما يُنظر إلى الإنسان، رجلاً كان أو امرأة -وهو الذي يدور حوله كل شيء من جهود وأنظمة- باعتباره مخلوقًا يحمل كل هذه الجوانب، وعندما يتم تلبىة كل حاجاته، فإنه سيصل إلى السعادة الحقيقية. وفي اللحظة الراهنة، لا يمكن تحقيق التقدم والتطور الإنساني الحقيقي فيما يتعلق بكيانه الأساسي إلا بالتعليم”.[1]
هنا، نرى تشابهًا مع تعريف سقراط للنفس الإنسانية بتقسيمها إلى ثلاثة جوانب متمايزة: العقل أو الروح، والدوافع، والجسد. وكل هذه الأجزاء يجب أن يتم تنميتها بشكل سليم ويجب أن تعمل في نظامها الصحيح داخل الإنسان لبلوغ كمال الإنسانية. ويُبدي كولن رأيًا مماثلاً في هذه الفقرة، وهو أن كل رجل أو امرأة عبارة عن تركيبة معقدة من المكونات التي يجب تنميتها في نفسها، والتي يجب تنظيمها بشكل متآلف ومنسجم داخل النفس لتحقيق التقدم الإنساني.
هذه الفقرة وغيرها من الفقرات المشابهة تشكل جزءًا من مناقشة أوسع للتاريخ يتتبع فيها كولن مراحل تطور الحضارات سواء في الشرق أو الغرب، فيقول: إنه رغم هيمنة الحضارة الغربية على العالم في القرون الماضية وصدارتها في مجالات العلم والتكنولوجيا، فإن نظرة الغرب الحديث إلى العالم هي نظرة مادية وبالتالي فهي قاصرة، ذلك أن الفكر الغربي يتعامل مع البشر بمنظور شديد المادية ويسعى لتحقيق الإنجاز الإنساني من ذلك المنظور الضيق، في حين أنه يضحِّي بالأبعاد الأخرى للإنسان، وهي الأبعاد الروحية، وهذه التضحية أدت إلى العديد من الأزمات الاجتماعية. ويتلخص جزء من رؤية كولن للمستقبل في الجمع بين أفضل ما في الثقافة الغربية -وهو التطور العلمي والتكنولوجي- وأفضل ما في الثقافة الشرقية -وهو القيم الروحية والأخلاقية- لإيجاد ثقافة إنسانية أكثر تطورًا وشمولية تنقل هذا الواقع بأكمله إلى عصر جديد.[2]
ويرى كولن -مثل سقراط وكونفوشيوس- أن أي فرد أو مجتمع لا يمكنه بلوغ أقصى إمكاناته بدون التعليم، فهو يعتبر التعليم الوسيلة التي يصبح بها الناس كما أرادهم الله حين خلقهم، ومن ثم فإن التعلم هو أهم الواجبات في الحياة. يقول كولن:
“الواجب أو الغرض الرئيسي للحياة الإنسانية هو السعي من أجل المعرفة الإلهية، وما يُبذل من جهد في سبيل ذلك -وهو ما نطلق عليه التعليم- هو عبارة عن عملية سعي نحو الكمال نكتسب من خلالها -في كل الأبعاد الروحية والفكرية والجسدية لذواتنا- المكانةَ التي حُددت لنا كأكمل نموذج للخَلْق. وواجبُنا الرئيسي في الحياة هو اكتساب الكمال والنقاء في تفكيرنا وتصوراتنا وإيماننا. وبأداء واجبنا في العبودية للخالق الرازق الحفيظ، وبمحاولة إدراك سر الخلق من خلال ما لدينا من قدرات وإمكانات، فإننا نسعى لبلوغ مكانة الإنسانية الحقة والفوز بالنعيم والخلود في عالم آخر أكثر سموا”.[3]
هنا، يضع كولن التعليم والتعلم في صلب الغرض الأساسي من الوجود الإنساني، وبتعبير آخر أن الهدف من حياة الإنسان هو أن يصبح إنسانًا كاملاً، وهذا تم بطلب العلم والمعرفة. وكولن، كمسلم، يضع هذا الأمر ضمن السياق الأكبر للعبودية لله، ولكن يمكن بنفس البساطة أن نصوغه في سياق أكثر اتفاقًا مع فكر أرسطو، وهو أن غرض كل شيء ووظيفته هي أن يكون هو نفسه بكل كماله واكتماله، وكل شيء بطبيعته مزودا بالقدرات والعناصر الداخلية التي تجعله هو نفسه بشكل كامل، إذا توافر الإطار الملائم. فالبشر يولدون ولديهم القدرة على أن يصبحوا بشرًا بكل معنى الكلمة، ويعتقد كولن (مثل أرسطو وسقراط وكونفوشيوس وكثيرين غيرهم) أن الآلية الفطرية لتحقيق الإنسانية بشكل كامل تكمن في قدرتنا على التعلم. يقول كولن:
وبما أن الحياة “الحقيقية” لا تأتي إلا بالمعرفة، فإن من يهملون التعليم والتعلم يُعتبَرون “ميتين”، حتى وإن كانوا أحياء من الناحية البيولوجية، فقد خُلقنا لنتعلم ونَنقلَ ما تعلمناه إلى غيرنا.[4]
يتحدث كولن في مختلف أجزاء مؤلفه عن حاجة كل الناس إلى التعليم العام حتى يمكن لأي حضارة من الحضارات أن تؤدي مهامها، فيقول: “إن الناس لا يكونون “متحضرين” إلا بقدر ما يحصلون عليه من تعليم، وخاصةً القيم التقليدية الخاصة بثقافة معينة، فالتماسك في الحياة على كافة المستويات يأتي عن طريق تعليم كل المواطنين في أي أمة أو دولة رؤيةً واحدة مشتركة ومنظومةً أساسية من القيم”. إلا أن هذه الحركة العالمية للتعليم عند كولن تتعدى التركيز على مجموعة محددة من القيم أو المعايير الثقافية، فالمدارس الألف تقريبًا (في وقت تأليف هذا الكتاب) التي استلهمت فكر كولن، والتي تنتشر في جميع أنحاء العالم، تدرس للأطفال والشباب جميع المجالات والتخصصات الدراسية، من العلوم والرياضيات والتاريخ واللغة والأدب والدراسات الاجتماعية أو الثقافية والفنون والموسيقى وغيرها. وقد قام الكثيرون ممن ألهمتهم تعاليم كولن بإنشاء مدارس في تركيا بعد سماح الحكومة بإنشاء المدارس الخاصة بشرط أن تظل ملتزمة بالمناهج التي تفرضها الدولة وتخضع لإشراف الدولة. وتتبنى المدارس التي تتأثر بأفكار كولن في البلدان الأخرى نفس الاتجاه التربوي الأساسي الذي تتبناه المدارس في تركيا، ولكن بدرجة أكبر من التفاعل مع الثقافة والقيم الوطنية لتلك البلدان. حتى إن كولن نفسه لديه اتصال بسيط للغاية -إن وجد- مع هذه المدارس، بل ولا يَعرف بدقة عددَ هذه المدارس أو حتى أسماءها، فقد حفَّز مثالُه الرائد كتربوي -وكذلك أفكاره عن التعليم والمجتمع العالمي والتقدم الإنساني وغير ذلك- جيلاً كاملاً لإنشاء المدارس في جميع أنحاء تركيا ووسط آسيا وأوروبا وإفريقيا وغيرها من المناطق لمحاربة المشاكل الناجمة عن الجهل والفقر والشقاق.
وتتلخص البنية والشخصية الأساسية لتلك المدارس في أن تمويلها يأتي من المؤسسات الخيرية والجماعات الأهلية ومصاريف الدراسة، وتساهم الإدارات المحلية بتوفير البنية التحتية، ويعمل المدرسون فيها بدافع خدمة الغير وبأجور منخفضة غالبًا. وكما ذكرتُ سابقًا في مقدمة هذا الكتاب، فقد زرت الكثير من هذه المدارس في مختلف أنحاء تركيا والتقيت بداعميها من رجال الأعمال المحليين وقيادات المجتمع المحلي الذين تلاقت جهودهم لإنشاء تلك المدارس في مجتمعاتهم المحلية. وفي حالات كثيرة تكون أبنية تلك المدارس هي الأحدث في المنطقة، وتمتلئ الجدران بصور الطلاب الذين تسلموا أوسمة في مختلف المسابقات الدراسية محليًا ودوليًا وزيارات لعدد كبير من الوزراء ونواب البرلمان في تركيا، وتحتوي على حجرات دراسة ومعامل وتجهيزات على أعلى مستوى حتى بعد أن يستخدمها مئات الطلاب الشغوفين، وطلابها أذكياء ومنفتحون ومتحمسون لاستعمال لغتهم الإنجليزية مع الزوار الأمريكيين، أما مسؤولو هذه المدارس والإداريون والمعلمون فلديهم التفاني والتركيز ويفتخرون بمدارسهم وطلابهم، والكثيرون منهم يقيمون مع الطلاب في مقار المدارس التي توفر الإقامة. وقد جلست على مائدة الطعام مع الكثير من الأسر التركية التي ترسل أطفالها إلى تلك المدارس، وسألتهم نفس السؤال الذي أطرحه في كل مدينة وكل منطقة: لماذا ترسل أطفالك إلى هذه المدرسة؟ وكانت الإجابة واحدة في كل مرة، وهي تفاني المعلمين، وجودة المناهج، والرؤية العامة التي تنشرها المدرسة -عن طريق المعلمين- فيما يتعلق بالإنسانية العالمية والتعليم والتسامح والحوار.
ولا تشمل رؤية كولن التربويةُ المدارسَ وحدها، بل تشمل أيضًا الأسر والمجتمعات والإعلام، فكل المكونات الرئيسية للمجتمع يجب حشدها من أجل تعليم الشباب وإكسابهم جميع المعارف والمعلومات المفيدة،وهو شيء في غاية الأهمية؛ لأن مستقبل أي أمة أو حضارة يتوقف على شبابها. يقول كولن:
“إن من يريدون ضمان مستقبلهم لا يمكن أن يهملوا كيفية تعليم أطفالهم وتربيتهم، فينبغي أن تتعاون الأسرة والمدرسة والبيئة المحيطة ووسائل الإعلام بكل أشكالها لضمان تحقيق النتيجة المنشودة… [وإذا لم يؤد واحد أو اثنان من هذه دوره فهذا يعني أن الشباب قد ترك ليتضارب في هذا الجو من المتناقضات. فإذا لم تكن المدرسة متعاونا مع الأسرة، وإذا لم يتعاون الإعلام مع الأسرة والمدرسة، وإذا لم تكن البيئة في خط هؤلاء… فستكون العملية التربوية منحصرة في الإطار الذي تُجرى فيه. ومن البدهي أن هذا التأطير لن يأتي بالفائدة المرجوة] وبتحديد أكبر، ينبغي على الإعلام المساهمة في تعليم النشء عن طريق اتباع السياسة التربوية التي يرضاها المجتمع. والمدرسة يجب أن تكون على أفضل ما يمكن من حيث المناهج، والمعايير العلمية والأخلاقية للمعلمين، والحالة المادية للمكان. أما الأسرة فيجب أن توفر الدفء والجو المناسب لتنشئة الأطفال”…[5]
المصدر: كتاب محاورات حضارية للدكتورة جيل كارول.
[1] Gülen, Essays, Perspectives, Opinions, 80. (كولن، مقالات ورؤى وآراء)
[2] Gülen, Pearls of Wisdom, 231–232. (كولن، الموازين أو أضواء على الطريق)
[3] Gülen, Toward a Global Civilization of Love and Tolerance, 202.
(كولن، نحو حضارة عالمية من المحبة والتسامح)
[4]() المصدر السابق، ص 217.
[5]() المصدر السابق، ص 206-207.