قيم في الحضارة العربية الإسلامية

من المقدمات المضمرة التي أنبنت عليها فلسفة القيم الحديثة من نيتشه إلى شيلر المبدأ القائل: ما من “فعل” يأتيه الإنسان، أيًّا كان نوعه ووجه مأتاه، إلا وشأنه أن يستند إلى “قيمة” معينة تعلو عليه وتوجهه، سواء أكانت هذه القيمة قيمة دنيوية متعلقة بأمور الدنيا أم كانت قيمة دينونية متعلقة بشؤون الدين، بدءًا من أبسط الأفعال التي يأتيها الإنسان عفوًا فإلى أعقدها مأخذًا، وصعدا من أخسها مأتى ولو على جهة السلب (سلب القيمة) إلى أشرفها إتيانًا، وذلك كأن نأتي فعل “الصدقة” (التصدق)، مثلاً، فهذا الفعل إن أنت تأملته، فإنك واجده لا محالة إما فعل نابع عن قيمة متعالية مفارقة (الإحسان إلى الغير ابتغاء مرضاة الله) أو متأت من قيمة دنيوية محايثة مباطنة (الإحسان إلى الغير لأجل سمة “الإنسانية” المشتركة بين المحسن والمحسن إليه). ونحن إذا ما استطعنا أن نعيد قراءة كتب التراجم والسير والطبقات والتواريخ والمشيخات والمناقب وما أكثرها في الثقافة العربية الإسلامية على ضوء هذه المقدمة المجملة، لتبين لنا آنها أن الوفير من المرويات والحوادث والمكرمات إنما كان يصدر أصحابها -سواء وعوا ذلك أم لم يعوه- عن قيم معينة اشترك في الإيمان بها بعض أهل هذه الثقافة. يضاف إلى هذا، أن من شأن تقليبنا بأشد تقليب يكون وأدقه في تقليد كتب “الآداب” التي لم يترك العرب منها أدب علم ولا أدب عمل إلا كتبوا فيه (من آداب الطبيب إلى آداب دخول الحمام)، أن يوقفنا على أنها تمتح من منظومة القيم العربية الإسلامية متحًا.

أكد بعض أهل الفكر من القدامى على أن الأصل في الأشياء الاختلاف لا الائتلاف كما يدعى عادة. فشكلوا بذلك رؤية أنطلوجية اختلافية لا ائتلافية.

هذه حكاية حدثت بين فيلسوف وصوفي توضح مسألة صدور “الأفعال” عن “القيم” هذه. فقد ذكر ابن الزيات في التشوف أن أحد تلامذة ابن رشد أبي القاسم عبد الرحمن بن إبراهيم الخزرجي قال: “بعثني أبو الوليد بن رشد من قرطبة وقال لي: إذا رأيت أبا العباس السبتي بمراكش فانظر مذهبه وأعلمني به. قال: فجلست مع السبتي كثيرًا إلى أن حصلت مذهبه، فأعلمته بذلك، فقال لي أبو الوليد: هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود، وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسفة[1].” المغزى البين من هذه الحكاية أن الحكيم سمع بأفعال يأتيها الصوفي، على رأسها التصدق ما أمكن، فأراد أن يستخبر عن أي قيمة تصدر، فكان ما كان: كان الفعل “الصدقة”، وكانت القيمة “الجود”. ووجه آخر من وجوه قيمة “الجود” هذه المرة معنوي. ذلك أنه إذا كان المفكر الفرنسي بول ريكور قد عَرَّفَ “الترجمة” بما هي “فعل” تواصل بين الشعوب بغاية التعارف على أنها “وفادة ورفادة” مع ما يقتضيه هذا الأمر من أريحية الوفادة وحسن الرفادة، فإن ابن رشد لربما قد تنبه إلى هذا الأمر وإن على نحو آخر وفي مناسبة أخرى، فكان أن أوثر عنه القول: “يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبّهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.”

ولما هو استحال علينا في هذا المقام أن نحيط العلم بهذه القيم التي تكاد لا تنقضي، فقد انتقينا منها ثلاث: قيم الاختلافية والتعددية والرحمية، وتتبعنا بعض لويناتها في التراث العربي الإسلامي بغاية التذكير والتأسي.

في قيمة الاختلاف

الشائع عن تراثنا أنه تراث ائتلاف وإجماع. مبناه على هوية لا اختلاف فيها، ومبغاه ألفة لا غربة فيها. على أنه يمكن تنسيب هذه الصورة ببيان أن التراث ما كان ينشد هو سوية بالكلية، وإنما شهد على بعض مظاهر تعددية. وقد أمكن التأصيل لهذه الاختلافية نظريًّا، أنطلوجيًّا، وعمليًّا، اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا.

من الجهة الأولى، أكد بعض أهل الفكر من القدامى على أن الأصل في الأشياء الاختلاف لا الائتلاف كما يدعى عادة. فشكلوا بذلك رؤية أنطلوجية اختلافية لا ائتلافية. ذلك أن العرب عرفت مبدأ “الاختلاف” القائل: “حيث كانت المماثلة والمقابلة فالمغايرة حاصلة” “الصوفي علي بن وفا [2].” وقد قال ابن عربي في هذا السياق: “والطبيعة لا تلد التوأم”؛ بمعنى أن الأصل في الأشياء الاختلاف لا الائتلاف والتباين لا التماثل. وأكد الإمام الشاطبي هذا المبدأ فقال: “ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي سواهما عنهما”، وأضاف: “ولو فرض التماثل في كل وجه فهو نادر، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا. والغالب المطرد اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب [3].”

هذا على جهة النظر التأصيلي لقيمة الاختلاف من حيث أنه الأصل لا الفرع، أما ما يلزم عنه، على جهة العمل هذه المرة، فقد تنبه العديد من مفكري الإسلام إلى “فكر الاختلاف” هذا الذي يحفظ حظ “المباينة” ويرفض ظلمة “السوية” كل التنبه. وقد أورد أبو حيان التوحيدي على لسان وزير الإمتاع والمؤانسة ـ ابن سعدان ـ القول: “قلما يُرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلا يتباينان في الباطن [4]”؛ إذ من شأن هذين الشخصين المتوافقين أن يتخالفا في تصاحبهما وأن يتصاحبا في تخالفهما. ذلك أن من أمر التشابه المطلق بين فردين، إن هو وجد ولن يوجد، أن يكون محض وهم أو يكون وهما محضا. وقد نبه إلى هذه المسألة الفيلسوف أبو الحسن العامري لما قال: “كلما كان الاشتباه أشد كان الفرق ألطف [5].” وذلك مثلما نبه إليها الحكيم الحسن بن مقداد في قوله: “إن الناس في أصل جبلتهم، وبدء خلقتهم، وأول سننهم، قد افترقوا مجتمعين، واجتمعوا مفترقين، واختلفوا مؤتلفين، وائتلفوا مختلفين، وأحساسيهم متوقدة، وظنونهم جوالة، وعقولهم متفاوتة، وأذهانهم عاملة، وآراؤهم سانحة. وكل منهم يتفرد بمزاج وشكل، وطباع وخلق، ونظر وفكر وأصل وعرق، واختيار وإلف، وعادة وضراوة ونفرة، واستحسان واستقباح، وتوق ووقفة، وإقدام وجسارة، واعتراف وشهادة، وبهت ومكابرة. هذا سوى أغراض كثيرة مختلفة لا أسماء لها عندنا خالصة ولا صفات متميزة [6].”

الشائع عن تراثنا أنه تراث ائتلاف وإجماع. مبناه على هوية لا اختلاف فيها، ومبغاه ألفة لا غربة فيها. على أنه يمكن تنسيب هذه الصورة ببيان أن التراث ما كان ينشد هو سوية بالكلية، وإنما شهد على بعض مظاهر تعددية.

هذه الصداقة مثلاً، من مفكري العرب وحكمائهم من تفطن إلى أن الشأن في الصداقة الحقة ألا تلغي الحد الذي بينك وبين صديقك، فتكون أنت هو وهو أنت، بل تكون بالأحرى أنت أنت وهو هو: فما نِعْمَ الصديق أنت إن كُنْتَ لي في كل أمر موافقا. فمن أمر الصحبة الحقة، هاهنا، أن تعرف الحد الذي بينك وبينه، فتكون أنت أنت وهو هو، لا أنت هو ولا هو أنت؛ بمعنى أن من أصول الصداقة التي عليها تتأسس “حفظ المسافة” بينك والصديق، بحيث تكون منه ويكون منك من غير قرب يُمل، ولا بعد يُنسي؛ إذ ما كان الأصل في كل خل أن يشاكل، لا ولا كان المبدأ في كل شكل أن يوافق. وإلا ما كان هذا صديقا، وإنما ظل صديق، بل ظل نفس. أكثر من هذا، ما كان صديقا، بل وكيلا، وكأن صاحبه تمنى وكيلا فسماه صديقا؛ إذ المستحب لك ولصديقك ألا تبعد عنه أو يبعد عنك البعد كله فتنسى إياه وينساك، لا ولا بالتلقاء أن تقرب منه أو يقرب منك القرب تمامه الذي تمله معه ويملك معه. وقد تنبه صاحب السؤال في كتاب “الهوامل والشوامل” إلى هذا المعنى حين سأل هو ابن مسكويه: “ما السبب في تصافي شخصين لا تشابه بينهما في الصورة، ولا تشاكل عندهما في الخلقة، ولا تجاور بينهما في الدار… وبينهما من الخلاف والاختلاف ما يُعَجِّب الناظر إليهما، والفاحص عن أمرهما… نعم، ثم لا تراهما إلا متمازجين من الأخذ والإعطاء، والصدق والوفاء، والعقد والولاء، والنقص والنماء، بغير نحلة عامة، ولا مقالة ضامة، ولا حال جامعة، ولا طبيعة مضارعة. ثم هذا التصافي ليس يختص ذكرا وذكرا دون ذكر وأنثى، ودون أنثى وأنثى [7].”

ولقد قدم الجاحظ ما يشبه تعليل هذه الفكرة، فقال: “إن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟” ذلك أن ثمة ما سماه أبو حيان التوحيدي ذات مرة “البينونة بين الإنسان ونفسه”، وذلك حتى أنه ذكر أنه يحدث أحيانا أن يخيل إليه أنه: “يجد الإنسان ونفسه كجارين متلاصقين يتلاقيان فيتحدثان، ويجتمعان فيتحاضران [8]”، فما بالك بالغير الذي هو غير نفسك؟

ومن أحاديث الصداقة المبنية على التخالف -في الفكر العربي القديم- الشيء العجب. هذان شاعران عربيان “الكميت والطرماح” تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما، وذلك بالرغم من أنهما كانا كنفس واحدة. اختلفا في النسبة والمذهب والمسكن، وتآخيا حتى كادا ألا يتخالفا قط. ومازالا يفعلان حتى صارا مضرب المثل في الصداقة، وذكرهما الجاحظ في كتاب “البيان والتبيين” فقال: “ولم ير الناس أعجب حالا من الكميت والطرماح. وكان الكميت عدنانيا عصبيا، وكان الطرماح قحطانيا عصبيا. وكان الكميت شيعيا من الغالية، وكان الطرماح خارجيا من الصفرية. وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح يتعصب لأهل الشام. وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط، ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه[9].” وذكر حالهما صاحب الأغاني، فقال: “كان الكميت بن زيد صديقا للطرماح، لا يكادان يفترقان في حال من أحوالهما. فقيل للكميت: لا شيء أعجب من صفاء ما بينك وبين الطرماح على تباعد ما يجمعكما من النسب والمذهب والبلد: هو شامي قحطاني شاري، وأنت كوفي نزاري شيعي، فكيف اتفقتما على تباين المذهب وشدة العصبية؟ فقال: اتفقنا على بغض العامة [10].”

ولعل مما يلزم عن القول بمبدأ “الاختلاف” القبول بقيمة “التعدد”:

في قيمة التعدد

ليس يتصور دين، كائنًا ما كان، لم تجر عليه سنة التعدد في المذاهب. كيف يكون الأمر على خلاف هذا وقد ثبت أنه: “لا سبيل إلى أن يكون الناس كلهم… على مذهب واحد” (أبو إسحاق الصابي)؟ وما كان الإسلام بدعًا من الأديان. والتعدد على ضربين: تعدد داخلي بين أهل الملة الواحدة، وتعدد خارجي بين أهل الملل المتباينة.

 الصداقة مثلاً، من مفكري العرب وحكمائهم من تفطن إلى أن الشأن في الصداقة الحقة ألا تلغي الحد الذي بينك وبين صديقك، فتكون أنت هو وهو أنت، بل تكون بالأحرى أنت أنت وهو هو

من جهة أولى، سلمت بعض حكماء العرب بحتمية التعدد المذهبي وما زالت تفعل حتى قال الصوفي زروق: “ما اتفق اثنان في شيء واحد من جميع الوجوه، وإن اتفقا في أصل الأمر أو فرعه أو بعض جهاته. ولذلك قالوا: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.” وقال أيضا: «من اتساع التصرف الإلهي أنه ما اتفق اثنان قط في طبيعة واحدة ومن كل وجه، ولا مشى اثنان قط في طريقة واحدة وإن اتحد المسلك؛ لأنه لا يقع قدم الثاني على قدم الأول في جميع المواضع، فسبحان الله العظيم الواسع العليم [11].”

وقد وجدت لهذه القيمة التعددية في التراث نماذج بديعة. هذه أم هانئ سبطة فخر الدين القاياتي تزوجت بالحسام محمد الركن… فولدت له شجاع الدين محمدا الشافعي، ثم سيف الدين محمدا الحنفي، ثم فاطمة، ثم الشرف يونس المالكي، ثم منصور الحنبلي[12]. وهذا الصوفي الزاهد أحمد البهلول ذكر عنه أنه: «كان يقعد في حانوت بباب الخرق، وله ابنتان جالستان عنده طول النهار، وأقرأهما القرآن، وحفظ واحدة كتابا في فقه المالكية، والأخرى كتابا في فقه الشافعية[13].” وقد ذكر الثعالبي في كتاب “المضاف والمنسوب” عن ابن عائشة أنه قال: “كان للحسن بن قيس بن حصين ابن شيعي وابنة حرورية وامرأة معتزلية وأخت مرجئة وهو سني جماعي. فقال لهم ذات يوم: “أراني وإياكم طرقا قددا”[14].”

أكثر من هذا، كثير من مفكري الإسلام حاربوا المذهبية الضيقة، وذلك بالقول بضرب من النسبية. ومازالوا يفعلون حتى لأنك واجد من يرفض أن يقول بالقول المذهبي في كل أمر أمر. هذا يونس بن حبيب، على اتباعه طريقة عمرو بن العلاء في النحو، كان يقول: “لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله كله في شيء، كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء كله في العربية. ولكن ليس من أحد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك [15]”، بل هذا إبراهيم بن محمد صدر الدين الشيرازي ذكر عنه حتى أنه: “قرأ على جماعة منهم والده ولم يسلك مسلكه وكان على ضد طريقة والده في التصوف والحكمة [16].” وكفاك بهذا احتفاءً بالاختلاف! ناهيك عن القاضي منذر بن سعيد البلوطي الذي كان، وقد غلب عليه التفقه بمذهب داود الظاهري ـ يؤثر مذهبه على غيره من المذاهب، ويجمع كتبه، ويحتج لمقالته -ما كان يأخذ بهذا المذهب إلا لنفسه وذويه، فإن هو جلس للحكومة، قضى بمذهب مالك وأصحابه- وهو المذهب الذي كان العمل عليه بالأندلس، وحمل السلطان أهل مملكته عليه… [17]، ودونك الفقيه الحافظ قاسم بن محمد بن سيار الذي قال فيه أبو الوليد بن الفرضي: “ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة، فقد كان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد، مع ميله إلى مذهب الشافعي، فإنه وقد أوصى ولده قبيل مماته، وما قال له: “عليك بكذا، أو إلزم كذا… فهو الأفضل والأكمل والأمثل … “، وإنما قال له: “عليك برأي الشافعي، فإني رأيته أقل خطأ [18].” وأتى أبو العباس بن البياني إلى الفقيه الإفريقي مالك بن عيسى القفصي فقال له: “حدثني ولا تحدثني إلا بما يوافق مذهبي”. فعطف الفقيه على الناس فقال لهم: “هذا رجل لا يحب أن يكون عالما[19].”

وأعظم منه، كم من مفكر عربي شجع تلامذته على الأخذ بمذهب غير مذهبه، وذلك حتى يتسنى تدافع الأفكار وتلاقحها وتثامرها. هذا القاضي عبد الجبار المعتزلي وكان آنها طالب علم أراد أن يقرأ فقه أبي حنيفة على أبي عبد الله البصري ـالمعروف باسم “الجعل”، فما كان من أستاذه إلا أن قال له: “هذا علم كل مجتهد فيه مصيب، وأنا في الحنفية، فكن أنت في أصحاب الشافعي [20].” وهذا الفقيه تقي الدين بن الغرس الحنفي حكى عنه الوادي آشي فقال: “وسألته هل يقع بين أهل مصر تنازع في تفضيل بعض المذاهب على بعض؟ فأجابني بأن هذا لا يقع عندهم بين أهل الرسوخ في العلم، وذوي المعرفة والفهم، وإنما يصدر هذا بين الناشئين… ثم قال: إن المنقول عن الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أن من حفظت عنه تسع وتسعون خصلة تقتضي الكفر وواحدة تقتضي الإيمان أن الواحدة المقتضية للإيمان تغلب وتبقى حرمتها عليه [21].” وفي مجال المحاورة، هذا الإمام فخر الدين الرازي كان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن الأجوبة، وكانت تحدث فيه المجادلات بين أهل الفكر على اختلاف أصنافهم ومذاهبهم [22]. وهذا شيخ الشافعية برهان الدين أبو إسحاق الفزاري، ذكر الصفدي في أعيان العصر أنه كان يخالف الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسائل، وما تهاجرا قط، وكل منهما يحترم صاحبه إذا اجتمعا، ولما بلغته وفاته استرجع وشيع جنازته.

ولقد قدم الجاحظ ما يشبه تعليل هذه الفكرة، فقال: “إن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟” 

ومن جهة التعدد الخارجي، فقد اتسمت الثقافة العربية بظاهرة فريدة تمثلت في التمرد على فكرة الاقتصار على المعرفة بالدين الأوحد. هذا العلامة الأندلسي محمد بن أحمد الرقوطي المرسي ترجم له صاحب كتاب الإحاطة، فقال: “كان طرفًا في المعرفة بالفنون القديمة، المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب، فيلسوفا طبيبا ماهرا، آية الله في المعرفة بالألسن، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون في تعلمها، شديد البأو، مترفعا، متعاطيا. عرف طاغية الروم حقه لما تغلب على مرسية، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود، ولم يزل مضما عنده.” ومن أملح ما يحكيه من نوادر هذا العالم بالدين المقارن قبل منشأ مبحث الدين المقارن ما يلي: “ومما يحكى من ملحه معه [مع حاكم الروم]، أنه قال له يومًا، وقد أدنى منزلته، وأشاد بفضله، لو تنصرت وحصلت الكمال، كان عندي لك كذا وكذا، وكنت كذا وكذا، فأجابه بما أقنعه. ولما خرج من عنده، قال لأصحابه: “أنا الآن أعبد واحدًا، وقد عجزت عما يجب له، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما أراد مني![23]”، وهذا العلامة الأندلسي عبد الله بن سهل الغرناطي ذكره ابن حمامة، فقال عنه: “عني بعلم القرآن والنحو والحديث عناية تامة… ثم شهر بعد ذلك بعلم المنطق والعلوم الرياضية، وساير العلوم القديمة، وعظم بسببها، وامتد صيته من أجلها، وأجمع المسلمون واليهود والنصارى أن ليس في زمانه مثله، ولا في كثير ممن تقدمه، وبين هذه الملل الثلاثة من التحاسد ما عرف. وكانت النصارى تقصده من طليطلة تتعلم منه أيام كان ببياسة [24].” وهذا العلامة عز الدين الأربلي -العالم النحوي الضرير- قال عنه الذهبي: “كان بارعا في العربية والآداب رأسا في علوم الأوائل، وكان منزله بدمشق، يقرئ المسلمين وأهل الكتاب والفلاسفة.” ودونك العلامة تقي الدين المقريزي، صاحب مصنف الخطط، ذكر عنه أنه: “كان له… إلمام بمذهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه [25].”

وحدث أنه بعد منتصف القرن الثاني للهجرة كنت تجد مجالس الفكر العربي تؤلف بين كل صنوف المذاهب والملل والنحل. قال خلف بن المثنى: “كان يجتمع بالبصرة عشرة في مجلس لا يعرف مثله: الخليل بن أحمد صاحب العروض سني، والسيد محمد الحميري الشاعر رافضي، وصالح بن عبد القدوس ثنوي، وسفيان بن مجاشع صفري، وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت شاعر يهودي، وابن نظير النصراني متكلم، وعمرو بن أخت المؤيد مجوسي، وابن سنان الحراني الشاعر صابئ؛ فيتناشد الجماعة أشعارًا وأخبارًا [26].” ومن بصرة القرن الثاني للهجرة إلى بغداد القرن الرابع والخامس الهجريين. فقد ذكر صاحب كتاب جذوة المقتبس في ترجمة أبي عمر بن سعدي ما يلي: “سمعت أبا عبد الله محمد بن الفرج بن عبد الله، الولي الأنصاري، يقول: سمعت أبا محمد بن عبد الله بن أبي زيد يسأل أبا عمر أحمد بن محمد بن سعدي المالكي، عند وصوله إلى القيروان من ديار المشرق، وكان أبو عمر دخل بغداد في حياة أبي بكر محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري، فقال له يوما: “هل حضرت مجالس أهل الكلام؟” فقال: “بلى، حضرتهم مرتين، ثم تركت مجالسهم ولم أعد إليها”. فقال له أبو محمد: “ولِمَ؟” فقال: “أما أول مجلس حضرته فرأيته مجلسا قد جمع الفرق كلها: المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية، والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر. ولكل فرقة رئيس يتكلم على مذهبه، ويجادل عنه. فإذا جاء رئيس من أي فرقة كان، قامت الجماعة إليه قياما على أقدامهم حتى يجلس، فيجلسون بجلوسه. فإذا غص المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيهم، فإنا لا نصدق بذلك ولا نقر به، وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس، فيقولون: نعم، لك ذلك”. قال أبو عمر: “فلما سمعت ذلك لم أعد إلى ذلك المجلس، ثم قيل لي: تم مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم مثل سيرة أصحابهم سواء، فقطعت مجالس أهل الكلام، فلم أعد إليها”. فقال أبو محمد بن أبي زيد: “ورضي المسلمون بهذا من الفعل والقول؟” قال أبو عمر: “هذا الذي شاهدته منهم”. فجعل أبو محمد يتعجب من ذلك، وقال: “ذهب العلماء، وذهبت حرمة الإسلام وحقوقه، وكيف يبيح المسلمون المناظرة بين المسلمين والكفار؟ وهذا لا يجوز أن يفعل لأهل البدع الذين هم مسلمون ويقرون بالإسلام، وبمحمد عليه السلام، وإنما يدعى من كان على بدعة من منتحلي الإسلام إلى الرجوع إلى السنة والجماعة، فإن رجع قبل منه، وإن أبى ضربت عنقه؛ وأما الكفار فإنما يدعون إلى الإسلام، فإن قبلوا كف عنهم، وإن أبوا وبذلوا الجزية في موضع يجوز قبولها كف عنهم، وقبل منهم؛ وأما أن يناظروا على ألا يحتج عليهم بكتابنا، ولا بنبينا، فهذا لا يجوز، فإنا لله وإنا إليه لراجعون” [27].

في قيمة “الرحمية

ومن معاملة “الغير البشري” إلى معاملة “الغير غير البشري” كان المبدأ الرحمي المطلوب واحدا. وقد عبر عنه أحد المتصوفة قائلا عن قومه: “ومن شأنهم الشفقة على جميع خلق الله تعالى من ناطق وصامت[28].” والحال أنه تكمن في ثنايا هذا المبدأ الرحمي الحضاري العظيم الدعوة إلى الإحسان إلى غير الناس، أيان كان شأنهم جمادات ونباتات وحيوانات. هذا وقد تم الالتزام الحضاري العربي الإسلامي بالإحسان إلى “غير الناس” من وجهين: وجه نظري، وآخر عملي:

فأما الوجه الأول، فإننا نجد له مثالا بينا في تحديد الجاحظ لآداب معاملة الكائن الحي –الحيوان- في حضارة الإسلام يحكيه عن جملة من أجلة مفكري الإسلام وحكمائه، وكان النقاش دائرا حول مسألة “إيلام الحيوان”: “وقال آخرون: ليس لك أن تحدث في جميع الحيوان حدثا من نقض أو نقص أو إيلام؛ لأنك لا تملك النشأة، ولا يمكنك التعويض له؛ فإذا أذن لك مالك العين، بل مخترعه ومنشئ ذاته والقادر على تعويضه وهو الله -عز وجل- حل لك من ذلك ما كان لا يحل. وليس لك في حجة العقل أن تصنع بها إلا ما كان به مصلحة، كعلاج الدبر والبيطرة[29].” كما نجد له نظيرًا آخر في ما حكي عن الصاحب بن عباد أنه: “استدعى يوما مشروبا فجيء بقدح منه، فلما أراد شربه قال له بعض خواصه: “لا تشربه فإنه مسموم”، فقال له: “وما الشاهد على صحة ذلك؟”، قال: “بأن تجربه على من أعطاكه”. قال: “لا أستجيز ذلك ولا أستحله”. قال: “فجربه على دجاجة”. قال: “إن التمثيل بالحيوان لا يجوز”. وأمر بصب ما في القدح وقال للغلام: “انصرف عني ولا تدخل داري بعدها”، وأقر رزقه عليه، وقال: “لا تدفع اليقين بالشك، والعقوبة بقطع الأرزاق”[30].

إن الفقيه الإمام أبي إسحاق الشيرازي الذي تواترت الحكاية عنه أنه كان يمشي بعض أصحابه معه في طريق، فعرض لهما كلب، فقال الفقيه لذلك الكلب: “اخسأ”، وزجره. فنهاه الشيخ وقال: “لِمَ طردته عن الطريق، أَمَا علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك!

هذا على وجه السلب ما لا ينبغي فعله بالغير غير الآدمي. أما على وجه الإيجاب ما ينبغي فعله بهذا الغير، فإن من أنبل الصور التي أمكننا العثور عليها في التراث العربي الإسلامي، تلك الصورة التي رسمها ابن عربي، في كتاب الفتوحات المكية، وذلك فيما سماه “صحبة غير الأشكال وغير الجنس”؛ قاصدا بذلك أن صلة “الصحبة” ليست تكون بين الإنسان وجنسه -الإنسان والإنسان- وإنما هي مطلوبة أيضا أن تكون للإنسان مع غير جنسه: أي “صحبته لما يملكه من الدواب والأشجار، وما يصحبه من ذلك وإن لم يملكه.” ومقتضى هذه “الصحبة” معاملة الغير غير الآدمي، كائنا ما كان، برحمة وإحسان؛ إذ المطلوب من الإنسان: “إن [هو] رأى شجرة ذابلة لاحتياجها إلى الماء، وإن كان مالكها حاضرا، وقدر على سقيها في صحبة تلك الساعة حيث استظل بها أو استند إليها طلبا لراحة تعب، أو وقف عندها ساعة لشغل طرأ له، فهذه كلها صحبة وهو قادر على الماء، فتعين عليه رعي حق الصحبة أن يسقيها لذلك، لا لأجل صاحبها ولا طمعا فيما تثمر، سواء أثمرت أو لم تثمر، أو كانت مملوكة أو مباحة؛ وكذلك الحيوانات المؤذية وغير المؤذية، فإنه في كل ذي كبد رطبة أجر[31].”

ودونك سيرة الإمام الصوفي أحمد بن أبي الحسن الرفاعي (توفي 570ﻫ)؛ إذ كان لا يجازي قط السيئة بالسيئة. وكان يقول: “لا يحصل العبد صفاء الصدر حتى لا يبقى فيه شيء من الخبث لا لعدو، ولا لصديق، ولا لأحد من خلق الله -عز وجل-“، مثلما كان يرى أن الأصل في الصلة بالغير أكان بشريا أم حيوانيا هو المبدأ التالي: “لا تزعم: أي أخا الحجاب، أن أخاك الإنسان الآخر عبدك بدريهماتك، بوقتك، بحظك، بشأنك، بما أنت فيه من أمرك. هو فوق ذلك، وأنت دون ذلك. كل من ساواك بتركيب الهيكل، أو ماثلك بالصورة والنسق، فهو أخوك بجنسيتك، شريكك بآدميتك، لا هو مملوكك، ولا أنت مالكه. وكل من خالفك بتركيبك فهو ملحق بجنسه، حقر أو عظم، وأنت ملحق بجنسك. فاعرف حدك ولا تبقى وحدك. حاجتك ملزمة لك، وحاكمة عليك بالانضمام إلى بني جنسك، والاستئناس بهم، وقاضية على طبعك بالأدب مع صنوف أجناس الأشياء ذوات أرواح وجمادات، بارزات ومطويات، علويات وسفليات (…)[32].” وقد أورد عنه ابن عجيبة ما يلي: “وله: [أي للرفاعي] أحوال غريبة في التواضع وتعاطي السفليات وتحمل الأذى. كان -رضي الله عنه- يمشي إلى حارة المجذومين وأهل الأوساخ فيغسل ثيابهم ويفلي رؤوسهم ولحاهم، ويحمل لهم الطعام ويأكل معهم اللبن، ويجالسهم ويسألهم الدعاء، ويقول: “زيارة هؤلاء واجبة لا مستحبة.” ورأى مرة كلبا أجرب أخرجه أهل أم عبيدة [قرية اتخذها الرفاعي له موطنا] وقذروه، فخرج معه إلى البرية، وضرب مظلة، وجعل يطليه بالدهن، ويطعمه ويسقيه، ويحك الجرب بخرقه. فلما برئ سخن له ماء وغسله، وقال: خفت أن يؤخذ حُميد [تصغير اسمه أحمد] بهذا الكلب يوم القيامة، ويقول لي الحق جل وعلا: “يا حُمَيد، أما علمت أنه خلق من خلقي، أما أمرتك بالرحمة”. وكان يخرج إلى الطريق ينتظر العميان ويقودهم إلى مكانهم، وإذا رأى شخصا كبيرا يذهب إلى أهل الحارة ويوصيهم عليه… وكان إذا قدم من سفر، وقرب من بلده يشد وسطه، ويخرج حبلا ويجمع حطبا، ثم يحمله على رأسه إلى الدار… فإذا دخل البلد، فرق ذلك على الأرامل والعميان والمساكين. وكان يتحمل أذى الناس ما لا يحمله غيره [33].”

وخذ بنا ثانية إلى هذه الحكاية التراثية العظيمة: مر عبد الله بن معمر على عبد حبشي كان يأكل تمرا وبين يديه كلب وضع في فمه لقمة ورمى إلى الكلب بلقمة وتمر. قال له عبيد الله: “هذا الكلب لك؟” قال: “لا”. قال: “فكيف صرت تطعمه وأنت تأكل؟” قال: “إني أستحي أن ينظر إليَّ وأنا آكل فلا أطعمه”. فعتقه [34]. وإلى حكاية عالم العقليات الفقيه ابن القوبع الذي يذكر عنه صاحب أعيان العصر أنه كان إذا رأى أحدًا يضرب كلبًا أو يؤذيه يخاصمه وينهره ويقول له: “أمَا هو شريكك في الحيوانية؟”.

وانتقل بنا إلى إفادة من سيرة الصوفي محمد بن محمد الزغبي؛ إذ نظر مرة إلى جزار يذبح جديا، ولم يتلطف في ذبحه، فأحس منه بالقسوة والجدي يصيح، فتناول الشيخ -وكان جسيما عظيم الجثة- الجزار، ونكس رأسه إلى أسفل، ورفع رجليه، وأوهمه أنه يريد أن يدخل عرقوبه في الكلاب المعد لتعليق الغنم المذبوحة من عراقيبها. وقال له: “هذا مخلوق مثلك فكيف لا ترحمه؟ [35].”

واختم بالفقيه الإمام أبي إسحاق الشيرازي الذي تواترت الحكاية عنه أنه كان يمشي بعض أصحابه معه في طريق، فعرض لهما كلب، فقال الفقيه لذلك الكلب: “اخسأ”، وزجره. فنهاه الشيخ وقال: “لِمَ طردته عن الطريق، أَمَا علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك! [36]” وإلى الفقيه ابن دقيق العيد الذي حكي عنه ما يلي: “وكان شديد الرحمة حتى أنه مر على كلبة ولدت وماتت، فحمل جراءها في سجادته لمنزله، وما زال يطعمهم اللبن حتى استغنوا [37].” وقد ذكر صاحب مصنف المنتظم سيرة أبي نصر الكردي صاحب ديار بكر، فقال: “بلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد، فتقدم بفتح الأهراء وأن يطرح لها من الحب ما يشبعها، فكانت في ضيافته طول عمره.”

هذه الرحمية طبقها بعض حكماء الإسلام على المخالف غير البشري: أي المخالف الإنسي من جهة الملة. فقد كان كثير من حكماء العرب على فكرة رحمة الغير أكان على الملة أم على ملة غيرها. وأقرب العرب إلى الانفتاح على الغير كانوا من الحكماء والمتصوفة. ففيما يخص الصوفية، أصل البعض لمعاملة الغير غير الملي بمفهوم “المعروف”: “وأما معروف الصوفية، فمن أصل الإشفاق على بني الجنس من حرمة الاجتماع في صلب آدم عليه السلام [38].” ومثيل هذا المبدأ أيضا وصية الصوفي ابن عربي إلى من يهمه الأمر: “ارحم من وافق الحق ومن خالفه رحمة له، فإن ذلك قسمه. فإن الكافر إذا رحم المؤمن خفف الله عنه، وإذا رحم المؤمن الكافر وفى الله له. الكل خلق الله ومضاف إليه. فتعظيم خلقه تعظيمه. فطوبى لمن رحم خلقه [39].” ولهذا السبب نسب الشعراني إلى ابن عربي القول الرحيمي: “كم من ولي حبيب في البِيَع والكنائس، وكم من عدو بغيض في الصلوات والمساجد [40].” وأكد الزاهد عبد القادر الجيلاني هذا المبدأ الصوفي الرحمي العظيم بقوله: “اصحب القوم، فإن من صفاتهم أنهم إذا نظروا إلى الشخص وجعلوا همتهم إليه أحبوه، وإن كان ذلك المنظور إليه يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا [41].” وذهب الهجويري إلى حد تفضيل المخالف الملي الذي لا يركن إلى هواه على الموافق الملي الذي يتبع هواه، فقال: “فمن تكن كل حركته هوى ويرضى بمتابعته، فإنه بعيد عن الحق وإن يكن معك بالمسجد. ومن ينقطع عن الهوى ويفر من متابعته، فإنه قريب وإن يكن في الكنيسة [42].”

وبعد، هذه وجوه من التراث العربي الإسلامي الفذ قلما عهدت. وذلك بسبب من تغليب الوجه الجبروتي من التراث على وجهه الرحموتي. ولما كان من شأن التراث أن يحيا فينا -لا أن نحيا فيه- شئنا هذا أم أبينا، فإن علينا أن نهتم بهذا الوجه الرحموتي وأن نتعهد ذكره، وإلا فإنه إذا ما نحن لم نهتم به وجد منا من يهتم بوجهه الجبروتي، فكان هذا الاهتمام إن حدث، وهو لا محالة حادث في زمننا هذا بمثابة إحياء المارد الذي إن أطلق من قمقمه من شأنه ألا يبقي وألا يذر.

 

*كلية الآداب، بنمسيك الدار البيضاء

الهوامش


1. ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق أحمد توفيق، سلسلة نصوص ووثائق 1، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1984، ص453-454.

2. عبد الوهاب الشعراني، الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار، دار الفكر، د. ت. الجزء الثاني. ص42.

3. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت: دار المعرفة، لبنان. المجلد الأول. ص254.

4. أبو حيان التوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين. منشورات المكتبة العصرية. بيروت-صيدا. الجزء الأول. ص52.

5. التوحيدي، مثالب الوزيرين، تحقيق إبراهيم الكيلاني، دمشق: دار الفكر، بيروت: دار الفكر المعاصر. الطبعة الثانية 1998. ص290.

6. أبو سليمان السجستاني، صوان الحكمة، تحقيق عبد الرحمن بدوي. طهران، 1974. ص328.

7. أبو حيان التوحيدي وابن مسكويه، الهوامل والشوامل، نشره أحمد أمين والسيد أحمد صقر. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1951. ص129-130.

8. التوحيدي، المقابسات، بتحقيق حسن السندوسي، مكتبة الثقافة الدينية،  ص161.

9. الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت: دار الفكر، الطبعة الرابعة، المجلد الأول، الجزء الأول، ص46.

10. أبو الفرج الأصفهاني، كتاب الأغاني، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1963، الجزء الثاني عشر. ص36.

11. المناوي، الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، تحقيق محمد أديب الجادر. بيروت: دار صادر، الطبعة الأولى 1999 الجزء الثالث. ص169-170.

12. السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، منشورات دار مكتبة الحياة. بيروت، لبنان، د. ت. الجزء الحادي عشر. ص165.

13. المناوي، الكواكب الدرية، الجزء الثالث، ص326.

14. الثعالبي، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، سلسلة ذخائر العرب 57، دار المعارف، مصر 1985. ص313.

15. أبو البركات الأنباري، نزهة الألباء في طبقات الأدباء، تحقيق عطية عامر، الطبعة الثانية، دار المعارف للطباعة والنشر، 1998، ص16.

16. الميرزا عبد الله الإصبهاني، رياض العلماء وحياض الفضلاء، تحقيق أحمد الحسيني، مطبعة الخيام، قم، 1981، المجلد الأول، ص27.

17. المقري، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس. بيروت: دار صادر. 1968. الجزء الثاني. ص21.

18. المصدر نفسه، الجزء الثاني، ص50-51.

19. الخشني، طبقات علماء إفريقية، تحقيق محمد زينهم عزب، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993،  ص43.

20. ابن المرتضي، طبقات المعتزلة، تحقيق سوسنة ديفلد-فلتز، فرانز شتاينر، فيسبادن، 1961، ص112.

21. المقري، نفح الطيب، الجزء الثالث. ص147-148.

22. اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان، مطبعة دار المعارف النظامية. حيدر آباد الدكن. الطبعة الأولى 1339ﻫ. الجزء الرابع. ص8.

23. ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان. مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الثانية، المجلد الثالث، ص68.

24. المصدر نفسه، المجلد الثالث، ص404.

25. السخاوي، الضوء اللامع، الجزء الثاني، ص24.

26. ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، د. ت. الجزء الثاني، ص29.

27. الحميدي، جذوة المقتبس في علماء الأندلس، تحقيق: إبراهيم الأبياري. دار الكتب الإسلامية، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني. القاهرة – بيروت. الطبعة الثانية 1983. الجزء الأول، ص175-176.

28. عبد الوهاب الشعراني، الأنوار القدسية في قواعد الصوفية، بيروت: دار صادر، دمشق: دار البشائر، 1999، ص505.

29. الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت: دار الجيل، 1996. الجزء الأول، ص162.

30. ياقوت الحموي، معجم الأدباء، نشر مارجليوت، مكتبة عيسى البابلي، د. ت. الجزء الخامس، ص185.

31. ابن عربي، الفتوحات المكية، بيروت: دار صادر، الطبعة الأولى 2004، المجلد الثالث، ص334.

32. الرفاعي، النظام الخاص لأهل الاختصاص، حلب: دار الأنصاري، 1994. ص64.

33. ابن عجيبة، كتاب شرح صلاة القطب بن مشيش، الدار البضاء: دار الرشاد الحديثة، 1999. ص149-150.

34. إبراهيم بن محمد البيهقي، المحاسن والمساوئ، بيروت: دار صادر، د.ت. ص572.

35. الغزي، الكواكب السائرة، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، 1997، الجزء الثالث، ص29.

36. السبكي، طبقات الشافعية، تحقيق محمود محمد الطناجي وعبد الفتاح محمد الحلو، مطبعة عيسى البابلي، 1964-1967، الجزء الرابع، ص228.

37. المناوي، الكواكب الدرية، الجزء الثاني، ص488.

38. السيرواني الصغير، أدب الملوك في بيان حقائق التصوف، بيروت – فرانتس شتاينر شتوتكارت، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، 1991، ص50.

39. ابن عربي، كتاب التراجم، تحقيق: عبد الرحيم مارديني، دار المحبة – دار آية. دمشق – بيروت. ط1، 2002- 2003. ص74.

40. الشعراني، الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر، منشورات محمد علي بيضون. بيروت: دار الكتب العلمية، 1998، ص227.

41. عبد القادر الجيلاني، الفتح الرباني والفيض الرحماني، مؤسسة الكتب الثقافية، د. ت. ص205.

42. الهجويري، كشف المحجوب، ترجمة إسعاد عبد الهادي قنديل، بيروت: دار النهضة العربية، 1980. الجزء الثاني، ص439.