الضغوط الحياتية وآثارها التدميرية

هل يمكن أن تؤثر ضغوط الحياة على خلايا المخ لدى الإنسان؟ ما مدى العلاقة بين الضغوطات الحياتية وخلايا المخ؟ هل يمكن أن تدمّر خلايا المخ عند الإنسان؟ تلك الأسئلة وغيرها، طرحها العلماء بعد أن لاحظوا ارتباط ظاهرة تدمير خلايا المخ بالضغوط الحياتية التي يتعرض لها المرضى.
نعرف أن كل موقف ضاغط، يستثير القدرة التكيفية للجسم، ومهما كان شكل الضغط -سلبيًّا أو إيجابيًّا- فإن استمراره سوف يؤدي إلى استنزاف هذه القدرة، وبالتالي يكون الجسم عرضة للاضطرابات والمرض. ومما تجدر ملاحظته، أن هذه الاضطرابات أو الأمراض، لا تكون مصاحبة لكل موقف ضاغط، وإنما الأثر هو عملية تراكمية تظهر أعراضه عندما تتجمع الأحداث على مدى زمن طويل وتؤدي إلى الإصابة، وقد يقوم أحد هذه الضغوط البسيطة بدور القشة التي تقصم ظهر البعير.
ففي عالم اختلفت فيه القيم وانهمرت عليه الأحداث كالطوفان، وفي مجتمع ينتمي إلى العالم النامي، ويئن من وطأة التخلف وانهيار أمل التقدم السريع، ويقاسي ثلاثة أرباع أفراده من الأمية الثقافية وشبه الأمية الأبجدية.. في مجتمع مثل هذا، لا بد وأن تساعد فيه أنماط الحياة على مزيد من انتشار الاضطرابات النفسية.
ومجتمعنا العربي تنتشر فيه الاضطرابات النفسية بكثرة مما تؤثر في القدرة على اتخاذ القرار السليم، وتوجد مؤشرات عديدة تشهد على ذلك؛ ففي دراسة أجريت على فريق من عمال الصناعة، وجد أن 5 إلى 6 بالمئة يتلقون العلاج فعلاً من أمراض نفسية، وإذا أدخلنا في اعتبارنا أنه في مقابل كل شخص يتلقى العلاج بالفعل، يوجد ما لا يقل عن عشرة أشخاص يعانون من اضطرابات نفسية لكنهم لا يتلقون العلاج لأسباب مختلفة، فإن النسبة الحقيقية لانتشار الاضطرابات النفسية بين العاملين تقرب من 60%.
هذه مؤشرات لا يمكن تجاهلها، خاصة إذا علمنا أن الاضطرابات النفسية الشائعة لدينا كثيرة؛ كالقلق، والمخاوف، وفقدان الثقة بالنفس، ومشاعر الاكتئاب، والغضب غير المحكوم، وسرعة الاستثارة، والعجز عن التركيز أو الاستيعاب، والأرق، والتوتر.
وقد وجدنا من خلال خبرتنا الشخصية، أن إحدى الصفات التي تتميز بها الصورة العربية في عدد كبير من الحالات المرضية، وجود عنصري الشعور بالهجر مع الشعور بالتوتر الشديد، وهما بناء مركب يدخل في تركيبه -عادة- عدد من الاضطرابات معًا، ويندر أن يحتوي على اضطراب واحد، كما أن هذا البناء يحمل في ثناياه بعض العناصر التي تشير إلى كيفية نشأته، واحتمالات ما له من تأثيرات، وعلى هذا الأساس يمكن القول بوجود صور مرضية خاصة بالمجتمع العربي.
قد يقال إننا نعيش في مجتمع يعاني من حالة انقسام ثقافي، فيه الثقافة المحلية والثقافة الغربية، والثقافة القديمة والثقافة الحديثة، فهل يكون هذا الانقسام أحد أسباب انتشار الاضطرابات النفسية؟ الإجابة بالقطع: نعم. ونحن نتعرض في مجتمعنا لنماذج مختلفة من السلوكيات والقيم، وهي تعرض علينا من خلال قنوات عديدة، ويكون الاختلاف بين هذه النماذج أحيانًا محدودًا، وأحيانًا أخرى شاسعًا إلى درجة التعارض فيما بينها، وتسود بين مفكرينا وكتابنا هذه النماذج على محاور متباينة.
خطوات السيطرة على الاضطرابات
غني عن البيان، أنه ما من تصنيف من التصنيفات يمكن وصفه بأنه تصنيف موضوعي محكم، وغني عن البيان أيضًا أن كلا من هذه التصنيفات ينضح بموقف عقيدي أو أيديولوجي مسبق للقائل به، وغني عن البيان كذلك أن كلا من هذه التصنيفات يصدق على عدد محدود من النماذج المعروضة علينا، لكنه لا يستوعب معظمها إلا بكثير من الافتعال الذي يصل إلى درجة التعسف. أما ما يبدو أمامنا على أنه ارتباط بين توزع للولاء تمليه التصنيفات، وبين الاضطراب النفسي، فهو ارتباط ضعيف وإن كان قائمًا فعلاً، وهو يقوم على أساس معقد لا على أساس بسيط، بمعنى أنه يستند إلى دعامتين:
الأولى: ما يكتشفه الشخص أحيانًا من تعارض حاد يعجز هو عن التوفيق بين طرفيه، وذلك نتيجة لارتضائه الأخذ ببعض النماذج، وهو أمر يحدث فعلاً لكنه قليل الحدوث، لأن قدرة الإنسان على التدبير فائقة.
الثانية: هي الدعوة المنطوية على التهديد التي تصحب عادة تقديم أحد التصنيفات المطروحة، ويكون التهديد في الغالب معنويًّا ولكنه قد يكون ماديًّا.. وأحيانًا هاتان الدعامتان -نعني التناقض الحياتي والتهديد- هما أساس الاقتران الذي نلحظه أحيانًا بين توزع الولاء والاضطراب، أو المرض النفسي.
ما من شك أن الحالة النفسية والبدنية الصحية، لها أعظم الأثر في القدرة الجيدة على اتخاذ وصنع القرار لدى القائد أو الرئيس أو المدير، إذ لا يمكن للجسم البشري أن يتحمل لفترة طويلة استمرار الإرهاق الناتج عن بذل الجهد الزائد، دون أن يمنح الجسد حقه في الراحة المطلوبة. فالإرهاق الفكري أو البدني، هو شكل من أشكال الضغوط الحياتية عند البعض، لأن هناك بعض آخر يدمن الإرهاق في العمل دون كلل أو ملل.
الاضطرابات النفسية عمومًا، لها من الآثار السيئة على الأداء والتطور الإداري، ولعل القلق النفسي هو أكثر هذه الاضطرابات شيوعًا. وهناك أنواع كثيرة من القلق أهمها القلق الدفعي، الذي يعتري البعض ويكون في أغلب الأحيان، بسبب الدافع لنمو التفوق والنجاح. كما أن هناك القلق المرضي الذي عادة ما يظهر في صورة أعراض النسيان وعدم الثقة بالنفس، وغالبًا ما يرجع ظهور القلق المرضي إلى الفشل في إيجاد مناخ أسري وأخوي ملائم لسلامة التفكير، ووجود المناخ الهادئ، فالتوتر يكون هو الباعث على ظهور القلق المرضي.
إذا كان النوم الكافي هو ترمومتر الصحة الجيدة -وهو أمر هام لانتظام المخ في أداء عمله بصورة نشطة وجيدة- فإن عدم الحصول على القسط الكافي منه، يعد بداية لتدهور الصحة العامة، ولذلك يقول لنا المثل الشعبي “النوم سلطان”، والإنسان عليه أن يجعل حياته تدور في فلك مثلث، أضلاعه هي النوم الكافي والطعام الصحي والتمرينات الرياضية، وذلك في إطار عدم وضع حياة الإنسان في مهب الأخطار. هذا ولكي تكتمل سيمفونية الهدوء العصبي والنفسي، فإن على المرء أن يجعل منظومة حياته العملية مغلفة بحب الناس والتواضع والرحمة والحلم والرفق والحكمة والموعظة الحسنة.

(*) متخصصة في علم النفس السريري والعلاج النفسي السلوكي / مصر