التربية العمرانية وصناعة الإنسان

لا بأس قبل الحديث عن الإطار الفلسفي والعقائدي الناظم لأصول البناء الحضاري والإحياء العمراني للأمة من خلال كتاب “ونحن نبني حضارتنا” للعلامة فتح الله كولن حفظه الله، أن نشير إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أننا لسنا فقط أمام مفكر متخصص في التنظير الحضاري أو أمام عالم مربّ مهتمّ بالشؤون التربوية والتزكية الروحية فقط، وإنما نحن إزاء شيخ رباني عارف بالله تعالى، وفيلسوف روحاني عاشق للحقيقة، يتلذذ بالحكمة ويحترق وجدانيًّا همًّا وحزنًّا على أمته ليبعث فيها الأنوار الإلهية، ويحرك فيها الفطرة النائمة والطاقات المنسية، والقدرات المهملة.

من التجزيئي إلى الكلي

إنه يؤلف ليتذوق جمالية العبودية لله تعالى بالتسبيح الروحي والتأمل المعرفي والسجود العقلي للغرق في بحر آيات الله، سواء منها المتجلية في القرآن المسطور، أو في الكون المنظور. كل هذه الخصائص أعطت للكتاب طابعًا متميزًا تمتزج فيه لغة التأصيل العقدي لقواعد البناء العمراني بالفلسفة المقاصدية الخاصة بتقعيد إطار الرؤية التوحيدية الكلية للوجود، وعلى رأسها بيان جمالية الإعجاز التشريعي للمقاصد العقدية المشكّلة للمنظومة الإسلامية، ونعني بها نسقية العلاقة الرابطة بين المقصد التوحيدي للتزكية الروحية والصناعة الإنسانية بالمقصد العمراني، باعتباره يمثل التجلي الكلي لمجال التفاعل بين هذه العوالم الإيمانية والعرفانية والعمرانية.

وعليه، فكما يشكل هذا الكتاب بفصوله المتنوعة، الأرضية النظرية لبسط الاجتهادات التنظيرية والتوجيهات التربوية والمقاربات العلمية لقضية الإحياء الحضاري للأمة من قبل الأستاذ فتح الله كولن، فإنه في العمق يمثل قراءة جديدة أبرزُ معالمها المنهاجية الخروجُ من أسر العقلية التجزيئية التي دمرت القدرات التصورية والمنهجية للعقلية الإسلامية، كما يتجلى ذلك في خريطة تيارات ومدارس الفكر العربي الإسلامي إلى رحاب الرؤية الكلية الشمولية التي تمتزج فيها مختلف الأبعاد العقدية بالمقاصد الوجودية لحركة العقل الإنساني في التاريخ البشري.

ولذلك، فإن أول سؤال يفرض نفسه علينا في إطار منهجية قراءة هذا المؤلف، تحديد مجال انتمائه بحكم أن هذا سيساعد الباحث والدارس على استقراء الأصول المشكلة لفلسفة الكتاب، ضمن الإطار العام للمدرسة الفكرية الموجهة والمحددة لأطروحة المؤلف.

التربية العمرانية وصناعة الإنسان

لعل أول ملاحظة نسجلها، كون هذا الكتاب ينتمي لما يمكن تسميته بالمدرسة الحضارية التي تنطلق من الرؤية الشمولية في مجال البناء الحضاري للأمة الإسلامية. هذه الرؤية التي كما لا تفصل العقيدة عن البناء التربوي للإنسان، فإنها لا تفصل الفاعل البشري عن وظيفته الرسالية ومهمته العمرانية. وهو ما يفسر الحضور القوي للعقيدة والتزكية والعمران في هذا المؤلف، لطبيعة نظرة هذا الفيلسوف الرباني العارف بالله لقضايا البناء الحضاري. هذا الحضور الذي تعكسه الحقول المعرفية التي يتضمنها المؤلَّف والتي جاءت متنوعة تنوع مجالات الإحياء الحضاري للأمة، سواء تعلق الأمر بالمحور الخاص بسلطنة القلوب الذي تطرق فيه الأستاذ فتح الله كولن لقضية مركزية، وهي كيفية إعادة صناعة الإنسان الموصول بالله تعالى، المتحقق بالطاقة الروحانية التي تعطيه القوة اللامتناهية؛ للوصول إلى مقامات التخلق بالكمالات النورانية للنموذج النبوي عليه الصلاة والسلام، أو تعلق بالمحاور الأخرى.

هذا الاقتداء يتحول إلى روح أخلاقية واجتماعية تنعكس كليًّا على شبكة العلاقات المجتمعية محطِّمة الصور التقليدية لمفهوم العوالم الروحية والإيمانية، وكأنها عوالم نظرية تجريدية لا علاقة لها بفعل البناء الحضاري والإنجاز العمراني. وهذا التصور الكلي لموقع التربية الروحية في الصناعة الحضارية، يحسب للأستاذ فتح الله كولن في مجال التجديد الديني، خصوصًا أمام هيمنة مدارس كلامية حولت العقيدة إلى مباحث نظرية لا زالت تتخاصم حول العلاقة بين الذات والصفات، وتكفّر المؤمنين، وتبدّع المخالفين، دون أدنى اعتبار للعلاقة التفاعلية بين الاعتقاد والصناعة الحضارية للأمة. وهو ما يعبر عنه الأستاذ كولن بضرورة إعادة تربية الأمة تربية عمرانية لتعيش التدين باعتباره حالة إنسانية وحضارية ترتقي بالذوق الجمالي للأمة، ليصبح التدين نورًا يفيض على الإنسانية جمالاً عرفانيًّا وكمالاً معرفيًّا وشوقًا روحيًّا وعشقًا إلهيًّا.

لغة الدموع والبكاء

والغريب في الأمر أن الانتماء العرفاني للأستاذ كولن كان بالإمكان أن يحصره في عالم الذوق ومجال الأصول الصوفية الخاصة، ولكن الصدق مع الله في مجال التنظير الحضاري للأمة، أوصله إلى مقام الفتح الرباني. هذا المقام كما تجلى في شخصيته بخلو كتابه من الدعوة لطائفة معنية أو لإيديولوجية دينية أو لطريقة خاصة، ترفعًا عن الأمراض النفسية التي تصيب المنظّرين والمفكرين والتي يسميها أهل الله بالموانع، تتجلى أيضًا في لغة الحكمة التي يكتب بها الأستاذ فتح الله كولن، لدرجة يخيل للقارئ -وهو يقرأ هذا الكتاب- بأن اللغة التي كتب بها هي أصلاً لغة الدموع والبكاء.. ولولا القوانين المتحكمة في عالم الكتابة، لانفجر للطاقة الروحانية التي يختزنها صدر المؤلف، والتي يصرّفها كتابة للتنفيس المعرفي عن عمق معاناته وألمه للوضعية المأساوية للأمة التي من المفروض أن تكون أمة شاهدة على الناس. وهو ما يترجمه المبحث الثاني الخاص بتفصيل قواعد البناء الروحي، لتحريرها من الهزيمة النفسية والإعاقة الحضارية والعطالة الوظيفية، حتى تتمكن من اكتشاف روحها الحضارية لتحويلها إلى حالة وجدانية تصبّ في بحر يقظة الأمة للاستحالة المساهِمة في الحضارة الإنسانية، ببناء النموذج الإسلامي الذي يعكس عظمة هذا الدين الذي جاء بمقصد تقديم الأمة الخيريةَ للعالم، لتكون الأمة الحاملة لقيم السلام والمحبة والتعايش على أرضية الكلمة السواء.

وصدق ربنا الكريم وهو يبين لنا هذه الجدلية بين الارتقاء لمقام الكونية الحضارية، وبناء النموذج العالمي للشهادة العمرانية على الناس، بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة:143). وفي هذا السياق، يشير الأستاذ فتح الله لضرورة إعادة قراءة موقع الدين في الحضارة الإنسانية، حتى نخرج من حالة اللامعنى التي جردت العقائد من القداسة، وأضفتها على الفلسفة العقلانية والقيم التحررية. وفي هذه النقطة، يلتقي مشروع الأستاذ كولن مع الفيلسوف طه عبد الرحمن صاحب مشروع النقد الأخلاقي للفلسفة الغربية التي فصلت الممارسة العقلانية عن الروح الأخلاقية، وأنتجت اليوم ما يسمى بالعبثية والدمار الروحي والتخريب القيمي.

المزج بين الرسالة والأخلاق

ولعل من بين المحاور التي تمثل تجديدًا في مجال الدراسات الحضارية في هذا المؤلَّف، المزج بين إعادة قراءة الرسالة الإسلامية، والممارسة التخلقية القادرة على إنتاج القيم الثقافية. هذه الرؤية التي تعكس بحق عمق الإحساس الجمالي للأستاذ الكريم لطبيعة العلاقة الجدلية بين المرجعية الدينية المؤسسة للشخصية الحضارية للأمة، ونوعية الثقافة التي تشكل مجالاً للقيم التفاعلية الحاملة لمنظومة التواصل النفسي والمجتمعي. وهنا بالضبط يلتقي مشروع الأستاذ كولن مع مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي يرابط على تغير إعادة صياغة العقلية الإسلامية صياغة حضارية؛ حتى تكون في مستوى التحديات المطروحة على الأمة، وعلى رأسها تحديات العولمة الثقافية المتمثلة في تفكيك الهويات المرجعية للثقافات الدينية.. غير أن تميز مشروع الأستاذ كولن ينطلق من الاشتغال على العمق المنهجي لصناعة العالم الثقافي، ونعني به الربط النسقي بين العالم الروحي والإنتاج الثقافي، لكون هذا التفاعل بين المنظومة العقائدية والعقلية الإسلامية، هو الذي يولد الطاقة الاجتهادية بما هي عملية تعبدية تعطي للأمة الإسلامية القدرة الإبداعية والاجتهادية اللامحدودة، باعتبارها مرتبطة بالغاية المقاصدية الكبرى للوجود وهي رضا الله عز وجل.

وبهذا الشكل تتخذ الثقافة الإسلامية في منظور أستاذ فتح الله كولن، شكلاً معرفيًّا جديدًا ضمن خريطة الأنماط الثقافية؛ فهي ثقافة مؤصَّلة على الدين، ولكنها مرتبطة بقدرة العقلية المؤمنة على الإبداع والإنتاج.

وبهذا الشكل، يستحيل أن تموت هذه الثقافة الإسلامية، لأنها مرتبطة بالله تعالى، ساجدة في رحاب آيات متنوعة في الكون وهو ما يضفي عليها جمالاً خاصًّا، بل ويعكس نعمة إلهية مفادها أنه على قدر ارتباط الأمة بالله تعالى، على قدر ضمان ارتقائها في مقامات صناعة العقل العابد المتحرر من سلطة آلهة الأرض، وبناء العقل المؤيد بالأنوار الإلهية التي كما تعطيه الطاقة الروحانية للوصول إلى أعلى نقطة عرفانية في الوجود، تعطيه القوة النظرية للاجتهاد المعرفي والتجدد الحضاري. ولذا فإن انتشار شتى أشكال التغريب الثقافي والاستلاب المعرفي، ما هي إلا علامات عن بعدنا عن الله تعالى محبة وشوقًا وعبودية ورقًّا، لأنه لا يمكن للأمة الإسلامية أن تصنع الحضارة باستيراد المنتوجات الثقافية، وفي هذه النقطة يلتقي مشروع الأستاذ فتح الله كولن مع فيلسوف الحضارة مالك بن نبي رحمة الله عليه.

هذا بالنسبة إلى المحور العقائدي والثقافي.. أما بالنسبة للمحور الخاص بفلسفة الصناعة الحضارية فقد أبدع الأستاذ كولن، باعتباره إعادة البناء الحضاري للأمة؛ ما هو إلا ثمرة من ثمرات الممارسة الروحية التي يستحيل أن تصل الأمة في طريق سلوكها إلى الله، إلى مقامات التمكين العمراني وتحقيق شروط الوعد الإلهي، دون الربط بين الطاقة الإيمانية للأمة وبين الفاعلية الحضارية.

ولذا، إذا كانت كل حضارة عاشقة لمثل أعلى يحركها، فإن المثل الأعلى للحضارة الإسلامية هو الله عز وجل، مصداقًا لقوله تعالى: (وَلِلهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى)(النحل:60)، وكلما كانت الأمة في المستوى الإيماني للهجرة إلى الله والتعلق بالله؛ أكرمها الله تعالى بطاقة التقوى التي تشكل الخزان الروحاني الذي لا ينقضي ولا ينضب. وهنا بالضبط تظهر علامات الإبداع العرفاني في المجال الحضاري للأستاذ فتح الله كولن، الذي ينظر بنور الله تعالى لعودة هذه الأمة المباركة لعقيدتها ولحبيبها عليه الصلاة والسلام؛ لكي تتخلق بصفات الله تعالى، بما هي صفات جلالية وجمالية تنعكس روحانيًّا وإيمانيًّا على مجموع الخصائص المميزة للحضارة الإسلامية، التي من المفروض أن تكون حضارة ربانية وشمولية وإنسانية.. إلى غير ذلك من الخصائص العقائدية التي يتخلق بها المؤمنون العابدون، لتصبح خصائص حضارية، وهذا منتهى الوعي الحضاري لإعادة بناء الأمة بناء عقائديًّا كليًّا وشموليًّا.

(*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل / المغرب.