كل مسلم تهفو نفسه إلى زيارة الأراضي المقدسة، وتحنّ روحه إلى التمتع بفيض من النور الإلهي والروحانية التي تنبعث من الفيوضات الرحمانية في هذه الأراضي، حيث يستعذب المسلمون كل ألوان التعب والمشقة التي يلاقونها في سبيل الوصول إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، إذ يأتي الناس من كل حدب وصوب وفودًا من كل أصقاع الأرض، أجناسًا شتى ولغات مختلفة.. جاؤوا يحدوهم في ذلك أمل كبير أن يتقبل الله منهم ويعيدهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
وقد داعبت هذه المواقف وجلالها خيال الشعراء، وغلبت أحاسيسهم واستجاشت عواطفهم، فنظموا في القريض ألوانًا مصورين خلجات النفوس التي تختلف من شاعر إلى آخر، فمنهم من جاشت نفسه محدثة إياه عن ولوعه بزيارة بيت الله الحرام، ومعبرًا عن طموحاته وأمانيه لأداء هذه الفريضة؛ ليغسل قلبه من أدران النفس البشرية، ويتطهر من ذنوبه ويغير بصيرته.. ومنهم من وقف في هذه المشاعر فأخذته تجليات الموقف المهيب، فاستشعر هذه الروحانية التي تصفو معها النفس وتصوغ في عبقها الأريحية ونقاء الضمير والنفس.. ومنهم من شاهد الجمال والروحانية عيانًا فاندفع يصف لنا هذه البقاع المباركة، يصف الشعائر شعيرة شعيرة.. ومنهم من استنبط ببصيرته الحكم العظيمة المكنونة في هذه الفريضة.
هذا ويأخذنا شاعرنا عبد الستار سليم في قصيدته مآذن الحرمين، إلى جلالة هذا الموقف، معبرًا عن حنينه الشديد إلى هذه البقاع الطاهرة ليمعن ناظريه بمشاهدتها:
تشـــتاق للبيت العتــيق نـــواظـري
وإلى ثرى أرض النبي كياني
ومآذن الحــرمين يســكن طيفـــها
في خاطري وآذانها بجناني
ولماء زمـزم في الجـــوارح غــلة
ولملتقى عرفات حن زماني
ويسوقني الشوق المؤرق جفنه
لربا الحجاز بهادر التحنان
لا غرو أن يشتد بـي حــر الظمأ
فلــنور أحمد يظمأ الثـــقلان
وينساب القريض عذبًا سلسبيلاً من وجدان شاعرنا السيد سلامة السقا وقد وصف أم القرى وما يزينها، وما يعلوها من الحيوية والإشراق حين يحل موكب الحج وتتتابع مواكب الحجيج، ويتحرك الركب إلى هذه الديار المقدسة ملبية نداء الحق ، الذي رفعه إبراهيم الخليل ، منذ أمر بالآذان في العالمين.
أم القـــرى بالحج تشـــرق أرضـها
وإليه تهفو بالحنين قلـــوب
ومن الحجيج مواكب تسعى لها
عند الآذان رجالة وركوب
من كل فج لــيس يــوهــن عزمـها
إقبال دنيا أو أذى ولغــوب
تطوي الصحارى لا يعوق طريقها
للحج كثبان بها وجيـــــوب
ويشير الشاعر محمد عبد العزيز في قصيدته على عرفات، موضحًا لنا مقاصد الحجاج ودوافعهم من القيام بهذه الرحلة، وقد تجشموا عناء التعب والجهد، وقد ضحوا بأموالهم وأنفسهم، وقد شدوا رحالهم قاصدين ربهم :
إلهي وقفت دموعي تسيل وقلبي ببابك باك ذليل
فذنـبي كبـــير وزادي قـلــيل فمُنَّ علي بعفو جميل
ثم يقول في المقطع الثاني:
أتيت أجـر خطايا السنـين أتيت إلى أحكم الحاكمين
وكلي اعتقاد وكلي يقين بأن لديــك شــفاء العلـيل
ثم يقول في المقطع الثالث:
سألتك مغفـــرة للذنــوب وسترًا لما مسنا من عيوب
فأنت إلهي طبيب القلوب ونور هواك يضئ السبيل
ويتحفنا الشاعر أحمد صدوق عبد العليم حين يصف جمال هذه البلاد وما حباها الله من المهابة والجلال، وأحاطها بسياج من التكريم والوقار الذي يخيم على كل شيء فيها، حيث تحمل كل بقعة فيها تاريخًا، وتمثل بصمة فواحة بعبق التاريخ الإسلامي المشرف:
هـــذي ديـــار حـــباها الله مـنـــزلة
يهفـــو إليها إلــى أفيائها البـشر
ربوعها السحر لا يرقى لها قلم
والسحر يدرك لا يأتي به الخبر
ففي الصباح انتعاش في تنفسه
وفي المساء اكتمال حين يبتدر
ويشير شاعرنا منذر الشعار في قصيدته زمزم، إلى مدى ما يجد الحاج من السعادة والصفاء الروحي والنفسي، ولا سيما من الارتشاف من ماء زمزم التي ينتشي الشارب من رحيقها العذب، حيث يحظى بالشفاء من علته، وينعم بالدواء لدائه، كما تمحو بإذن ربها الخطايا، وهي لما شربت له، فمنهم من يشربها لنيل العلم أو الحظوة بالرضا والقبول، أو النجاة في يوم الحشر من الأهوال العظام وعطش يوم القيامة، وكل يشرب منها لما يريد ويبتغي، وحيث صدقت النية تحقق المراد بإذن الله:
إذا شربوا مــن زمــزم وتوضــأوا
سموا الخطايا عنهم في تحطم
فيشربها بعض الحجيج لمغرم
علـيه وبعــض إن حسا فلمغــنم
وبعضهم لغفران الذنوب وبعضهم
لعلــم ومــن يشـرب بزمزم يعلم
وبعض حساها في القديم لمحشر
وعطــشى بــه والله أهــل التـكــرم
ويتناول الشعراء جانبًا من جوانب الشعائر التي يقوم بها الحجاج، حيث يقف المسلمون ويطوفون، ويلبون ويزورون بعض الأماكن.. وهنا يأخذنا الشاعر سعد عطية في رحلة قدسية في مناسك الحج في قصيدته رحلة في مناسك الحج، فينقلنا إلى المنسك الأول وهو الميقات، حيث تبدأ الرحلة الأولى وتبدأ معها النية الصادقة، ويتحرك الأمل في نفوس الحجاج مدفوعًا بالرجاء:
إن في الحج لو علمت انعتاقًا
وانطلاقًا من ربقة الأطيان
مــــن هـــنا تبـــدأ الحـــياة ائـتلافًا
وارتقاءً في موطن الإيمان
ويشير الشاعر صدوق عبد العليم إلى تكريم الله عز وجل لضيوفه، حيث يخفف عنهم من فرائضه التي افترضها عليهم حيث تقصر الصلاة:
وفي مقام خليل الله موقفنا
والركعتان جنان الكون تختصر
تبدت الكعبة الزهراء حالية
مجلــوة فعــيون القـوم تنبهر
هــنا يلـــوذ بــباب الله ملتــزم
هنا يطوف بفلك الله معتمر
ويشير إلى عدد الأشواط التي يطوفها الحجاج حول الكعبة المشرفة، وسعيهم بين الصفا والمروة، حيث يقول الشاعر عبد الحميد فارس.
يطوفون سبعًا ويسعون سبعًا
ويســـبــقــهم للإلـــه الــــرجاء
وأذرعهم ضــارعات ولهــفي
وتقرع بالحب باب السماء
ثم يشير شاعرنا سعد عطية الغامدي إلى مبيت الحجيج بمزدلفة، وما يحمله هذا المنسك من مذاق خاص، بما يحمله من الطاعة والولاء لله :
آذنت شمس يومــنا بـــرحـــيل
فأفيضي للجمع في إذعان
ولدي المشعر الحرام أطيلي
وقفة الذكر والنجاوي الحسان
هاهنا برزخ الرجاء أضــاءت
شــــاطـــئــيه بـشائــر الغفـــران
وتستمر رحلة الحجاج القدسية بين المناسك وأداء الشعائر، ليصل فوجهم إلى أيام التشريق، حيث يقول الشاعر سعد عطية:
وغــــداَ تحــــتفي مــنى بنبــيها
مــــن جديد وتحتفي المروتان
في غد تذبح القرابين ذكرى
لفداء الخليل ذي البرهان
قـــــــام لله والــــذبــــيح لــــرؤيـــا
صدقاها فاستقبلا يصدقان
لــــن يــــنال الإلــه مـنها دمــــاء
أو لحوم بل صادق الإيمان
تلك هي بعض الملامح التي أفاضت بها قريحة الشعراء، وجادت بها عواطفهم في وصف المشاعر والشعائر والمناسك.
ثم ننتقل مع بعض الشعراء الذين توغلوا في أسرار الحج واستكنهوا الحكم، حيث فكروا بقلوبهم وشعروا بعقولهم ورأوا ببصائرهم أن للحج حكمًا كثيرة، منها أن الحج يوحد صفوف الأمة، ويزيل ما بينهم من الفوارق الجنسية واللغوية وغيرها، كما يقرب بينهم في الأهداف فيمزجهم برباط التقوى ويجمعهم على كلمة التوحيد، ويظلهم تحت راية القرآن.
كما أن فريضة الحج والشعائر التي يقوم بها الحجاج، تذكر أيضًا بالتاريخ الإسلامي المديد، وحياة الأنبياء ومدى ما عانوه في تبليغ رسالات الله ، ومن ثم تدفعهم للسير على نهجهم وإحياء السنن الإلهية، واتباع شرائعه وامتثال أوامره، وما جاء به رسله واقتفاء أثر السلف الصالح، لأن هذه الشعائر تدفعهم للتأمل ونبش التاريخ الإسلامي الطويل لتدبر معالمه.. وهنا يشير شاعرنا رفعت المرصفي فيقول:
إنـي هــنا أحــيا علـــى ذكـــر الفــــدا
وتهيجني الذكرى تثير خيالي
وتجول أطياف الحبيب بمهجتي
ويــرف بالآذان صــوت بـــلال
وموقف أيضًا من حياة سيدنا إسماعيل عليه السلام، وقد عزت المياه وأصابه العطش، وقد أخذت هاجر تهرول بين الصفا والمروة على سراب كان يخيل إليها، فأغاثها الله ووليدها بفيض من نعيمه بماء زلال كان نواة لبئر زمزم، وهنا يشير شاعرنا محمد منذر الشعار:
أفجرها جبريل قدمًا لهاجر
وطفل لها تخشى على نفسه ظمي
بتـقديـــر رب العــــرش منهم وإنــه
متى ما يرد يقض المراد ويحكم
فما أشرف البدء الذي ليس مثله
لــــماء وأكــــرم بالمســـيل وأعـظم
فيشــرب إسماعيل منها ويغتذي
وتـــحــــن إلــــيه بالكــــرامة تنتــــمي
ويشير الشاعر جمعة الشايب إلى حكمة الحج في التذكير بما خاضه رسول الله في دعوته وغزواته:
حســـبـي أري نــــور النــبــي محــمد
فيها وذكرى الأعصر العطرات
هذي الصحاري أحمد قد خاضها
يشوي الهجير دروبها العسرات
وزمـــانه لـــم يــركب الأجواء بل
عبرت به القصواء لفح فلاة
كما يستخدم الشاعر عبد الستار سليم، رمي الجمار استخدامًا آخر، حيث يستخدمه في تدمير الشيطان اللعين الكائن في النفس البشرية:
ندعوك يا رب الجمار بحجة
ترمي بداخلنا هوى الشيطان
وعندما يؤدي الحجاج فريضة الحج، ويؤدون شعائرها على الوجه الأكمل، لا يبقى أمامهم سوى الرجاء والأمل في الله أن يتقبلها منهم، ويعيدهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، أن يكتبها لهم حجة.. فيقول الشاعر سلامة السقا:
لبيك لا أحد ســواك لتمــحها
أنت الرؤوف بنا وأنت حسيب
لبـــيك غفار الذنوب جميعها
جــئـنا لبـيـتك نـــــادمــين نـــؤوب
ذا رحمة تسع الخلائق كلها
اجــــعل لـــــنا فــيها لذاك نصـيب
وقفا عذاب النار يوم بروزها
ويشيب ولدان ويذهل شيب
ويبتهل شاعرنا عبد الوهاب المرصفي في أشواقه إلى البيت العتيق، أن يرفق به ويحتسب له حجة تأخذ بيده إلى رحمة الله وجميل عفوه:
فارفق بقلبي واحتسب لي حجة
يروي الفؤاد وتنتشي أوصالي
وهكذا استطاع شعراؤنا أن يصفوا لنا الحج ومشاعرهم، ومدى لهفة النفوس المسلمة إليه، ومدى توقهم لتأدية هذه الفريضة، كما استلهموا بعض العبر والحكم الكامنة في هذه الفريضة.
(*) متخصصة في مجال التربية النفسية والسلوكية / مصر.