حراء تحتفي بـ”فريد الأنصاري” في ذكرى وفاته

يعد الأستاذ فريد الأنصاري العلامة المغربي أحد العلامات البارزة في مسيرة حراء منذ تأسيسها، ومن ثم فقد اغتنمت حراء ذكرى وفاته الحادية عشرة لتلقي مزيدًا من الأضواء الكاشفة على جوانبه الإبداعية فكريًّا وأدبيًّا، ففي ظل الأحداث الصعبة التي يمر بها العالم الآن تنامى دور التواصل عبر المنصات الإلكترونية، وأتيح للعديد من المفكرين والأدباء والمثقفين والمعنيين بالقضايا المشتركة من مختلف أنحاء العالم الالتقاء عبر هذه المنصات وتبادل الرؤى والخبرات والتجارب. واتساقًا مع هذه المرحلة عقدت حراء سلسلة من الندوات الدولية الإلكترونية حول عدد من القضايا كان أبرزها الندوة الدولية التي عقدت بتاريخ 1 يوليو 2020، وذلك تحت عنوان: “الدكتور فريد الأنصاري مفكرًا وأديبًا”، بمشاركة مجموعة من المفكرين والباحثين من مختلف دول العالم.

تناول المشاركون في هذه الندوة المنجز الفكري والأدبي والإصلاحي للمرحوم العلامة فريد الأنصاري، حيث أوضح الأستاذ نوزاد صواش المشرف العام على مجلة حراء والمؤطر لهذه الندوة في أثناء تقديمه للضيوف واستعراضه لأبرز مؤلفات الأستاذ الأنصاري العلمية مدى إسهام الأستاذ الأنصاري في مسيرة الإصلاح ورؤيته الاستيعابية الشاملة العابرة للحدود، واقتفائه أثر حركات النهوض في العالم الإسلامي وتقديمه لنماذجها في أعماله الفكرية والأدبية، وتكييف طرق الاستفادة منها في بيئاتنا المحلية، وفق مرجعياتنا الثقافية ومصادرنا الذاتية.

أما الأستاذ الأكاديمي والناقد الأدبي محمد جكيب الأستاذ بجامعة شعيب الدكالي بالمغرب فقد أكد على أن الأستاذ الأنصاري ما زال في حاجة إلى إعادة اكتشاف أو إلى مزيد من الاكتشاف، وأننا ما زلنا في الطريق إلى هذا الاكتشاف؛ إذ إن السياق العام الذي يمر به العالم الإسلامي يفرض علينا أن نقف عند فكر هذا الرجل وإعادة اكتشافه من جديد؛ لكونه عاش حياة حافلة بتحولات فكرية متعددة، كما أنه كان رجل همّ وهمّة يحمل مسؤولية همّه وهمته ويعيش من أجلهما.

ولم يتوقف دور الأنصاري الإصلاحي على محيطه القريب، بل كان دائم البحث والتنقيب عن رؤى الإصلاح ونماذجها في الشرق والغرب، وقد عاش عدة اكتشافات وتأثيرات منها اكتشافه لرسائل النور واكتشافه أيضًا للترجمة الفعلية لهذه الرسائل من خلال اكتشافه لفكر فتح الله كولن وحركة الخدمة، هذه الاكتشافات عبر عنها من خلال عَمَليْه الروائيين في السيرة الغيرية الإبداعية “آخر الفرسان و”عودة الفرسان” وكذلك عمله البديع “رجال ولا كأي رجال”. ومن يطالع مقدمة كتابه “عودة الفرسان” فسيجد أن شخصية الأستاذ فتح الله كولن كانت حاضرة وبقوة معه في أثناء خطه هذا الكتاب، حيث اعتبر أن العبور من النظري إلى الميداني كانت أهم نقطة في اكتشافه لشخصية الأستاذ كولن وحركة الخدمة.

وختم حديثه بالقول: إن فريد الأنصاري كان رجلاً متطلعًا إلى الأصلح دومًا، وإلى تغيير واقع الأمة، وقد كان في نقده لبعض الحركات الإسلامية في الأمة ينطلق من رغبة في البناء وتحري الوصول إلى الأفضل لا رغبة في النقد المجرد أو الهدم والانتقاض.

وفي كلمته الموجزة والثرية أثنى الصحفي والروائي الأكاديمي المغربي الأستاذ إدريس الكنبوري على استدعاء شخصية المرحوم فريد الأنصاري للحديث عنها في هذه الظرفية، وذلك لأن التجربة التي خاضها والرؤية التي قدمها قد حان موعد حصادها، ومن ثم فالوقوف على هذه التجربة، وتقييمها إلى جانب تجارب الآخرين مطابق لمقتضى اللحظة الراهنة وأحوالها.

واستطرد الأستاذ الكنبوري مفصِّلاً في هذه النقطة قائلاً: لقد كان الأنصاري من الرواد لأنه أول من فتح باب النقد للتجربة الإسلامية. فقد أدرك رحمه الله تعالى منذ البداية الانفصال الواقع في الحركة الإسلامية وتمسكها بالمنهج السياسي على حساب المنهج التربوي، فلخص العملية في غاية البراعة عبر كتاباته وعمل على إعادة الناس إلى القرآن مرة أخرى، لأن الإنسان قيمة والقرآن فيه مجموعة من القيم التي تنمي هذا الإنسان وتنظم سلوكه. ففريد الأنصاري خلاصة أمة، لأنه كان متعدد المواهب كلما دار سقى، عاش رحمه الله كالعلماء السابقين لا يحدهم مكان ولا زمان؛ رحل بروحه إلى اليابان فكتب شعر الهايكو، كما رحل إلى تركيا وتعرف على تجربة الشيخ النورسي وتجربة الخدمة للأستاذ فتح الله كولن. وإذا بحثنا عن سبب رحيله الروحي إلى تركيا وإلى غيرها من الدول مع أن المغرب هي بلد الأولياء والعلماء فسنجد أنه كان لا يبحث عن التربية من أجل التربية، ولكن يبحث عن التربية من أجل بناء نموذج حضاري، الأمر الذي وجده في حركة الخدمة.

وفي تعقيبه على موضوع الندوة أبان الدكتور جمال الحوشبي الكاتب والباحث السعودي ومدير تحرير مجلتي مكة وهاجر أن أهم ما استوقفه عند مطالعة منجز المرحوم الأنصاري المكتوب والمسموع، أنه فريد الرمز وفريد الإنسان، ففريد الإنسان عاش الهم والألم، عاش الحقبة بجميع مشاكلها فاستطاع تشخيص الواقع، كما أنه كان دائم البحث عن النور، وكان متشبعًا بنور القرآن، والقرآن جعله يتعرف عن كثب على الخدمة، وهي كانت آخر محطات حياته، فكان يعيش ويحيا بالقرآن، كما كان فريد الأنصاري حرًّا في قراره لم يكن أسيرًا لحركات أو أشخاص معينين لذا تحمل صعوبة هذا القرار وعانى من أجله، لكنه استطاع أن يميز بين الحق والباطل كما كان التوفيق حليفه فوفقه الله سبحانه وتعالى في آخر حياته للتعرف على الخدمة.

ثم رأى أن المتأمل في سيرة د. فريد الأنصاري يمكن أن يلاحظ انجذابه إلى أربعة أمور، أولاً: الواقع، فقد كان منجذبًا إلى الواقع، فعاشه كما هو، ومن ثم استطاع اكتشاف الهوة في هذا الشأن، ثانيًّا: النص الشرعي، فكان يعيش مع القرآن ويحيا بالقرآن، ثالثًا: الأنموذج، فقد وجد هذا الأنموذج الواقعي الذي انبهر به ألا وهو أنموذج الخدمة، رابعًا: التجديد، فكان لا يرضى بالواقع الذي نشأ فيه ويتطلع دائمًا إلى التجديد، وهذا الانجذاب إلى التجديد وجده في الخدمة واقعيًّا لذلك كان انبهاره بالخدمة لأنها جسدت كل هذه الأمور الأربع.

أما الأكاديمي النيجيري الدكتور: إبراهيم أحمد مقري، أستاذ التعليم العالي في جامعة بايرو، بنيجيريا فقد أكد في مناقشته على الجانب الإنساني وأشار إلى رمزية الأستاذ الأنصاري باعتباره أنموذجًا في تحري الحق والبحث الدؤوب عن أسباب النهوض الحضاري نظريًّا وميدانيًّا.

وفي مداخلة الأستاذ صابر المشرفي رئيس تحرير نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية أشار إلى الجمع بين الشخصية الفكرية والأدبية في عنوان الندوة كان موفقًا جدًّا، فمثل هذه الشخصيات التي تجمع بين الفكر والأدب دائمًا ما تعرض الحق في ثوب الجمال، وتبحث عن الجمال في الحق، ومن ثم ينجحون في توصيل الحق دون أية آثار جانبية، وقد كانت شخصية الأستاذ الأنصاري من هذا النوع، ولعل عناوين مقالاته التي نشرها في حراء على مدار مسيرته معها تشير إلى هذين البعدين في آن معًا.

كما أوضح أن شخصية الأستاذ الأنصاري قد تجاوزت حدود الإقليم الجغرافي الذي نشأت فيه وأصبح لها حضور واسع وقوي في محيط العالمين العربي والإسلامي، وعزا السبب في ذلك إلى أن هذه الشخصيات التي تتوخى الإصلاح وتوقف حياتها على البحث عن مشاريعه بغية الإقلاع الحضاري للأمة لا تكون حكرًا على أبناء إقليمها بل تكون ملكًا للأمة كلها، كما كان الشأن مع العلمين المجددين التركيين العلامة النورسي والأستاذ فتح الله كولن.

الجدير بالذكر أن هذه الندوة شارك فيها علماء ومفكرون ومثقفون ومفتون وكتاب حراء الدائمون وطلاب ومتابعون من جنسيات مختلفة من العالم العربي والإسلامي، وشهدت تفاعلاً كبيرًا من هذا الجمع الغفير، حيث عبروا عن امتنانهم وإشادتهم بالندوة موضوعًا وضيوفًا وتنظيمًا… غفر الله للأستاذ فريد الأنصاري، وأنزل على روحه الطاهرة سلامًا منا ورحمات من عنده، ونفعنا بعلمه وفهمه لكتاب الله وسنة رسوله، وجمعنا به في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

(*) كاتب وباحث مصري.