التآزر الدلالي بين سور القرآن سورة الصف نموذجًا

سورة الصف هي السورة الحادية والستون في ترتيب نسق المصحف بعد سورة الممتحنة وقبل سورة الجمعة، والحادية عشرة بعد المائة بترتيب نزول الوحي على حضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد سورة التغابن وقبل سورة الفتح(1)، وهي بهذا الترتيب من السور المدنية في الأصح(2). ولعل مضمون السورة وما اشتملت عليه من معان، يوضح بجلاء مدى ملاءمة هذه السورة للفترة المدنية أو للعهد المدني، ويبرز ذلك في ثلاث نقاط رئيسية:

1- دعوة السورة المؤمنين إلى وحدة الصف والتراص في سبيل الله عز وجل، والوفاء بالعهود التي يقطعونها على أنفسهم. ولا شك أن هذا الخطاب يتلاءم مع طبيعة العهد المدني الذي يغلب على أهله الإيمان والالتزام بأوامر الله عزوجل، بخلاف العهد المكي الذي يُوجَّه الخطاب في أغلبه إلى المعاندين والمكذبين من المشركين، وتدور قضاياه حول التوحيد والبعث والجزاء يوم القيامة، مما كان ينكره مشركو أهل مكة.

2- ضرْبه الأمثال بأهم رسولين يمثلان عقيدة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وبعضهم كان من مكونات النسيج المجتمعي في العهد المدني؛ والرسولان هما سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليه السلام، يقول الصابوني في “صفوة التفاسير”: “إنما قرنت قصة موسى وعيسى عليهما السلام في هذه السورة لأنهما من أنبياء بني إسرائيل، وهما من أعظم أنبيائهم ومن أولي العزم الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز بالثناء والتبجيل”(3).

3- التعريض في السورة بالمنافقين الذين يسعون إلى إطفاء نور الله عز وجل بأفواههم، يقول صاحب “التحرير والتنوير” في إشارة إلى أن المقصود في هذه الآية هم المنافقون: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(الصف:8)، استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في حال أنهم يدعون إلى الإسلام، لأنه يثير سؤال سائل عمّا دعاهم إلى هذا الافتراء، فأجيب بأنهم يريدون أن يخفوا الإسلام عن الناس ويعوقوا انتشاره، ومثلت حالتهم بحالة نفر يبتغون الظلام للتلصص أو غيره مما يراد فيه الاختفاء”(4).

وقال في تفسير سورة التوبة في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)(التوبة:32)، جيء بهذا التركيب هنا لشدة مماحكة أهل الكتاب وتصلبهم في دينهم، ولم يُجأ به في سورة الصف إذ قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ)؛ لأن المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خفية وفي لين وتملّق(5).

إذن، فقد تبين مما سبق أن السورة تلائم تنزلها في العهد المدني موضوعًا من حيث تأكيدها على أهمية الصف في بناء المجتمع المسلم، ومظاهر وحدة الصف في القول والفعل، ووسائل تطبيقه، وآثار معوقاته في الأمم السابقة، ومحاولات المنافقين شق هذا الصف من داخله بالافتراءات والأكاذيب، ثم ترغيب المؤمنين بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، واحتذاء النماذج الطيبة في الأمم السابقة، والظفر بتأييد الله عز وجل ونصره على الكافرين. وكذلك تلاءمت السورة مقامًا بالحديث عن كل فئات المجتمع التي كانت موجودة في المدينة، ودور كل منها إيجابًا أو سلبًا في موضوع السورة “وحدة الصف والالتزام به قولاً وفعلاً”.

أما ملاءمة السورة لأسباب نزولها فقد ورد في ذلك ما يأتي: “عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرٌ من أصحاب رسول (فتذاكرْنا وقُلْنا: لو نَعْلم أيَّ الأعمال أحبَّ إلى الله تبارك وتعالى عمِلناه. فأنزل الله تعالى: (سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إلى قوله: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) إلى آخر السورة، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)؛ قال المفسرون: كان المسلمون يقولون: لو نعلم أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله تعالى على أحب الأعمال إليه، فقال: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا مدبرين، فأنزل الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)”(6).

ولن نقف طويلاً عند ملاءمة السورة لأسباب نزولها هذا، “فأسباب النزول لا تعدو أن تكون قرائن مما حول النص.. وخلاصة ما انتهى إليه الأقدمون فيها أنها ما نزلت إلا أيام وقوعه، وليس السبب فيها، بمعنى السببية الحكمية العليّة”(7).

أما الذي يجب أن نتأمله ونقف عنده فهو ترتيب السورة في نسقها المصحفي، وأوجه ملاءمتها لما قبلها وما بعدها من سورٍ في هذا الترتيب، “فمن خصائص البيان القرآني أنه على طوله، وتعدد سوره، وتنوع مضامينه وأغراضه، يمثل نصًّا واحدًا تتماسك أجزاؤه وتتلاحم عناصره، حتى قيل: إن جميع سور القرآن كلام واحد يبين بعضٌ بعضًا، حتى إن كثيرًا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر، أو سورة أخرى”(8).

وفي ضوء هذا التلاحم والترابط بين سور القرآن يتبين بعد التأمل عدة ملاحظات:

أ- أن هذه السورة مفتتحة بالتسبيح بينما سابقتها الممتحنة ليست كذلك، حيث بدأت بنداء المؤمنين مباشرة.

بـ- أن التسبيح بالفعل الماضي قد تقدم قبلها مرتين؛ مرة في سورة الحديد، ومرة في سورة الحشر.

جـ- أن التسبيح في السورة التي تليها قد بدأ بالفعل المضارع، وقد تكرر مرة أخرى في سورة التغابن.

أما استفتاح السورة بالتسبيح بينما سابقتها “الممتحنة” ليست كذلك، فقد عدَّه بعضهم دليلاً على أن ترتيب سور القرآن ترتيب توقيفي من عند الله عز وجل؛ إذ “بينما تتابعت الطواسين والحواميم لم تتابع المسبحات؛ حيث جاءت بينها سور المجادلة، الممتحنة، المنافقون. ومن هنا فقد يُتوهم من النظرة الأولى أن الأَوْلى هو تتابع المسبحتين الحشر والصف في الترتيب، لتآخيهما في التسبيح، لكن بالنظر في العلاقة بين الحشر والممتحنة من جهة والممتحنة والصف من جهة أخرى، نرى أن التماسك النصي والتآزر الدلالي في هذا الترتيب التوقيفي يفرض نفسه بقوة، فسورة الحشر تتحدث عن المعاهدين من أهل الكتاب، وسورة الممتحنة تتحدث عن المعاهدين من المشركين، وهما حالتان من حالات السلم مع الآخر الذي بينه وبين المسلمين عهد وميثاق، ثم جاءت سورة الصف لتفصل الحديث عن الجهاد في سبيل الله. وبطبيعة الحال فإن الجهاد يكون ضد غير المعاهدين من الفريقين، وقد بسطت السورة الحديث عن هذا الأمر وشوقت إليه وحثت عليه، حتى لا تركن النفوس إلى السلم وتطمئن إليه في غفلة وتترك حذرها وحيطتها وشوقها وشغفها في نشر دين الله وإعلاء كلمته، حالة ركونها إلى الهدنة والموالاة مع غير المسلمين الذين يستثمرون هذه الحالة من الانحلال والفتور فيشقون الصف ويزعزعون وحدته، ويبطلون فريضة الجهاد ويهونون من أمرها في نفوس المسلمين فيَضعفون وينفرط عقدهم، ويغيب عنهم نصر الله وتأييده.

كما تحدثت سورة الحشر عن موالاة المؤمنين لبعضهم البعض، ثم موالاة المنافقين لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب. وجاءت الممتحنة لتحذر المؤمنين من اتخاذ الكفار أولياء لئلاَّ يشابهوا المنافقين في ذلك، وبسطت القول في ذلك حتى ختمت به، فكانت في غاية الاتصال، ولذلك فصل بها بين الحشر والصف مع تآخيهما في الافتتاح بـ”سبَّح”. ومن المعلوم أن قطع العلاقة مع المعادين للدين، والحانقين على متبعيه والحريصين على تدبير المكائد لهم، يستوجب التآزر والتماسك والتوحد والتراص صفًّا واحدًا، كالبنيان المرصوص في مواجهتهم لإعلاء كلمة الله والحيلولة دون تدبيرهم الخبيث لإطفاء نور الله وانتشار دينه، ومن ثم جاءت سورة الصف لتؤكد على هذه المعاني ببنية السورة المتماسكة العناصر، والمتلاحمة الأجزاء في فرادة إعجازية عجيبة.

أما التلاحم الدلالي بين سورتي الصف والجمعة، فيبرز في عدة نقاط نكتفي منها بما يلي:

أولها: الافتتاح بالتسبيح في كلتا السورتين.

ثانيها: لما بشَّرت الصف على لسان سيدنا عيسى عليه السلام برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، بيَّنت سورة الجمعة دور هذا الرسول في هداية أمته، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(الجمعة:2).

ثالثها: حمَل حديثُ سورة الصف عن اليهود مرحلة من مراحل انحرافهم عن دين الله عزوجل، بدءًا من إيذائهم لنبيهم سيدنا موسى عليه السلام، وانحرافهم عن رسالته، ومن ثم ضلُّوا ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(الصف:5)، وتابعت سورة الجمعة بعض مظاهر هذا الانحراف بعد سيدنا موسى عليه السلام، حيث نكث بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء، وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارًا، ولا وظيفة له في إدراكها، ولا مشاركة له في أمرها.

وقد تآزرت المرحلتان في السورتين، لبيان أن أمانة الدين الإلهي التي نكص عن حملها بنو إسرائيل، قد استقرت عند النبي الخاتم وأمته الذي بشر به سيدنا عيسى عليه السلام أن بعد كان مصدِّقا عليها من قبل، ليظهر هذه الأمانة على الدين كله ولو كره المشركون، ومهما حاول المنافقون إطفاء نورها.

رابعها: لما ختم سورة الصف بالأمر بالجهاد وسماه تجارة، ختم سورة الجمعة بالأمر بالجمعة، وأخبر أنها خير من التجارة الدنيوية.

خامسها: تناسبت الجمعة مع الصف في الاصطفاف، “فالصفوف تشرع في موضعين: القتال، والصلاة، فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة وهي الجمعة، لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات”(9).

هذه بعض من الظلال المشتركة بين السورتين التي تؤكد على أن الخيط الناظم ممتد في نسيج النص القرآني كله من أوله إلى آخره، على تنوع سوره وتعدد مضامينه وأغراضه، “بحيث يبدو هذا النص للقارئ المتأمل بمثابة بنية دلالية متلاحمة الأركان، متواشجة العناصر، أو بمثابة حلقة متلائمة الأجزاء لا يُدرى أين طرفاها”(10)، أو على حد تعبير البقاعي يتضح بهذا “أنه لا وقف تام في كتاب الله، ولا على آخر سورة “قل أعوذ برب الناس”، بل هي متصلة مع كونها آخر القرآن بالفاتحة التي هي أوله كاتصالها بما قبلها أو أشد”(11).

ومع وضوح حقيقة هذا الترابط بين سور القرآن وآياته في الاتجاه الواحد العام الذي أكده كثير من العلماء والباحثين في دراساتهم المفصلة، فإن هذا لا يتعارض مع حقيقة أن لكل سورة تميزها في الجانب الذي تعالجه، وبصمتها الخاصة في الأسلوب الذي تنتهجه وتأخذ به القلوب والعقول.

(*) كاتب وباحث مصري.

الهوامش

(1) جعل الزركشي في البرهان سورة الصف بعد التحريم وقبل الجمعة، ينظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، 1376هـ-1957م، 1/194.

(2) ينسب هذا الرأي إلى الجمهور، ينظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط:1394هـ-1974م، 1/50.

(3) صفوة التفاسير، الصابوني محمد علي، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1417هـ-1997م، 3/354.

(4) ابن عاشور التونسي محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر، التحرير والتنوير، المعروف بتفسير ابن عاشور، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1420هـ-2000م، 28/169.

(5) المرجع السابق 10/172.

(6) أسباب نزول القرآن، النيسابوري أبو الحسن على بن أحمد بن محمد بن على الواحدي، ت: كمال بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ، ص:447.

(7) ينظر: التفسير البياني للقرآن الكريم، بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن (الدكتورة) ، دار المعارف، ط7، ص:23.

(8) في رحاب القرآن الكريم، تأملات بلاغية، حسن طبل (الدكتور)، مكتبة الإيمان بالمنصورة، 2015، ج1/20.

(9) أسرار ترتيب القرآن، السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، دار الفضيلة للنشر والتوزيع، ص:141.

(10) في رحاب القرآن الكريم، تأملات بلاغية، حسن طبل (الدكتور)، مكتبة الإيمان بالمنصورة، 2015، ج1/60.

(11) نقلاً عن المصدر السابق، ج1/60.