دور المجتمع المدني في مواجهة كورونا

في كل مرة تحلّ بالبلاد أي أزمة أو كارثة تفوق قدرة السلطات في مواجهتها، وتتطلب تضافر الجهود المجتمعية لاحتواء هذه الأزمة، يبرز مفهوم “المجتمع المدني” إلى الواجهة وتسلط عليه الأضواء. وهذا ما حدث بالفعل بعد أن اجتاحت العالم حالة من الرعب والفزع منذ إعلان منظمة الصحة العالمية عن هجمة فيروس “كورونا” بأنها “جائحة عالمية” في 12/3/2020.

فقد أكدت الأحداث أن هذا الفيروس الخطير الذي أصاب حتى الآن ملايين الأشخاص حول العالم، بخلاف مئات الآلاف من حالات الوفيات جراء الإصابة به، لن تستطيع أي حكومة مواجهته وحدها، بل يجب تشارك كافة الجهود سواء أكانت جهودًا حكومية أو مجتمعية أو شركات خاصة، حتى يمكن احتواؤه ومن ثم التصدي له والقضاء عليه.

وإذا كانت مؤسسات الدولة تحاول أن تتعامل مع أزمة فيروس كورونا تعاملاً رشيدًا واستباقيًّا طبقًا لإرشادات وتوجيهات منظمة الصحة العالمية ومؤسسات أخرى عديدة، فإننا في المقابل نجد أن هناك حالة خوف كبيرة غير مبررة. ومن ثم تعد أزمة كورونا اختبارًا حقيقيًّا لقدرات وقوة المجتمعات على مواجهتها، ويتوقف النجاح في هذه المواجهة على قدر الوعي في التعامل مع الأزمات طويلة المدى. وبالنظر إلى هذه الجائحة فإنه لا يعرف لها نهاية محددة في ظل سرعة تداعياتها. وأمامنا مسئولية جماعية لا فردية لتحقيق الأمن والسلام والاجتماعي، وهنا يبزغ دور منظمات المجتمع المدني -والمأمول فيه كثير- إلى جانب جهود الدولة المضنية.

وقد أفضت التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية إلى القول بأن مفهوم المجتمع المدني والدولة متلازمان ومتقابلان، فلا يمكن النهوض بمجتمع مدني دون دولة قوية تقوم على مؤسسات دستورية وقانونية، وهذا لا يعني تبعية المجتمع المدني للسلطة، بل موازيًا لها، فعندما ينهار المجتمع المدني تنهار السلطة والدولة معًا.

الدور التاريخي للمؤسسات الأهلية في مكافحة الأوبئة

إن الدور المنوط بمؤسسات المجتمع المدني في مواجهة الأوبئة والكوارث ليس جديدًا عليها، فعند التقصي التاريخي لدور المؤسسات الأهلية في مواجهة الأوبئة والجوائح والكوارث، تبرز لنا عدة أمثلة في دول مختلفة منها مصر في جائحة الكوليرا -مثلاً- عام 1947م، حيث اشترك في مكافحة الكوليرا عدة هيئات ومؤسسات خيرية على رأسها جمعية الهلال الأحمر المصري، وجمعية مبرة محمد على التي تم إنشاؤها في عام 1910م، وأيضًا شارك في هذه العملية بعض الهيئات الأخرى وطلبة المدارس والجامعات ورجال الجيش والقوات المرابطة، وتمثلت تلك المشاركة في التطوع في عملية التطعيم ورعاية المرضى والمعزولين وفتح مراكز الرعاية والتطعيم أيضًا، وكانت أهم هذه المؤسسات والهيئات هي جمعية الهلال الأحمر المصري وجمعية مبرة محمد على جبهة الدعاية لوادي النيل، والنادي العربي. وقد عمل شباب جبهة مصر بالإسكندرية والاتحاد القبطي على تجنيد شبابها في مكافحة الوباء، فوضعت لذلك كشوفًا بأسماء المتطوعين منها لتقديمها إلى وزير الصحة ليهيئ لهم العمل المناسب في هذا الميدان، وكذلك أنشأت مقرات لتطعيم الأهالي. بالإضافة إلى ذلك قامت عدة هيئات ومؤسسات أخرى بالمساهمة في مكافحة الوباء إما بالتطوع في أعمال المكافحة والتطعيم، أو بإنشاء بعض مراكز للتطعيم أو المساهمة في التخفيف عن الأسر المنكوبة وتوزيع النقود والصابون والملابس على تلك الأسر. كما برز بوضوح دور هذه المؤسسات المجتمعية في تركيا أيضًا خاصة بعد أعنف زلزال شهدته تركيا عام 1999م الذي خلّف كثيرًا من الضحايا، فقد كان سببًا في نشأة كثير من جمعيات الإغاثة التي صار لها دور عالمي وإنساني بارز فيما بعد، ومن أشهر هذه المؤسسات جمعية “كيمسه يوكمو” (هل من مجيب الخيرية) التي غطت بنشاطاتها مساحة كبيرة من العالم.

دور المجتمع المدني في مواجهة كورونا

شهدت الفترات الأولى من هذه الجائحة ارتباكًا واضحًا لدى المجتمع المدني كغيره من الفاعلين، فقد كان الجهل بما ستؤول إليه الأمور وإلغاء الدولة لجميع الفعاليات الثقافية والرياضية والمسابقات الأدبية، والمهرجانات والنَّدوات والمعارض وغيرها، عاملاً في وقوف هذه المؤسسات عاجزة متفرجة لا تدري ماذا تصنع وكيف ستتحرك وما هي السياسات التي عليها اتباعها للتعامل مع هذا الوضع الكارثي. ثم سرعان ما انطلقت مُكونات المجتمع المدني في تحديد الأولويات مُعتمدة في ذلك على تجارب البلدان التي فتك بها الفيروس، لتصحح الخطأ في الإجراءات وتصوب تدخُّلاتها لتكون فعَّالة في تطويق الأزمة.

الأدوار الرئيسية الثلاثة

وفي ظل اتساع موجة انتشار جائحة كورونا في العالم، تبلور لهذه المؤسسات دور هام وإستراتيجي بجانب مؤسسات الدولة لمواجهة تلك الجائحة وآثارها، تمثل في ثلاثة اتجاهات:

1- دور توعوي: يعمل على نشر الوعي لدى المواطنين حول خطورة وباء كورونا، وتنبيههم إلى ضرورة الالتزام بقواعد الصحة الأساسية، ووسائل الوقاية من هذا الوباء الخطير، وتقديم المعلومات الإرشادية لمساعدة المواطنين على التصدي للإشاعات في ظل هذه الأزمة، وتوعية الجمهور بخطورة عدم الانضباط والاستهتار بإجراءات السلامة الذي ستكون له عواقب وخيمة على كافة أطياف المجتمع في حال استمراره.

2- دور ميداني: يساعد الدولة في التصدي لهذا الوباء من خلال توفير الكوادر البشرية المؤهلة لمعالجة الآثار الناجمة عن تلك الجائحة، مثل تقديم المساعدات العينية والصحية للمواطنين، وتوزيع المواد الغذائية على المحتاجين، وتوفير المتطوعين المؤهلين للمساعدة في أعمال الرعاية في مناطق الحجر الصحي.

3- دور رقابي: حيت تتم متابعة المؤسسات لتطورات الأزمة، وكيفية تعامل الحكومة معها، ومتابعة شكاوى المواطنين داخل الحجر الصحي، والرقابة لضمان احترام السلطة التنفيذية أحكام القانون الأساسي، واحترام الحقوق والحريات أثناء فترة الطوارئ.

الدور المنوط بهذه المنظمات على المستوى العالمي

في ظل تزايد هذه الأزمة وتداخل مراحلها، شرعت المنصات الدولية في العمل على مساعدة منظمات المجتمع المدني في تحديد احتياجات المواطنين خلال هذه الجائحة، واقترحت مجموعة من الوسائل والأنشطة تستطيع المنظمات أن تقوم بدورها الفاعل خلال هذه الأزمة منها:

أ- نشر الوعي بمخاطر الفيروس، وبأهمية العمل التطوعي بالمجتمع، والتنسيق بين منظمات المجتمع المدني بين المناطق المصابة، والتعاون مع الجهات التنفيذية في نطاق عملها.

بـ- توفير التمويل الذاتي لتنفيذ مبادرتها في المرحلة الوقائية، وتوزيع المعونات على مدار الساعة، ووضع خطة متكاملة لإقامة معسكرات مؤقتة (حجر صحي) للمشتبه فيهم، وفق مطالب مؤسسات الدولة الصحية.

جـ- التخفيف على الأسر المضارة نفسيًّا وماديًّا بتقديم معونات عينية، تزامنا مع الخدمات الأخرى.

د- تتبع الحالات الأكثر تأثرًا بالأزمة وتقديم الدعم المباشر لها، كفئة العمال وموظفي العقود، وأصحاب المهن الحرة، والتجار التي تضررت تجارتهم نتيجة الأزمة.

هـ- المساهمة في إعادة تأهيل المناطق التي تم تطهيرها (أسر / قرى / أحياء) وفق الأولويات، أولها تقديم خدمات الرعاية العاجلة للمتعافين، من خلال زيارة المتعافين وتقديم الرعاية العاجلة لهم ولأسرهم، ودعم احتياجات المستشفيات وزيارة المصابين، وتقديم الرعاية العاجلة لهم ولأسرهم، من خلال تنفيذ مشروع متكامل لرعاية المتضررين.

حـ- الاستجابة الإنسانية المباشرة والعون الصحي والغذائي، وتقديم الخدمات الطبية وخدمات الحماية الاجتماعية والقانونية والعمالية، وحماية الطفل والخدمات الصحة النفسية الاجتماعية المختصة، والتنظيم المجتمعي وخدمات التوعية العامة عبر مواقع التواصل المجتمعي والإعلام.

ط- إعداد ونشر فيديوهات قصيرة عن طرق الوقاية ومكافحة العدوى، وتوزيع مطبوعات توعية على المواطنين.

مبادرات إيجابية

لقد شهد العالم بالفعل في ظل هذه الأزمة مبادرات إيجابية من بعض أصحاب الفنادق في العواصم العربية، للتبرع بإقامة للمعافين من الحجر الصحي، وفق تعليمات وزارة الصحة، كما تبرع العديد من رجل الأعمال على مستوى العالم لبلادهم وبلاد أخرى لمساعدة الدولة في مواجهة الأزمة.

وأخيرًا فإنه من الأهمية بمكان أن يتم التأكيد على دور منظمات المجتمع المدني في الخطة الإستراتيجية للتأهب والاستجابة، بحيث تكون هذه المنظمات ضمن تشكيل لجنة الوحدة الوطنية لإدارة الطوارئ، وتكون جاهزة بالفعل لأداء دورها جنبًا إلى جنب مع الدولة وقطاع الأعمال في مواجهة الأزمات المستقبلية وفق بروتوكول تعاون وتوافق يحفظ لهذه المؤسسات استقلاليتها، ويدفعها في الوقت ذاته لأداء دورها المنوط بها بفاعلية واقتدار.

(*) طالبة وباحثة، نظم ومعلومات أثرية، كلية الآثار، جامعة القاهرة / مصر.