مسؤولية تخليق الحياة العامة في مجتمعنا العربي

تنطلق الحضارة في أي مجتمع من الحياة العامة التي يعيشها الناس؛ من الحمام والمرحاض، من المعابد والمباني المقدسة، من دور الثقافة والمدارس والجامعات، من الحدائق العمومية والصالونات  والمقاهي، من المنتزهات والأماكن والفضاءات العامة، من نظافة الشوارع والأزقة، من المباني وأشكال الدور وهندسات المنازل، من باقي المؤسسات العمومية كالمستشفيات وغيرها؛ فالحضارة تعني ببساطة شديدة حضور الإنسان داخل الزمان (التاريخ) والمكان (الجغرافيا)، ويعني ذلك أن فعل الإنسان في الطبيعة وإسهامه في بنائها هو ما ينتج الحضارة أو التخلف.

وفي مجتمعنا العربي، رغم انفتاحه المبكر على الحداثة بفعل الاحتكاك بالغرب والتغيرات التي فرضها العصر الحديث، أعراف وأخلاقيات وآداب عامة وقوانين اجتماعية، ورثناها جيلا عن جيل، وحفظناها خلفا عن سلف، ولا يمكن لأي كان أن يمحو هذه الأعراف وهذه المحصلات الثقافية والأخلاقية التي يشهد لنا بها العالم، فالتراث العربي شعرًا ونثرًا وتاريخًا يشهد على الحضارة العربية التي تزخر بمقومات الإنسان الكامل، فيكفي أن نعود إلى التراث المادي لنلاحظ ما أبدعته يدُ الإنسان العربي في العمران والمؤسسات الدينية والعلمية والكتب التي تؤرخ للجانب الحضاري للإنسان العربي والتي تعطينا صورة مصغرة عن الإنسان الراقي الذي سبق الحضارة الغربية المعاصرة.

ولا تعني الحضارة فقط التطور العلمي والتقني وإنما هي تعبير صريح عن علو الكعب في الأخلاق وفي التربية وفي العلاقات الاجتماعية وغيرها من القيم وهو ما على الإنسان أن يدافع عنه وأن ينافح عنه في عصرنا، فالحضارة يربطها المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي في كتابه “مشكلات الحضارة” بالأخلاق، ويرى أن الحضارة هي “مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”.

غير أننا نلاحظ في مجتمعنا اليوم انحرافًا واضحًا عن التقاليد والأعراف العربية في الأخلاق والسلوكيات، وهو ما يشي بالمرض والانحراف الاجتماعي الذي يعبر عنه السلوك غير الحضاري والمنحرف عن الاخلاق النبيلة، حيث نلاحظ ذلك في كثير من المدن العربية التي تقدم صورة سيئة للعالم من خلال الأخلاق المذمومة في التاريخ والدين والأعراف الاجتماعية والتي من أهمها مظاهر التلوث وانتشار القذارة في الأماكن العمومية والتي تعتبر عن تلوث العقل وانحراف الفكر عن الدين والأخلاق الجميلة، فضلا عن مظاهر العري والعهر وغيرها من فوضى اللباس وطريقة الحلاقة والأكل في الطرقات والبصاق في كل الأماكن بل والتبول على قارعة الطريق وفي الأماكن العامة وإقامة العلاقات الحميمية على مرأى من الناس، وهي كلها سلوكات دخيلة على المجتمع العربي المعروف بمحافظته، وقد انتقلت العدوى عبر التقليد الأعمى من مجتمعات أخرى وعبر الإعلام المغرض، فحتى المجتمعات الغربية المتحضرة تعاقب على السلوكات التي ينفر منها الإنسان العاقل.

عودة إلى التاريخ

حقا، لقد عرفت جل الدول العربية عبر تاريخها الطويل ميراثًا حضاريًّا ضخمًا يتميز بالتنوع والتعدد ويطغى فيه على المستوى القيمي السلبي على الإيجابي بفعل الاستعمار المتنوع أيضا، و الاستعمار الغربي بشكل خاص الذي أتى بموجات من الثقافة المختلفة والطقوس الاجتماعية التي لا تمت إلى الحضارة في شيء والتي تتناقض مع ما تربى عليه الإنسان في المجتمع العربي، والتي نجدها مبثوثة في الآداب والرحلات وغيرها مما ينبي بالتقدم الحضاري للإنسان العربي، بل إن الاستعمار كان يشن حربًا ضروسًا على القيم العربية وكان هدفه الأكبر هو فصل العربي عن تراثه وثقافته وعن أخلاقه وقيمه.

وإذا حفرنا في القيم العربية الإسلامية القديمة سنجد أن الإنسان العربي يتميز بقيم الجمال وأخلاق الكمال المتمثلة في الصدق والأمانة والاتزان النفسي والروحي وبنكران الذات وروح الجماعة كما يتسم بالأمانة وغيرها من القيم التي تدع كل عربي يفتخر بماضيه، ويكفي أن نتأمل الشعر العربي القديم لنقف على أخلاق العرب التي أسست للمدينة الفاضلة التي غابت عن أفلاطون وسقراط، من ذلك ما وصف به الشاعر العربي الكبير زهير بن أبي سلمى؛ ومن هذه الأخلاق الوفاء حين قال:

وإما أن يقولوا قد وفينا بذمتنا فعادتنا الوفاء

ومنها الكرم والسخاء، الذي يعرف به العربَ الخاصُّ ةالعامُّ، حتى حكي عن حاتم الطائي أنه ذبح فرسه ليقي جوع أطفال جارته، ويرد على عاذلته نوار زوجته بقوله:

مهلاً نوار أقلي اللوم والعذلا ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه وإن كنت أعطي الجن والخبلا
لا تعذليني في مال وصلت به رحما، وخير سبيل المال ما وصلا

ومن أخلاقهم الحياء الذي كدنا نفقده اليوم مع شباب لا يعرف شيئا عن أصله أو فصله وعن أخلاق السلف، وفي ذلك يقول أبو تمام:

إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فافعل ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيى بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء

واقع الأخلاق اليوم

أين نحن، إذن، من أخلاق السلف؟ اليوم تقف الأعراف الاجتماعية والأخلاقيات العربية في مواجهة شبح التغريب والتخريب والعولمة التي تقف ضد القيم النبيلة الموروثة وشبح الانحراف الأخلاقي والتهور السلوكي الذي يصم مجتمعنا اليوم بوصمات العار في مختلف القطاعات: الرشوة في الوظيفة العمومية والزبونية في التوظيف والتشغيل وحتى في الجامعات ومعاهد التكوين، والعري في الشوارع وحتى على القنوات الإعلامية، والتهتك والانحلال الخلقي في المقاهي والعلب الليلية، والعنف في الأزقة والشوارع، بل حتى في المدارس العمومية منها والخاصة.

التفسخ الأخلاقي يجعلنا نندهش اليوم أمام الارتفاع المهول للجريمة، كما نطالع ذلك في الجرائد اليومية، حيث ضاقت المحاكم بالمجرمين وضاقت السجون بالمساجين وضاق المجتمع بأبنائه المنحرفين، وهذا الانحراف جديد، طبعًا، على المجتمع العربي الذي يتسم بالمحافظة واحترام كل القيم النبيلة.

كل هذا يجعلنا اليوم في حاجة إلى ميثاق وطني أخلاقي عام يحفظ مجتمعنا وإلى أخلاقيات توجهنا، وكل هذا يدعو بالضرورة إلى تخليق الحياة العامة في كل الأصعدة والمجالات.

من يتحمل المسؤولية؟

نحتاج أولا، إلى وعي اجتماعي بخطورة الانحراف الاخلاقي وانعكاساته السلبية على الأفراد وعلى المجتمع، وهذه المسؤولية تلقى على عاتق وسائل الإعلام وعلى المدرسة وعلى جمعيات المجتمع المدني، بل على الأسرة وعلى المجتمع ككل، كما أن المثقف العربي يتحمل المسؤولية الكبرى في التغير الأخلاقي وإن كنا نلاحظ العكس من ذلك تماما، فأكثر المحسوبين على المثقفين هم الذين نجدهم ينقلون عدوى الانحراف الأخلاقي إلى المجتمع، ولا أدل على ذلك من كون أغلب الجامعات العربية اليوم هي عرضة للانحراف الأخلاقي والديني؛ فإذا كانت تخرج العلماء والمثقفين فهي كذلك تخرج الأفكار المسمومة والثقافة المميعة التي ينقلها من لم ينجحوا في مسارهم العلمي إلى البيت والحي والزقاق، فالحرية المطلقة في الجامعة غالبا ما تكون لها آثار سلبية على الطالب والطالبة معا، إذا لم يتسلح الجميع بالأخلاق العالية التي نجد منبعها في الدين وفي التراث القيمي العربي.

ونحتاج ثانيا، إلى أدوات صارمة لوقف هذا الانحراف الأخلاقي وذلك بفضح السلوكات اللاأخلاقية والتبليغ عن المجرمين وعن الجريمة، وفضح الفساد بكل أنواعه، كل حسب قدرته، لأن المس بكرامة أي مواطن أو مواطنة هو مس بكرامة المجتمع ككل، ولأن انتهاك أي حرمة من حرمات الوطن هو انتهاك لحرمة كل فرد من أفراد هذا الوطن.

هكذا، إذن يبقى من الضروري تخليق الحياة العامة، حيث يجب أن نشكل قوة ومنعة ضد أشكال الفساد، ذلك أن محاربة الفساد ليست مسؤولية الدولة وحدها بل هي مسؤولية مشتركة، والقضاء على هذا الفساد هو ضرورة يفرضها العصر إذا كنا نسعى فعلا إلى النهوض بمجتمعنا.

ونحن نقصد بالفساد هنا كل ما من شأنه أن يشوه سمعة أي قطاع من القطاعات أو ينحرف بأي مصلحة عن هدفها الحقيقي، فللتعليم أخلاقياته وللإعلام أخلاقياته وللاقتصاد أخلاقياته وللسياسة أخلاقياتها وللعدل أخلاقياته ولكل مؤسسة أخلاقيات يجب أن تُحترم، وعدم احترام هذه الأخلاقيات أو عدم احترام جزء منها هو شكل من أشكال الفساد.