مخلوقات دقيقة “تـُهيمن” على الدماغ

كيف تستطيع مخلوقات دقيقة (فيروسات، وبكتريا، وبريونات، وفطريات، وغيرها) امتلاك أساليب مُتقنة للهيمنة علي أدمغة عوائلها. فتسعي ـ بمهارة وذكاء ـ لتصادر الخلايا والطاقات، ومناهج الحياة والإمكانيات لصالح بقائها، ونموها، وتكاثرها.

يُمكن لفيروس الكَلَب/ السعار Rabies العائلة الربدية Rhabdovirida وشكله كرصاصة البندقية السفر بين الكائنات الحية ذات الدم الحار (الثعالب، وأبناء آوى، والذئاب)، وهي تقوم بإيصاله إلى الكلاب.. المصدر الأساس لنقله للإنسان. وابتكر الفيروس حيلة تُشبه ما تستخدمه مُسببات الزكام (تهييج نهايات أعصاب المجرى الأنفي لتثير العطس، ونفث الفيروسات هنا وهناك). ويستطيع ـ فيروس الكَلَب ـ إثارة رغبة العائل في لعق شخص/ حيوان، مما يسمح بجريانه في اللعاب. كما يستطيع جعله “عدواني السلوك”، ليتاح له القفز لعائل آخر عبر اللعاب الملوِث للجروح الناجمة عن هذا السلوك. وبدقة.. يعرف الفيروس الخلايا العصبية التي يجب “غزوها والسيطرة عليها” ليجعل ضحيته مسعورة، فيضمن بقائه واستمراره.

وتبين أنه يتطور ببطء في الخلايا العضلية في منطقة العض، ثم ينتقل إلى خلايا العصب الطرفي المحيط، ثم سريعًا إلى الجهاز العصبي المركزي، والدماغ، وإلى أنسجة أخرى كالغدد اللعابية حيث يتكاثر بنسب عالية نسبيًا استعدادًا لدورة “هيمنة” إضافية. وتتراوح فترة حضانة المرض في الإنسان (تكاثر الفيروس في الخلايا العضلية) ما بين أيام سنتين، وفق حجم الفيروس الغازي، ومكان العض. فكلما كان موضعها غنيًّا بالأعصاب وأكثر قربًا من الدماغ، تقلصت تلك الفترة. وفي القارة الأمريكية ينتقل الفيروس -أيضاً- عن طريق الظربان والخفافيش (المصاصة للدماء) التي ترسله إلى الأبقار. وقد تم توثيق حالات عدوى عبر جسيمات هوائية محملة بالفيروس تطايرت من مغارات الخفافيش.

مُسببات شلل الاطفال

شلل الأطفال التهاب سنجابية النخاPoliomyelitis ؛ مرض فيروسي حاد شديد العدوي يسببه أحد أنماط فيروسية ثلاثة: 1،2،3 Polio virus. ويتناقل بين الناس عبر المخاط، والبلغم، والبراز، والطعام، والشراب الملوث. ويغزو الفيروس الجسم عبر الأنف أو الأنف، فيتكاثر في الحلق والأمعاء، وينتقل ـ فترة حضانته ما بين 5- 35 يوماًـ عبر العقد الليمفاوية إلي الدم، والنخاع الشوكي، والدماغ. حيث يسيطر علي الخلايا العصبية في القرن الأمامي للنخاع الشوكي (المسئول عن حركة العضلات). فيسفر عن شلل رخو في عضلات الساقين. وعند “هيمنته” علي الدماغ يحدث “شلل الأطفال المُصاحب بالتهاب النخاع والدماغ Poliomyeloencephalitis  وتظهر الخلايا الالتهابية، وضمور في الخلايا العصبية. وفي حاله هجومه علي خلايا العصب الدماغي التاسع والعاشر.. تتأثر الحنجرة فيحدث صعوبة في الكلام، والبلع، والتنفس.

بينما يحدث “التهاب الدماغ الياباني”Japanese Encephalitis  نتيجة العدوى بفيروس، غالباً، يصيب الخنازير في حقول الأرز الآسيوية. وينتقل عن طريق لسعة بعوضة الكيولكس (Culex)، وقد تلسع الإنسان فيصاب: بالصداع، وغثيان وتقيؤ، وآلام العضلات، وتشنجات (Seizure)، بشلل، وفقدان الوعي. وتبلغ نسبة الوفيات نحو %30، أما الناجون فيعانون من أعراض عصبية مستدامة.

مخلوقات التهاب السحايا

يُستعمر الدماغ، والنخاع الشوكي وأغشيته بفيروسات، وبكتريا، وفطريات، وطفيليات تتسلل من خلال جرح عميق، أو التهاب الأذنين/ الجيوب الأنفية، أو عبر الدورة الدموية. وتقف بكتيريا السل (Mycobacterium tuberculosis) وراء التهاب السحايا السلي (Tuberculous meningitis) حيث تستطيع هذه البكتيريا ـ عبر الدم ـ غزو أعضاء غير الرئتين، مثل: الخلايا الليمفاوية، وأعضاء الجهاز التناسلي، والمسالك البولية، والعظام والمفاصل، وغشاء الدماغ (السحايا) والجهاز العصبي المركزي. ويتم التنازع ببطء على مدار أسبوع-أسبوعين، يحدث خلالهما مظاهر حادة وخطيرة: حمي، وآلام الرأس، وقيء، وتصلب في مؤخرة العنق، وشلل في أعصاب الجمجمة، واضطراب في حركة العينين، وارتفاع الضغط داخل الجمجمة، وغيبوبة عميق (Coma) وقد يتكون تورم سلّي (Tuberculoma) يضغط على مناطق الدماغ ويسبب نوبات اختلاجية Convulsions))، أو شلل Paralysis.

وتنتقل جرثومة النيسرية السحائية (Neisseria meningitides) أو المكورة السحائية (meningococcus) المسبب الرئيس لالتهاب سحايا المخ (meninges) من خلال الرذاذ (العطس، والسعال، والتقبيل). وبتملك المكورة السحائية سحايا المخ تشرع في بسط نفوذها علي الجسم عبر اٍنتان الدم (sepsis). ومن ثم ترسل سمومها/ الذيفان الدخلي endotoxin B) B) القوية التي تسبب تحصل ردة فعل التهابية حادة، مع هبوط في ضغط الدم، وصدمة وانهيار أجهزة الجسم. وينشط تخثر الدم فتتكون جلطات داخل الأوعية الدموية.

مخلوقات التهاب الدماغ

تهاجم الحيوانات، وهي متعددة، منها بكتيرية مثل: الليستيريا، والهيوفيليس، واللريكتسيا، والكولستريديا، أو فيروسية: حمى الرشح الخبيثة، والسعار، وفيروس انيميا الخيول المعدية، وهربس الخيول، أو طفيلية: التزوكسوبلازما. ومع سسيطرتها عبر الدم، والدماغ، والأعصاب.. يحدث التهاب الدماغ Encephalitis، وخراريج المخ (تحتل مساحة منه)، وانخفاض الرأس، وعمى، ومشى غير متزن، وارتطام بالحائط، ومشي غير متزن، ودوران/ ترنح، وتشنجات تنتهى بفقد وظائف المخ. ومن بين هذه المخلوقات.. تسبب بكتريا “ليستيريا مونوسيتوجينيس” Listeria monocytogenes مرضاً مُعدياً في الحيوانات (وبخاصة الأبقار). حيث تتغلغل هذه المتعضيات الدقيقة عن طريق الفم مع الغذاء المُلوث. وتنتشر في الجسم فيحدث التهاب الدماغ، والالتهاب السحائي. ومن تلك أعراض المعركة الشرسة: (دوارن الحيوان/ الترنح/ المشي بشكل دائري)، وارتعاش العضلات، وتخلج القوائم الخلفية.

البريونات والإعتلال الدماغي الإسفنجي

يعتبر داء “كروتزفيلد- ياكوب” (الإعتلال الدماغي الإسفنجي) اضطراباً دماغياُ تنكسياً نادراً. وتبدأ أعراضه في عمر يقارب الستين عاماً، ويمتلئ الدماغ بالثقوب كالإسفنج. وتعاق وظيفته فتنجم مشكلات في عمليات: التذكر، والرؤية، والكلام، والنوم والسلوك، والمزاج، وتناسق العضلات وصولاً لحالة من “الخرف” والغيبوبة، ثم الوفاة. وهناك ثلاث فئات رئيسة لسيطرة الداء: “داء كروتزفيلد- ياكوب الفردي”، دون سبب معروف. و”داء كروتزفيلد- ياكوب” الوراثي، المُنتقل في الأسرة الواحدة. و”داء كروتزفيلد- ياكوب” المُكتسب، بسبب التماس مع نسيج مصاب/ آلة جراحية ملوثة خلال العمليات الجراحية. ومن الممكن إصابة الماشية بمرض يشبه “داء كروتزفيلد – ياكوب”، ويسمي: “اعتلال دماغ الماشية شبيه الإسفنجي” “جنون البقر”. وثمة قلق من “غزو” البشر بـ”جنون البقر” نتيجة تناول لحومها المصابة.

وسبب داء “كروتزفيلد- ياكوب”، وغيره من أشكال الإعتلال الدماغي القابل للإنتقال هي “بريونات شاذة”. و”البريون”: بروتين يوجد ـ بصورة طبيعية غير ضارة ـ في أدمغة البشر والحيوانات. لكنها تسبب الداء ومشكلاته عندما تأخذ أشكالاً “شاذة مسيطرة ومهيمنة” علي الدماغ. ولا يعرف بالضبط كيف ولماذا يحدث هذا التحول في البروتين؟. ولماذا يحدث تغير في جين صنع البريونات في الجسم مما يسبب داء “كروتزفيلد- ياكوب” الوراثي؟

هيمنة الطفيليات

طوّرت الطفيليات قدرات “ذكية” تغيير بها سلوك العائل لصالح غاياتها الخاصة.  وتتم بعض هذه التغيرات عبر إزعاج العائل فيتصرف بأسلوب يَستهدفه الطفيلي. فعلي سبيل المثال.. تركب أنواع من الحَلَم mites (جنس Antennophorus) ظهور النمل؛ وتستطيع الحَلَمة تمسيد الأجزاء الفموية للنملة فتثير فعلاً منعكساً يدفع النملة لتقيؤ طعامها لصالح اغتذاء الحَلَمة به. ومن الديدان الدبوسية pinworms (جنس Syphacia) ما يضع بيضه على جلد قوارض، فيفرز البيض مادة تسبب حكة تضطر القارض لتنظيف موضعها بأسنانه، فيبتلع البيض، فيدخل إلى الجوف، ويفقس ويتكاثر بأمان.

كما تعمد بعض الطفيليات لتغيير وظيفة الجهاز العصبي عبر التحكم في هرمونات تؤثر عليه. فتوجد قشريات بحرية (بَرَنْقيلات barnacles، من نوع Sacculina granifera وموجود في أستراليا) تتثبت بذكور السراطين (السلطعونات) الرملية وتفرز هرموناً أنثوياً يسبب سلوك الأمومة عند تلك الذكور؛ ومن ثم تهاجر هذه السراطين المُزَنْدَقَة إلى عرض البحر مع سائر الإناث الحاضنة لتصنع حُفَراً رملية تصلح لنشر اليرقات. ومعلوم أن الذكور لا تطلق يرقات، لكن ذكور هذه البرنقيلات تفعل ذلك. وإذا غزا أحد البرنقيلات سرطاناً أنثى فإنه يثير نفس السلوك بعد تسببه في ضمورَ مبايض الأنثى عبر عملية “الإفساد المِنْسلي الطفيلي”Parasitic castration.

التوكسوبلازم داء المقوسات

يُعطي طفيل المقوسات “توكسوپلازما گوندياي Toxoplasma gondii” مثالاً نوعياً بارزاً في كيفية “الهيمنة” علي الدماغ. وتتألف حياة هذا الطفيلي من تعاقب عائلين يضمان قوارض، وسنانير (قطط). فالقارض يبتلع الحيوان الأولي protozoan الذي يكون داخله ـ ولا سيما في دماغه ـ  أكياساً cysts. وعندما يأكل أحد السنانير ذلك القارض يتكاثر فيه الكائن التوكسوپلازمي. وبعدئذ يطرح السنور عبر بِرازه ذلك الطفيلي الذي تتناوله القوارض في إحدى دورات الحياة عبر طعامها، وهنا يتوقف السيناريو. ففي السنانير وحدها تستطيع التوكسوپلازما التكاثر “جنسياً” ثم تُطْرح للخارج. وهكذا، لن “ترغب” التوكسوپلازما في أن يصيد قارضَها الناقل صقر، أو أن تأكل برازَ سنّورها خنفساء الروث. مع أن هذا الطفيلي يستطيع إعداء الأنواع الحيوانية الأخرى (القوارض، والكلاب، والأغنام). إن جميع القوارض السوية تتجنب ـ بدقةـ السنانير. وهي لا تنمي سلوك “البغض” هذا نتيجة نظرية “المحاولة/ الخطأ Trial and error. بل إن “الرهاب السنوري” feline phobia مُتجذر غريزياً في سلوكها عبر حاسة شم “فيرومونات” القطط. وينطبق ذلك حتى على القوارض التي لم تر قطاً في حياتها (مثل المولودة في المختبر). ولكن تشذ عن تلك القاعدة.. القوارض المُصابة بالتوكسوپلازما، حيث تفقد بشكل انتقائي “بغضها” للفيرومونات السنورية.

كما تفزع النساء الحوامل “الواعيات” من السنانير. وتشكل قدرة هذا الطفيلي على الغزو والسيطرة علي مبرراً لقيام جميع كتب “إرشادات الحمل” بتوصية الحوامل بتجنب وجود السنانير وجرائها في بيوتهن. وأن يحذرن العمل في الحدائق في حال وجود سنانير تتجول في المنطقة. وألا تتأكل شيئا بيدها ـ غير النظيفةـ ـ التي تعاملت مع لحم نيء. وحينما تُصاب سيدة حامل (في أشهرها الثلاث الأولى) بمرض التوكسوبلازموزس/ داء المقوسات Toxoplasmosis فقد تتعرض للإجهاض الذي، ربما، يتكرر تبعاً للقدرة السمية للطفيلي. كما يهاجم الطفيلي الغدد اللفماوية، والطحال، أو يولد الطفل به. وحينها يكون الطفيلي منتشراً بالجهاز العصبي المركزي، والقلب، والرئتين، والغدتين فوق الكليتين. وإذا ما عاش الوليد فسيبقي الطفيلي في جهازه العصبي المركزي، وشبكية العين. ويحتوي دماغ الطفل المصاب على أجزاء ميتة، وتشكيلات متكيسة، ومواقع متصلبة.

داء الحويصلات المائية

تكمن خطورته في أن اكتشافه يأتي مُصادفة أثناء الفحوص الإشعاعية أو الجراحات المختلفة للبشر. وتتوقف ضراوته على عدد وحجم الحويصلات وسيطرتها علي الدماغ. فتؤدى إلى أعراض عصبية، وتشنجات. كما أنها قد تؤدى إلى الوفاة في حالة انفجار الكيس المائي أو في حالة تأثيرها في أحد المراكز الحيوية في المخ. وتحتاج دورة حياة المشوكات “الاكينوكوكس Echinococcus” لعائلين: (العائل الوسيط) حيث يوجد الطور اليرقى “الحويصلات المائية” في الأحشاء الداخلية لعدد من الثدييات (الإنسان، والأغنام، والماعز، والإبل، والجاموس، والخيول، والحمير، والخنازير، والأرانب البرية). أما (العائل النهائي) حيث تعيش الأطوار البالغة للديدان الشريطية المشوكة في الأمعاء الدقيقة لآكلات اللحوم (الكلاب، والثعالب، والفهود، والأسود، والضباع، وابن أوى).

وتتم عدوى العائل الوسيط بابتلاع البويضات (طعام وشراب مُلوث) التي تخرج مع براز العائل النهائي. وفى الأمعاء يتخلص الجنين من الجدار الخارجي للبويضة ثم يخترق جدار الأمعاء حيث يحمل عبر أحد الأوردة الدموية / الليمفاوية الصغيرة إلى الكبد أو الرئتين أو الدماغ. وفور وصول الجنين فإنه ينمو إلى الطور اليرقى ويبدأ في تكوين الرؤوس الأولية داخل تلك الأكياس المائية. ويحتاج ذلك إلى عدة شهور حيث تسمى بـ”اليرقة الكيسية المخصبة” وبعض تلك اليرقات تكون عقيمة حيث لا تكون رؤوس أولية داخله.

مثقبيات مرض النوم الإفريقي

ينتشر “التهاب الدماغ السباتى” في افريقيا (مرض النوم الإفريقي/ داء المثقبيات الافريقي) ويصيب الانسان، والحيوان. ويسببه طفيليات وحيدة الخلية تسمى المثقبيات (الروديسية، والجامبية) ذات شكل دودي، وزائدة طرفية (السوط). وتسبب (المثقبيات الروديسية) أعراضاً أشد من التي تُحدثها الثانية. وتتم الإصابة بالعدوى عن طريق لدغة ذبابة “التسي تسي” المنتشرة على شواطئ البحيرات والأنهار، حيث تصاب الذبابة بالمثقبيات من دم شخص أو حيوان مصاب أثناء تغذيتها، وتتكاثر  في معدة الحشرة، وتنتقل إلى غددها اللعابية. وتبدأ أعراض “مرض النوم”: بالحمى، والصداع، والقشعريرة، والوهن، وورم في الغددالليمفاوية، وطفح جلدي. وفي الحالات الحادة تتطور الإصابة للجهاز العصبي المركزي مسببة نوماً يتعذر التحكم فيه ثم غيبوبة، ووفاة إذا لم يتم العلاج الناجع.