أعلنت الأكاديمية السويدية التي تمنح جائزة “نوبل”، فوز ثلاثة علماء بجائزة “نوبل في الطب 2019″؛ بسبب اكتشافاتهم فيما يتعلق باستشعار الخلايا للأكسجين والآليات الجزيئية المسؤولة عن تكيف الخلايا مع مستويات الأكسجين المتقلبة. هذه ليست جائزة نوبل الأولى فيما يخص استخدام الخلايا للأكسجين؛ فبين عامي 1931-1938 مُنحت جائزة نوبل لاكتشافات متعلقة باستخدام الخلايا للأكسجين أيضًا. فما الجديد بعد أكثر من 80 عامًا، في العلاقة بين الخلايا والأكسجين غاز الحياة؟
ثمانون عامًا من التساؤلات والجوائز
في عام 1931، حصل فريق من العلماء على جائزة نوبل، إثر اكتشافهم أن عملية استخدام الأكسجين في تحويل الغذاء إلى طاقة تُدار داخل المصانع الخلوية المعروفة بالميتوكوندريا بواسطة إنزيمات بروتينية معينة. وفي عام 1938 أُعلنت جائزة نوبل لاكتشاف وجود ما يُعرف بالجسم السباتي (Carotid body) في جدار الشريان السباتي المغذي للمخ، وهو تجمع لمجموعة من المستقبلات الكيميائية تحتوي خلاياه على أجهزة استشعار حساسة لتركيز الأكسجين في الدم، ومن خلاله تتحكم الإشارات العصبية من وإلى المخ في تسارع أو تباطؤ حركات التنفس.
وهذا العام تقاسم الجائزة ثلاثةُ علماء، أمريكيَّيْن وبريطاني، هم “وليام كايلين” من جامعة هارفارد الأمريكية، و”جريج سيمينزا” الباحث في جامعة جون هوبكنز الأمريكية، والسير “بيتر راتكليف” من جامعة أكسفورد البريطانية، وذلك لإسهاماتهم القيمة في فهم كيفية تفاعل خلايا أجسامنا مع وفرة أو ندرة الأكسجين.
رحلة البحث عن بروتينات استشعار الأكسجين
أنفق العلماء الثلاثة آلاف الساعات في معاملهم مع المجاهر الإلكترونية الدقيقة، لمراقبة تفاصيل تفاعل الخلية مع الأكسجين. راقبوا على المستوى الجزيئي تكيف الخلية مع نقص وزيادة هذا العنصر الحيوي، إلى أن نجحوا أخيرًا في تحديد الجينات التي تتحكم في هذه العملية. وأيضًا نجحوا في تمييز البروتينات شديدة الخصوصية متناهية الصغر، التي يتم نسخها من الشفرة التي تحملها تلك الجينات داخل خيوط المادة الوراثية “DNA” المشفرة.
بدأت القصة في جامعة جون هوبكنز الأمريكية عندما شرع “جريج سيمينزا” في دراسة الجين المسمى “EPO”، وهو الجين المسئول عن زيادة إفراز هرمون الإيريثروبويتين الذي تُفرزه خلايا معيَّنة في الكلية ويرتفع كلما انخفض مستوى الأكسجين داخل الخلايا، وينخفض كلما ارتفعت النسبة، وهو المتحكم في صناعة كرات الدم الحمراء عندما يتعرض الجسم لنقص الأكسجين. تعمق “سيمينزا” في بحوثه ليكتشف جينًا قريبًا من الجين “EPO”، هو الجين المسئول عن التحكم في رد الفعل الخلوي عمومًا على نقص الأكسجين.
في الوقت ذاته، وعلى بعد أربعة آلاف ميل، كان السير “راتكليف” في جامعة أكسفورد البريطانية، يدرس أيضًا الجين “EPO”، ليكتشف أن هذا الجين وتأثيره التفاعلي يحدث في كافة أنسجة الجسم تقريبًا، وليس في الأنسجة الكلوية فحسب.
تلاحقت بحوث الأمريكي “جريج سيمينزا” بهدف تحديد المكونات الخلوية التي تتوسط تفاعل الخلايا مع نسبة الأكسجين، ليكتشف أن هناك مجموعة أخرى من البروتينات مسئولة عن الاستجابة لنقص الأكسجين يطلق عليها “HIF”. وفي عام 1995، نشر “سيمينزا” ورقة علمية ذكرت أنه عندما تنخفض نسبة الأكسجين، تحافظ الخلية على بروتين يعرف باسم “HIF-1 Alpha” وتمنع تحلله، ما يؤدي إلى تراكمه داخل نواة الخلية. أما في الظروف العادية التي يكون فيها مستوى الأكسجين طبيعيًّا وفرة الأكسجين، فإن الجزء الفعال من البروتين “HIF-1 Alpha” يتحلل سريعًا ويقل تركيزه بالخلية؛ حيث ينفصل عنه جزيء الـ “Ubiquitin” الذي يمنع تكسيره داخل البروتيوسومات الخلوية المسئولة عن التخلص من البروتينات غير المهمة.
ماذا عن ثالث الثلاثة ويليام كايلين؟
في الولايات المتحدة أيضًا -ولكن في جامعة هارفارد هذه المرة- كان الباحث الشهير في علوم السرطان “ويليام كايلين” يدرس مرضًا وراثيًّا نادرًا يعرف بمرض “فون هيبل لينداو” (Von Hippel-Lindau Disease)، وهو مرض وراثي نادر يسبب نمو أورام وتكيُّسات في جسم الإنسان، يزيد فرص إصابة مرضاه بالعديد من السرطانات.
اكتشف “كايلين” جينًا أسماه “VHL” يقلل فرص الإصابة بالسرطان، ووُجد أنه ينقص بشدة الخلايا السرطانية، لكن للغرابة، وجد “كايلين” أن هذا الجين له علاقة بشكل ما بالجينات المتحكمة في رد فعل الخلية على تغيرات الأكسجين، فيما بعد أثبت السير “راتكليف” وجود علاقة مباشرة بين جين “VHL” ومادة “HIF-1α”.
وفي عام 2001، نشر “كايلين وراتكليف”، بحثَين منفصلَين، يثبتان أن الأكسجين يتحكم في العلاقة السابقة بين جين “VHL” ومادة “HIF-1α”، عبر تغيير تموضع مجموعة هيدروكسيل “OH” في جزيء “HIF-1α”. وفي أبحاث لاحقة، اكتُشف الإنزيم المحدد المسئول عن ذلك، والذي يتحكم فيه الأكسجين. وبهذا أصبح لدينا تصور كامل عن كيفية تفاعل الخلايا مع تغيرات الأكسجين تفصيليًّا حتى أدق مستوى.
هل بدأنا ننتصر في حرب مكافحة السرطان؟
حدد العلماء الثلاثة، الآلات الجزيئية التي تنظم نشاط الجينات كاستجابة لمستويات مختلفة من الأكسجين، وكشفت الأبحاث التي قاموا بها، عن آلية واحدة من أهم العمليات التكيفية الأساسية في الحياة، حيث وضعوا الأساس لفهمنا كيفية تأثير مستويات الأكسجين على عملية الأيض الخلوية والوظائف الفسيولوجية. مهدت اكتشافاتهم هذه الطريق لإستراتيجيات جديدة لمكافحة السرطان.
فمن المعلوم أن الخلايا السرطانية تسيطر على نظام استشعار الأكسجين في الخلية، بحيث تجعلها تنتج أوعية دموية جديدة، ما يسهل عملية نمو الخلايا السرطانية، ويضمن استمراريتها وتكاثرها لوفرة التغذية الدموية، ولكن من خلال فهم آلية تكيف الخلايا مع إمدادات الأكسجين، يمكن تعديل جينات وبروتينات الخلايا السرطانية المسئولة عن الاستجابة لنقص الأكسجين، بالتالي يمكن السيطرة على الخلايا السرطانية ومنعها من إنتاج أوعية دموية جديدة، وهكذا يمكن محاصرة الورم السرطاني والقضاء عليه.
تطبيقات عملية جديدة
أمراض عديدة يمكن أن تتغير نطاقات البحث فيها بناءً على اكتشافات العلماء الثلاثة، منها -على سبيل المثال لا الحصر- الفشل الكلوي المزمن، وما يصاحبه من أنيميا شديدة بالدم نتيجة عدم قدرة خلايا الكلى على إنتاج هرمون الإريثروبويتين.
وسيسهم هذا الأمر في معرفة الأدوية التي تتدخل في استشعار الأكسجين، لتحفيز الجسم على إنتاج خلايا دم حمراء أو أوعية دموية. وهكذا يسهم الاكتشاف أيضًا في علاج أمراض فقر الدم -وأمراض القلب والرئة يمكن أن يكون لها نصيب- من خلال إنتاج أوعية دموية لعلاج أمراض القلب والرئة، وترميم المناطق المتضررة.
الأكسجين له عامل حاسم أيضًا في عمل جهاز المناعة، من خلال تحفيز إطلاق كرات دم بيضاء عند ضعف الأكسجين لمستوى معين في الخلايا. مجالات أخرى تنتظر نقلات علمية في السنوات والعقود القادمة بناءً على المفاهيم الجديدة، منها دراسات علم الأجنة، والتئام الجروح، وجلطات الدماغ والقلب، والإصابات البكتيرية.
(*) طبيبة متخصصة في علم الميكروبيولوجيا الطبية والمناعة / مصر.