يعدّ “إريك فروم” (Erich Fromm) (1900-1980)، صاحب الثورة الثالثة في علم النفس بمدرسته المعروفة بـالتحليل النفسي الإنساني، وكان عالمًا نفسانيًّا اجتماعيًّا شديد الاهتمام بمحاولة فهم المجتمع المعاصر وتطوره وأزماته، لذا ففي أغلب كتاباته اعتنى بدراسة العوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في نمو الشخصية الإنسانية وسلوكياتها، وفي تحولات المجتمعات الصناعية الحديثة، وانتقد آليات التحليل النفسي التقليدي؛ لإغفالها الجانب الاجتماعي واعتمادها على التكوين الغريزي للبشر. وكان توفيق “فروم” بين الطرح الماركسي والطرح الفرويدي ومحاولة تجاوزهما، يحمل في طياته نفحة نقدية إبيستيمولوجية. وهو ما يجعل الإنسان غير مشروط فسيولوجيًّا بيولوجيًّا كما نوه فرويد، وغير مشروط اقتصاديًّا كما فعل ماركس، بل إنه إنسان مشروط أنثروبولوجيا اجتماعيًّا ونفسيًّا، وطبيعته لا تنحصر في حيز رد الفعل على المستوى السيكولوجي أو الاقتصادي، بل إنها طبيعة مؤثرة في العوامل بقدر ما تتأثر هي بالمقدار ذاته.

فطبيعة الإنسان عند “فروم”، مزيج من الجوانب البيولوجية والنفسية والاقتصادية، ومن الجوانب الاجتماعية والحضارية والأنثروبولوجية وجب اجتماعها وتكاملها لبلوغ هذه الطبيعة ومعرفتها، واستكناه الدوافع الأساسية للسلوك البشري، ودعا إلى مقاربة متعددة التخصصات يحضر فيها النفسي متعالقًا مع السوسيولوجي والأنثربولوجي والتاريخي.

فن الوجود

يري “فروم” أنه لكي يجعل الإنسان لوجوده معنى، ولشخصيته كينونة، عليه أن يعلِّم نفسه التركيز والتأمل والإنتاجية، ويهتم بجوهر الأمور لا بمظاهرها.. كما يحاول الإجابة عن مجموعة من الأسئلة مثل؛ على من أعتمد؟ ما هي مخاوفي الكبرى؟ ماذا كان مقدَّرًا لي عندما خُلقت؟ ماذا كانت أهدافي وكيف تغيرت؟ ماذا كانت العقبات في طريقي عندما اتخذت طريقًا خاطئة؟ ما هي الجهود التي بذلتها لأصحح الخطأ وأعود إلى الطريق السليمة؟ من أنا الآن؟ من سأكون إذا اتخذت دائمًا القرارات الصائبة وتجنبت الأخطاء المصيرية؟ من هو الشخص الذي كنت أريد أن أكونه في الماضي والحاضر والمستقبل؟ ما هي الصورة التي رسمتها لنفسي؟ ما هي الصورة التي أرغب أن يراها الآخرون عني؟ أين هي التناقضات بين الصورتين؟ ما هي التناقضات بين الصورتين وبين ما أشعر أنه الحقيقة؟ من هو الشخص الذي سأكونه إذا واصلت العيش كما أفعل الآن؟ ما هي الظروف المسئولة عن التطور الذي تعرضت له؟ ما هي البدائل أمامي لتطور اهتمامي؟ ماذا يجب أن أفعل؟

إن معنى الحياة وهدفها -برأي فروم- مرتبطان بالقيم الإنسانية التي يجب التحلي بها، وبالحاجات الإنسانية الخمس “الحاجة إلى الانتماء، والحاجة إلى الهوية، والحاجة إلى التجاوز والسمو، والحاجة إلى الارتباط بالجذور”، لكن الأكثر صعوبة هو كيفية التمييز بين الأصيل وبين الزائف في هذه الاحتياجات والمعاني. ويمكن -على سبيل المثال- ملاحظة القدر الهائل من المنتجات غالية الثمن، وهي في الحقيقة عديمة القيمة، والعكس صحيح أيضًا، ويمكن ملاحظة مجموعة كبيرة من المتطلبات والاحتياجات الفكرية والمادية، ولكنها مهملة ولا يُلتفت إليها وتكاد تكون مسألة الوجود عنده هي التمييز بين الأصيل وبين المزيف. وتختصر عبارة “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” نظرة “فروم” للإنسان، وهي عبارة عزيزة عليه وكثيرًا ما ترد في كلامه، وهو يؤكد على توق الإنسان الدائم إلى “المعنى”؛ معنى حياته ووجوده، معنى كونه إنسانًا.. هذا التوق الذي عبر عنه الإنسان منذ القدم في شتى مناشط حياته، ويعبر عنه كذلك الإنسان الحديث، الذي رغم توفره على كل الوسائل التقنية المادية لا يزال يبحث عن المعنى، رغم تشوه هذا المعنى في وعيه فظهر توقه بشكل سلبي، ظهر بشعور الإحباط وفقدان الأمل والعزلة والهروب إلى الإدمان.

كما يعتقد “فروم” أن إحدى عقبات الوجود هي التفاهة، وأسوأ التفاهات هي الحديث التافه؛ لأنها -برأيه- تشكل الإنسان على نحو ضحل وضعيف يتعلق بظاهر الأمور فحسب، وليس بأسبابها أو بما يتضمنه “جوهرها”.

نقد التجربة الحداثية ومجتمع الاستهلاك

ألقت مدرسة “فرانكفورت” الألمانية -التي انتمى إليها “فروم” ومثـّل الجانب النقدي للحضارة المعاصرة في شقها النفسي- على عاتقها نقد التجربة الحداثية، ومجتمع الاستهلاك، وماكينة الرأسمالية، وأسلوب التملك المادي. وذلك انطلاقًا من السؤال: هل تقود الوفرة والرفاهية الزائدة والفيضان عن الحد، إلى سعادة المرء، أم هي سبيل الملل والخمول؟ تؤكد هذه المدرسة على أن “الناس ليسوا سعداء”، ليس لأنهم لا يملكون الأشياء، بل لأن “الملل” يخترق حياتهم ولأنهم بعيدون عن الطبيعة وعن بقية البشر. فعندما لا يعرف المرء كيف وماذا يفعل، ومن أين يبدأ، فقد أصبح لا يملك في نفسه الدوافع، لكي يفعل ما هو ذو قيمة، أو ينتج شيئًا يخلق المعنى لديه. وعندئذ يشعر بالخواء، ومضغوطًا كأنه يحمل أثقالاً.. يقول فروم: “إن الملل والخواء الشخصي، هو العذاب والمرض النفسي الخطير”.

يشير “فروم” لأحد مسببات الملل الحديث بأن الفعل لأجل المكافأة أو العقاب، أو ردة فعل للمؤثرات الخارجية، هو أحد معالِم العصر، التي تقود إلى الملل. وتهتم سلوكياتنا الحالية بالتالي؛ إن الإنسان هو كائن رد الفعل؛ يُحدِث المرء مؤثِّرًا ثم يتم رد الفعل.. يعتقد المرء أن كل سلوك الإنسان مبني على مبدأ المكافأة والعقاب، وهذان الأخيران هما المؤثران الكبيران في حياته، ويُنتظر منه أن يسلك هذا السبيل، يعمل ما سيكافأ عليه ويترك كل ما هو معاقب عليه أو مُهدد بالعقاب عليه، لأن التهديد بالعقاب يكون كافيًا. ويتابع: “إن النشاط كرد فعل على مؤثر، أو كدفع المرء لرد الفعل على شكل مَرضي عنه، هو في الأساس خمول. ويؤكد “فروم” على أن الإنسان محكوم بدوافع ذاتية أيضًا، فهب أن جميع متطلبات المرء قد تحققت، فهل سيكون بحالة جيدة؟ يجيب: “ليس بالضرورة، فكونه ظاهريًّا يمتلك كل شيء، لا يعني أنه مطمئن وسعيد.. لأنه يحتاج شيئًا آخر هو الكينونة، والحيوية، والرغبة، وحب عمل شيء ما. تلك القوة الكامنة هي المُساعدة في ولادة المقدرات والكنوز الخبيئة لدى الإنسان”.

إن “شراهة الاستهلاك” هي محاولة للتحرر من الضيق الداخلي، فالفراغ مفزع، وشراهة الأكل -على سبيل المثال- ما هي إلا محاولة بائسة لطرد هذا الفراغ. والاستهلاك الكبير هو إعلان أن الإنسان فاقد لقيمته. ويخلص إلى أن الإنسان لا يبحث عن شيء في الحياة إلا عن نفسه وإثبات ذاته ككائن مطلق، لأنه -باختصار- كائن يتجاوز المادية، ومحركاته لا يمكن أن تكون فقط فسيولوجية أو نفسية أو اجتماعية، فهناك عوامل أخرى كامنة تشكل المحرك الأساس للإنسان. فإثبات الذات لا يكمن في امتلاك شيء أو آخر لأنه ليس الهدف. فتملَّك ما يحلو لك، فلن تهدأ ولن ترتاح.. فخلاص الإنسانية وخلقها للمعنى، لا يكمن في الاستهلاك أبدًا.

معنى الحرية عند فروم

في كتابه الأول “الهروب من الحرية” (1941م) يحاول “فروم” تتبع تطور الحرية من العصور الوسطى للعصور الحديثة، وقد لاحظ أن تطور المدنية البرجوازية يرافقه نشوء عدد من التناقضات؛ فبتوسيعه لمجال حريته يقع الإنسان تحت عبئها ويصبح أكثر اغترابًا، سواء عن نتاج عمله أو عن الآخرين أو عن نفسه، مما يولد لديه لامبالاة وعدم اكتراث بالحياة، وفقدًا لفرديته الشخصية وتفرده، من حيث هو كائن بشري. وهكذا ينظر “فروم” إلى حرية الإنسان على أنها عملية مركبة ذات جانبين، وأنها تتمتع بحرية سلبية تحرر من الوجود الذي يستعبد الإنسان، وحرية إيجابية لأجل صيرورة الإنسان إنسانًا حقيقيًّا، وبين الأمرين هوّة مطلقة.. وهو يفترض أن تطور الإنسان يسير في طريق ازدياد، لكن كثيرًا من الناس لا يملكون القدرة على التحكم بحريتهم.. وثمة خوف من الحرية التي تم الحصول عليها؛ فبنية الأفراد مشروطة بالنزاع الحتمي بين النزوع إلى الحرية والخوف منها. كما يرى أن الاضطراب النفسي المعاصر، هو نتيجة هروب الإنسان من الحرية، وإلقاء نفسه في علاقات خضوع وامتثال للغير. ويعزو هذه الاضطرابات إلى عوامل ثقافية واجتماعية، وإلى مساوئ النظام الرأسمالي الذي يحول الإنسان إلى آلة، إضافة إلى الأثر السلبي للمجتمع الاستهلاكي المعاصر. أما الحرية الإيجابية، فإنها تتحقق من خلال العمل والمحبة، ومن خلال قدرة الإنسان على تحقيق ذاته. ومن هنا فقد دعا إلى بناء مجتمع يستند إلى احترام الوجود الإنساني.

الطباع والأمزجة

يميز “فروم” بين نمطين من الطباع، التوجه غير الإنتاجي والتوجه الإنتاجي، ويندرج تحت الأول ما يلي:

1- توجه الأخذ: فيه يشعر الشخص بأن “مصدر كل خير” هو خارجه، وأن السبيل الوحيد للحصول على ما يريد -سواء كان مادة أم عاطفة أم معرفة أم لذة- أن يتلقفه من الآخرين. وفي هذا التوجه تكاد تكون مشكلة الحب حصرًا هي “أن يكون محبوبًا لا أن يُحب”.

2- التوجه الاستغلالي: كما في سابقه، يشعر الشخص بأن مصدر كل خير هو في الخارج، لكن النمط الاستغلالي “لا يتوقع أن يتلقى الأشياء من الآخرين بوصفها هبات، بل أن يسلبها من الآخرين بخبث وقوة وحتى في مجال الحب والعاطفة”.

3- التوجه الادخاري: يجعل الناس ضعيفي الإيمان بأي شيء جديد قد يحصلون عليه من العالم الخارجي، ويقوم أمنهم على الادخار والتوفير، ويعتقدون أن الإنفاق تهديد.

4- التوجه التسويقي: يركز “فروم” على هذا الطبع، لأنه يدخل في صلب نقده لأسس المجتمع الرأسمالي الحديث، ومحدداته التي تخلق هذا الطبع التسويقي للسلع والخدمات والأشخاص على حد سواء. فلا ينبغي أن ينظر المرء لنفسه بوصفه “سلعة نمطية” ويروج لها، بل بوصفه ذاتًا وكينونة مرنة ومنتجة، كي لا يفقد الإنسان تقديره لذاته فيستمده من تقدير الآخرين له، الذين يستمدون بدورهم تقديرهم لذاتهم من غيرهم وفق متطلبات السوق والتسويق. بالإضافة إلى هذا، يكون الشخص قلقًا دائمًا من خسارة تقدير الآخرين له، وخائفًا من أي هفوة قد تسقطه من الدرجة التي احتلها، بينما الإنسان الناضج والإنتاجي يستمد إحساسه بالكرامة من خبرته أنه الفاعل المتحد مع قدراته.

أما التوجه الإنتاجي: فيشير إلى موقف أساس، وطريقة اتصال في مجالات الخبرة البشرية، وتشمل استجابات المرء العقلية والانفعالية والحسية للآخرين ولنفسه وللأشياء.. وكلمة “الإنتاجية” مرتبطة بالإبداع ولا سيما الإبداع الفني. والإنتاجية ليست مرادفة للنشاط؛ فقد يكون النشاط غير إنتاجي مثل نشاط الشخص المُنَوَّم مغناطيسيًا.. ففي المفهوم الإنتاجي، نحن معنيون بطريقة استجابة المرء وتوجهه نحو الآخرين ونحو نفسه في سياق العيش، نحن معنيون بقيم الإنسان لا بنجاحه.. واستطاعة الإنسان الاستفادة الإنتاجية من قدراته هي فعاليته، وعدم استطاعته هو عجزه.

بحث في سيكولوجية الأخلاق

البحث في المعايير المتعلقة بما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله يسمى “فلسفة الأخلاق”، وهي إذ تحدد لنا كيف علينا أن نتصرف بوصفنا قوى فاعلة تتخذ -لا محالة- شكل علم معياري. ولا بد لفلسفة الأخلاق -كذلك- من أن تدرس ما يمكن أن نفعله لتلبية مطالب الالتزام، وهي معنية بالمسؤولية الإنسانية، وليست المسؤولية -ببسيط العبارة- نتيجة للحرية، بل العكس؛ فأن يكون المرء مسئولاً عن الآخرين وعن نفسه، هو الأساس لما تدعوه “الحرية” بالمعنى الأخلاقي.

ولعل أكبر تحديين تواجههما فلسفة الأخلاق اليوم هما المطلقية والنسبية. وبالنسبة إلى الأولى، يرى أصحابها أن المعايير الأخلاقية لكي تكون صحيحة يجب أن تكون “مطلقة”، ومن ثم فإن قضاياها الأخلاقية صحيحة قطعيًّا وأبديًّا ولا تسمح بإعادة النظر ولا تسوّغها.. والمطلقية سبب النزاعات المأساوية والكارثية، وللحروب التدميرية بسبب الاعتقاد بالتفوق العنصري.

وينبه “فروم” إلى أن هناك مخرجًا، أي أن هناك مجتمعًا جديدًا يعيد للإنسان “إنسانيته”، وهو المجتمع الذي يرتبط فيه البشر برابط المحبة، وتمتد فيه جذور الأخوة والتكاتف، ويتيح للمرء التعامل مع الطبيعة بالخلق لا بالتدمير، ويكتسب فيه كل فرد شعورًا بذاته على أنها ذات قيمة فعالة.

(*) كاتب وأكاديمي / مصر.