(حراء أونلاين) التركيبة التي تقدمها حركة الخدمة فريدة من نوعها، فهي تسعى إلى تطوير حياة الناس من خلال التعليم والحوار، فالأفكار التي تقدمها الخدمة تسعى إلى تحفيز الفرد والمجتمع نحو مفهوم الإنسان الكامل، وهذا المفهوم لا يمكن أن يتحقق إلا في مجتمع حر وعادل. ومن الممكن أن تسهم هذه الأفكار في تقوية المجتمعات لما لها من معقولية تستمدها من القراءة الدقيقة للواقع المعاصر، وموثوقية تعتمد فيها على المصادر الراسخة.
فالطريق إلى العدالة مرصوف بالتعليم العالمي الجيد، وهذا وحده ما يمنح الناس الفرصة لتحقيق قيم الحوار والتسامح الكافيين لاحترام حقوق الآخرين، تلك القيم التي تنبع من استيعاب رائدها الأستاذ كولن للمنظومة الأخلاقية المتكاملة، المتمثلة في القرآن الكريم، وفي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم، ومن ثم صارت من صُلب الممارسات التطبيقية التي تقوم بها الخدمة وتسير عليها منذ عقود، فهي ليست شعارات أيدلوجية يُحتفل بها، وليست مجرد دعاية بل هي من صميم الرؤية الفكرية للمشروع كله.
ولا شك أن للجانب الروحي دوره الذي لا ينكر في نسج هذه الرؤية الفكرية، وتنزيلاتها الواقعية التي طبقها الأستاذ كولن بنفسه، أو استلهمها منه محبوه والمقتنعون بفكره، حيث حولوا تلك الرؤية إلى سلوك ممنهج قائم على المبادرة في صورة مشاريع ومؤسسات وفعاليات حية في أغلب أقطار الأرض. ومن ثم تأتي رحلة الأستاذ كولن مع كتابه التلال الزمردية -بأجزائه الأربعة التي ترجم منها إلى العربية حتى الآن جزءان- لتشكل نوعًا من الدفينة والحصن ضد النزعات المادية المتغولة والعقلانية المتطرفة التي تهدد النفس الإسلامية، وتلفت الانتباه إلى التجربة المعنوية والمعرفة العميقة للتقاليد الإسلامية، وتتصدى للفهم الشكلي الفظ الجاف لمبادئ الإسلام وتصوراته، وتجذب المرابطين على ثغور الإنسانية إلى هدفهم المتمثل في الوجود من جديد، في زمن يمكن فيه للمشاغل الدنيوية والمادية أن تستحوذ على اهتماماتهم الفكرية والعقلية والقلبية.
وإذا كانت الحركية التجديدية في أوائل القرن المنصرم قد استفرغت جل طاقتها في تحرير الأوطان من براثن الاستعمار، فإن حركية الخدمة قائمة في تجديدها على تحرير الإنسان نفسه من أصفاد الاحتلال الفكري، وقيود التبعية الثقافية، وإعادة بنائه من جديد بحيث يكون مؤهلاً لمواجهة الانسحاق تحت التيارات الوافدة الجارفة، وهذا النوع من التجديد هو ما تمليه ضرورة العصر الذي نعيش فيه، وتتطلبه طبيعة التحدي الذي يواجهه هذا الإنسان، فالإنسان نفسه هو مصدر المشاكل وهو نفسه مصدر الحلول.
إذن فالتركيبة الفريدة التي تشتمل عليها الخدمة تتكون من عناصر متعددة تتداخل مع بعضها لتشكل نسيجا من طابع خاص يتمحور حول الإنسان ويعيد صياغته من جديد ليكون صالحًا في نفسه ونافعًا لأمته، ومحتضنًا لأبناء جنسه، بل وللكائنات كلها. ولِتنوعِ عناصر هذه التركيبة تعددت الدراسات الأكاديمية التي تبحث فيها شرقًا وغربًا، محاولة البحث عن مكمن الخصوصية فيها، ونواحي الإيجابية لديها، فمنهم من رأى أنها تتميز بتقديم البدائل وعدم الانشغال بانتقاد النواقص، إيمانًا منها بأن إضافة طريق جديد أجدى من المزاحمة على الطرق القديمة، ومنهم من ركز على الجانب التطبيقي الذي شخص كل أفكار التجديد، وجعل منها حركة تبني نماذجها من ذاتها، ومنهم من اهتدى إلى أن السر هو القدرة على إحياء عصر السعادة بما يتلاءم مع روح العصر الذي نعيش فيه بلا استقطاب ولا تقوقع.
ولا يزال حديث المحنة يتجدد فالأفكار تحارب وتتعرض الأسفار التي تحملها إلى أكبر محرقة في التاريخ الحديث، وحاملو هذه الأفكار لا يأمنون في أوطانهم ولا في، منافيهم حيث يتعرضون للاختطاف والتنكيل، ثم للسجن والتعذيب دون أي ذنب أو جريرة سوى سعيهم لتبليغ هذه الرسالة في كل مكان تشرق عليه الشمس أو تغرب، والله وحده المستعان.