يعرفُ محمد عبد الله دراز الدين بأنه ذلك الاعتقاد بوجود ذات أو ذوات غيبية علوية لها شعور واختيار، ولها تصرفٌ وتدبيرٌ للشؤون التي تَعني الإنسان، وهو اعتقادٌ من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، خضوع وتمجيد. وبعبارة أكثر إيجازًا إذا نظرنا إلى الدين من زاوية نفسانية، نجد أنه إيمان بذاتٍ إلهية جديرة بالطاعة والعبادة، أما إذا نظرنا إليه انطلاقًا من حقيقة خارجية، فهو جملةٌ من النواميس النظرية التي تحدد صفاتَ تلك القوة الإلهية، وجملةٌ من القواعد العلمية التي ترسم طُرق عبادتها. أما فيما يتعلق ببعض التعريفات الماهوية للدين، فنستحضر تعريفَ ماكس مولر الفيلسوفُ والمؤرخ الألماني (1823م–1900م) في كتابه “نحو علم بالدين”، حيثُ يقول: (إنَّ الدين هو كدحٌ من أجل تصور ما لا يمكنُ تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه. إنه التوقُ إلى اللانهائي)، وهو قريبٌ من تعريف هيجل (1770م–1831م) حيث يربط فيه الدين بالروح الواعية، وبجوهرها، وارتفاعها من المتناهي إلى اللامتناهي. ونجد في أغلب التعريفات الغربية دورانًا حول مفهوم القوة الخارقة، والارتباط بالماورائيات؛ كانت صادقة أو كاذبة. وكقاعدة حاكمة في اعتبار الدين دينًا وفصله عما يمكن أن نسميه فلسفاتٍ أخلاقية، أو ديانات حلولية، فقد حاول وليام جيمس رائد البرغماتية الأمريكي (1842م-1910م) وضع ثلاث قواعد لمحاكمة الدين، وهي: تنوير القلوب، والتسويغ المنطقي، والهداية السلوكية. وهذه الثلاثية تختصر طرق التحقق من الدين، وكذلك الغرض الكامن من وراء نشوئه، واتجاه الناس إلى الإيمان بمعتقداته، وإن كانت هذه الثلاثية مجحفة بشأن الطرق الاستدلالية المستعملة في الوصول إلى التحقق من كون الدين دينا، عن غيره من الفلسفات الأخلاقية التي قد تلعب نفس الدور في تطابق هذه القواعد معها، واستقرارها في اللاوعي الجماعي للمجتمع المعتقد لها.

أما التدين فهو ارتباطٌ بالواقع، وهو جهادٌ لإنجاز الدين، وهو نزعة فطرية لا يمكن تصور إنسان من دونها مهما كانت صورة ذلك التدين، فالأبحاثُ التاريخية التي تتبعت تطور الإنسان، كلها قررت ارتباطه الوثيقِ بالغيبيات مع اختلاف تصوراته عنها، وبالتالي فالتدين حاجةٌ وكسبٌ إنساني، نسبي ومحدود، يتضمن معاناته ومكابداته مع الوجود، وكيفية النجاة من العقاب المتصور.

الدينُ بطبيعته تحكمه مجموعةٌ من السياقات المنشئةِ له، وهذا راجعٌ بالأساس إلى الأسئلة المواكبة لظهور الدين والقضايا المتعلقة بالتسويغ العقلي والامتلاء الوجداني، وأيهما مقدم على الآخر؟ وهل يمكنُ لهما تحقيق التكامل في الوصول إلى الغاية الدينية؟ فالمداخل لتبيان أصل الدين ومنشئه، مختلفٌ حولها، إذ نجد أن هناك اختلاف شديد بين كثير من العلماء وخلفية آلياتهم المعتمدة من أجل الإجابة عن سؤال الضجة الوجودية. لكن؛ من خلال البحث اتضح لنا نظرتان تبرران أصل الوجود وغايته: الأولى؛ نظرةٌ مادية تعتقدُ بأنَّ الظاهرة الدينية تفسر نفسها بنفسها؛ أي أنها تبقى رهينة الكون نفسه. أما الثانية فهي نظرةٌ غيبية تفسر الحياة باعتبارها مخلوقة من لدن خالقٍ مدبر. وقد حاول فراس السواح في هذا الصدد من خلال كتابه “دين الإنسان” تقسيم التاريخ الإنساني إلى أربع مراحل: فبدأ بالسحر، والدين، والفلسفة، ثم العلم التجريبي، وهذا التقسيم مخلٌّ في حد ذاته، لأن كل مرحلة تلغي ما سبقتها من المراحل، وقد ذكر سيغموند فرويد (1856م– 1939م) في كتابه “مستقبل وهم”، بأن العودة إلى المراحل السابقة كالدين مثلا، هي عودةٌ إلى الطفولة البشرية، وللخروج من هذا المأزق التحليلي للتجريبيين، العلمانيين خصوصًا، نجد أن علماء الأديان قد قدموا تقسيماً لتطور الظاهرة الدينية في ثلاثِ نظريات:

  • النظرية الأرواحية: وتعني أن البشر بدأوا حياتهم بغير دين أساساً، وأنهم اهتموا بتقديس أرواح أسلافهم، فتحول هذا التقديس مع الزمن إلى عبادة للأرواح، ثم تحولت الأرواح الجزئية إلى إيمان بروح كلية للكون.
  • النظرية الطبيعية: وتدعي أنَّ أسماء الآلهة هي أسماءٌ لظواهر طبيعية، وبالتالي عُبد الله انطلاقاً من عبادة الشمس والقمر وغيرهما من تلك الظواهر الطبيعية التي أبهرت الإنسان، وأحس بضَعفه، وتضاؤله أمامها.
  • النظرية البراغماتية: والتي دافع عنها وليام جيمس في كتابه “أنماط الاعتقاد”، وتعني أنَّ الدين حيلةٌ نوعية، وصِنعة أخلاقية بشرية من أجل تجاوز أنانيته في مساعدته على تحقيق مصلحة الفرد والمجتمع، وهي تُبِين عن نوع من الخوف والطمع العميقين في النفس الإنسانية.

هذه النظريات تؤكد لنا بأنَّ الكائنَ البشري ارتبط تفكيره بقوى خارقة كبرى بغض النظر عن كيفية تعامله معها، وهو يبرز فطرة الإنسان الميالة إلى الغيب والأشياء الغامضة، أما بخصوص تخلف الإنسان عن ملازمة هذه القوى الغيبية، فهذه مجرد دعاوى لها ارتباطاتٌ تاريخية خصوصاً مع الأزمة التي سادت في القرون الوسطى، والصراع الذي كان قائمًا مع الكنيسة، وتحكُّمِ النظرية الثيوقراطية في المجتمع الأوروبي، لكننا نجد عند بعض المفكرين الغربيين أنفسهم من حاول تقديم تفسير تضَمَّنَ بعض الإنصاف، وعدم الإنكار لهذه الحقائق الوجودية، فأندريه مارلو على سبيل المثال، يقول: “إن هذا القرن سيكون قرن تديُّن أو لا يكون”، وذلك ردًا على دعوة الحركات العلموية إلى تجاوز الدين، ثم اكتشفتْ بنفسها أنها تلعب، فسلوفان في كتابه “حدود العلم”، يقول: (إنَّ العلم أصبح أكثر تواضعًا وأقل تبجحا مما كان)، أما قبل أندريه مارلو بعِقدين، فكتب نيتشَه: (لقد مات الإله).. وكلها خطاباتٌ جوفاء فارغة المحتوى، ومحكومة بخلفيات إيديولوجية تحملُ منَ الجنون بقدر ما تستوعب من الحقيقة، وتتعامل معها برَوية تجنباً لمثل هذه المجازفات. لأننا نجدُ في نهاية المطاف أنَّ الكائنَ الإنساني هو الحيوان الوحيد الذي يصنع مقبرة يدفنُ فيها أمواته، والأمواتُ هم الأكثر حياة من الأحياء، وبالتالي هم الذين يوجهوننا، ويفكرون لمصيرنا أكثر مما نفكر فيه.

بالرجوع إلى إطار إنجاز الدين على الواقع، نرى بأن فكرة التدين مرتبطةٌ أساسا في السعي وراء المعنى، والتماس الباطن في الظاهر، في اعتقادٍ من شأنه الإيمانَ بأنَّ كل دقيق أو جليل إلا وإله أو آلهة لها فيه قَدَرٌ وتدبير.

على سبيل الختم، إشارةٌ إلى بعض الأنماط التدينية للدين، والتي تشكل غالبيتها في المجتمعات التوحيدية خصوصاً الديانة الإسلامية منها، ويمكن تِعدادها إلى تسعة أنواع، نذكر منها ثلاثة أنواع مهمة، والتي تكتسح غالبية الناس تنزيلا للدين، وهي كالتالي:

  • التدين الذرائعي: وهو التزام الدين، واحترام رموزه مراءاة للمجتمع، ونمثل بصلاة الجمعة كمثال واضح.
  • تدين رد الفعل: وينتجُ عن أصحابِ العقوبات الجنائية أو المتعرضين للآلام والمجون عبر ماضيهم، فينتج عن ذلك رد فعلٍ يتطرفُ من خلالها في دينه ويتشدد، فهو نوع من التعويض النفسي عن ماضيه، ويؤدي في ممارساته التدينية طقوسًا أقرب للغلو منها إلى الاعتدال، ويَحسِب ذلك من الدين.
  • التدين الشعبي: وهو صَبغ الدين بصبغة بهلوانية أو فلكلورية تختلطُ فيه البدعة بالسنة، والثقافة التاريخية بنصوص الوحي، وأعراف الشعوب بأحكام الدين، وهو طلاءٌ هَشْتَله مزيف.

نخلصُ إذن إلى أن هذه الأنماط الثلاثة لها دوافع فطرية، تحاول ملء الفراغ الكامن، ولا يمكنُ أن يكون كلُّ البشر على خط سواءٍ في ممارستهم الشعائرية، لأنَّ المشاربَ والألوان تختلفُ باختلافِ الأجناس والثقافات، والحقيقة الوحيدة المتفق حولها، أنه من دون الدين يشعر الإنسان أيُّ إنسان بغربة وجودية، يبحث من خلال تدينه عن الطرق التي يراها مناسبة ليسد الخُلة التي تحفر عميقًا في صدره هوةً لا قرار لها.