إن العقل والإرادة اللذين منحهما الله سبحانه وتعالى لنا، لا يناسبهما إلا إطلاق حرية التفكير عند الإنسان، فعن طريق التفكير الحرّ ينتخب الإنسان أفكاره ويتوسّم سبيل الوصول إلى الحقائق، ويجنّب نفسه الوقوع في الأوهام. وقد بلغت دعوات القرآن إلى التفكير درجة عالية تصل إلى حد الوجوب، كيف لا وقد أناط الله تعالى بالتفكير التوصل إلى الحقائق الدينية المصيرية، بما في ذلك الإيمان بالله تعالى وبرسوله، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)(سبأ:46)، وهاته الحرية (حرية التفكير) مما لا يختلف فيه، لأن تفكير الإنسان فيما يصلح أحواله في حياته وأخراه مما لا غنى لأحد عنه، فلذلك يقول ابن عاشور: “هاته الحرية مما لا يتطرق إليها تحجير، إذ لا يمكن كَبْت الفكر عن الحرية في المعقولات والتصورات والتصديقات”؛ فكأن الإمام يشير إلى أن حرية التفكير تتنافى مع الهبة الإلهية للإنسان بهذا العقل الجبار، فلو أراد الله تعالى أن يعطل حريتنا وتفكيرنا، لَمَا أتاح لنا هذا العقل الذي من فَرْط حريته كفرانه بخالقه.
ومن أجلى مظاهر ثمرات حرية التفكير لدى المسلمين تطور المعارف، وازدهار العلوم، وظهور المدارس العلمية والفقهية، وتأصل النظريات العلمية وظهور الاكتشافات.. كل ذلك بسبب الحرية في التفكير التي تفتِّق المواهب وتطلق العنان للعقل في أن يجول بفكره ويكتشف القوانين، لا ينكر في ذلك أحد على أحد إلا فيما يتعلق بالخطأ والصواب.
إن الإسلام لم يفرض على حرية الفكر قيودًا تُعطِّلها، وإنما حذّر من أن تتحول هاته الحرية إلى تسيُّب، فتكون مثارة للنعرات وسببًا لهدم المجتمع وإشاعة الفاحشة فيه.
انتقاد القرآن لمن يفكر بعقلية الآباء والأجداد وما وجد عليه الحال، إذ يجب على كل إنسان صحة التفكير فيما يعن له من حوادث، وألا يترك أي أحدٍ يفكر بدله، فالتفكير هنا متعلق بذوات الأفراد لا يغني فيه أحدٌ عن أحد. قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ)(المائدة:104).
يدعونا النظر القرآني إلى السير في الأرض بجناحي التفكر والتدبر؛ للوقوف على سنن الأشياء وحكمة الله في الكون، والالتفات إلى البدايات وأهميتها في دراسة الأشياء عبر مراحلها المختلفة، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت:20)؛ فلكي يأخذ التفكير مساره الطبيعي يجب النظر إلى الأشياء نظرة شمولية متكاملة من كل جوانبها، وعدم إغفال جانب على جانب، لأن في الإغفال تقصيرًا في الجهد ومن ثم الظلم في الحكم.
تحري العلم والموضوعية وهذا من عنوان الإسلام الكبير، وطريقه المستقيم الذي يفرضه على أتباعه قبل غيرهم، والآية الكلية في هذا هي قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(النمل:64).
إن الكلام الذي يلقى على عواهنه دون سند من حجة أو برهان، هو الذي يكثِرُ من الخلاف ويشحن النفوس بالبغضاء والخصام، فتضيع الحقيقة ويكثر المتقوِّلون على الله ورسله بغير علم، فيضِلُّون ويُضِلُّون. ولله درّ علمائنا حين قالوا: “ولو أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف”.
عدم التحيز لفئة، أو جعل عداوتها سببًا لسوء الحكم عليها وغمطها حقها المأمور به شرعًا، وضرورة الإذعان للحقائق ولو خالفت هوى النفس ورغبةَ من نحب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة:8)، وقوله تعالى في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)(النساء:135)؛ فكلا الآيتين تقضيان عدم انجرار الإنسان وراء ميولاته، ضاربًا بعرض الحائط مقتضيات العدل ومساواة الناس أمام الحقائق التي لا يمكن التغاضي عنها أبدًا.
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه ومع أصحابه أروع الأمثلة في التفريق بين الغرض الشرعي والغرض غير الشرعي، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعدّ وتحصى، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام لحبِّه أسامة بن زيد حينما جاء شافعًا في المرأة المخزومية بإيعازٍ من قريش، فغضب وقال: “أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟” (رواه البخاري).
اتهام النفس حيال الهزائم والنكسات، وعدم إلقاء اللوم والعتاب على الآخر، وتبرئة ساحة الإنسان الفردية من كل مسؤولية. ففي السابق كان الإنسان “الدهري” أو “القدري” يعلّق هزائمه على القدر وإرادة الله وهم طائفة القدرية، واليوم تأخذ القدرية شكلاً جديدًا يتمثل فيما يسمى بـ”نظرية المؤامرة” التي من سلبياتها عدم محاسبة النفس والرجوع إلى الذات، من أجل نقدها وتحديد مسؤولياتها في هذا الشأن، قال تعالى في بيان معرض هذا الأمر، ومجيبًا عن تساؤل المؤمنين بعد معرفة أحد حينما قتل من المسلمين عدد كبير: (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)، فجاء الجواب الإلهي مباشرًا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران:165)؛ أي أن ما أصابكم من هزيمة راجع إليكم بسبب معصيتكم وعدم طاعة أمر نبيكم.
وهكذا يمكن عدّ ما لا يحصى من القواعد القرآنية والحديثية، التي تعنى بجانب التفكير الذي أخذ نصيب الفرض والواجب من أقسام الحكم الشرعي عندنا.
ولَكَم كان لحرية التفكير عند المسلمين من بالغ الأثر في تكوين الحضارة والاستفادة من التراث الإنساني كله. أكثر من ذلك، فقد كان لحرية الفكر إسهام عظيم في وحدة الأمة الإسلامية، والنأي بها عن الحروب الدينية وحروب إبادة التطهير العرقي كما حدث في حضارات أخرى.
إذن، حرية الفكر مما رغب فيه الإسلام وحضّ عليه، وأطلق للإنسان العنان في أن يستعمل فكره فيما يعود عليه وعلى أمته بالنفع.
(*) كاتب وباحث مغربي.