إننا نعيش في عالم يسكنه قرابة 8.700 ألف نوع من الحيوانات، بل هذا الرقم يشمل أنواع الحيوانات الرئيسية فقط ولا يحصي الأنواع الفرعية، بالإضافة إلى حوالي 2.500 نوع جديد يتم اكتشافه سنويًّا من قِبل العلماء الباحثين في أماكن مختلفة من الكرة الأرضية.
هذا وقد وُهب كل نوع من أنواع الكائنات الحية جسمًا وأعضاء ونظامًا تمكّنه من البقاء على قيد الحياة، وتساعده على حماية نفسه من الأخطار التي يتعرّض لها. وكذلك مُنحتْ هذه المخلوقات قابليات تستطيع من خلالها مداواة نفسها. عندما يصاب الإنسان بمرض ما، يسارع إلى الطبيب للكشف عن مرضه، وبالمقابل يسعى الطبيب إلى علاجه وفحصه لتشخيص المرض.
ولكن ماذا تفعل الحيوانات في الغابات والصحاري عندما تصاب بمرض أو جرح؟ وهل لديها أطباء تداويها؟ وكيف تَجد ملايين الأنواع من الحيوانات العلاج المناسب لأمراضها وكيف تتداوى؟
قد تظن ببساطة أن الحيوانات المريضة ليس أمامها خيار سوى العيش بأعراض أمراضها، ولقد أشرنا في مستهل مقالنا إلى أن كل كائن حي يتمتع بنظام يمكّنه من استدامة حياته بنفسه، ويتحلى بآلية تساعده على التأقلم مع البيئة التي يعيش فيها.. أجل، لقد زوّد الله كل كائن بجسمٍ له خصائصه التي تمكّنه من دفع الأذى عن نفسه، وقد اكتشف الإنسان مؤخرًا أمرًا أثار عنده الدهشة والإعجاب؛ وهو أن الحيوانات تستخدم بعض النباتات ذات الفوائد لمعالجة أمراضها بنفسها.
في العقود الأخيرة، ازداد الاهتمام بالمنتجات العشبية؛ كأوراق الجوز، وقشرة اليوسفي، وساق الكرز، والجرينادين الأحمر، وجذر الكرفس.. من أجل إيجاد علاج للأمراض المختلفة. هذا وقد نجح الإنسان من خلال أبحاثه العلمية، في اكتشاف بعض النباتات التي تحتوي على خصائص شفائية، مثل الترمس، وكواسيا، والخشب المر، والشوكران، والورد، والهيبين، وجذر الشمر العملاق، والفستق، والراتنج، وزيت التربنتين، والصنوبر، والهدال، والكمون، والكركديه، وزهرة الكركديه، والكانيت، وإليجني، والكافور، والهيل، ونبتة سان جون، واللافندر الفرنسي، وبذور الكتان، وزيت بذر الكتان، وشجرة الحناء، وغيرها من الأعشاب.. لكن المحير في هذه المسألة، أن الحيوانات -ومنذ فجر التاريخ- تستعمل هذه النباتات العشبية، وتعرف خصائصها الدوائية.. فهي مزودة بأجهزة تمكّنها من العيش في أقسى وأصعب الظروف، وإليكم بعض الأمثلة:
خبير المضادات الحيوية
بارتفاعٍ يصل إلى خمسة أمتار، تعدّ الزرافة أطول حيوانات كوكب الأرض. ولقد قام العلماء بدراسة الروائح التي تنبعث من الزرافة، فوجدوا إحدى عشرة مادة كيميائية مختلفة تكمن في فروة هذا المخلوق، وأدركوا أن هذه المواد الكيميائية هي مضادات حيوية، وتزداد هذه المواد فاعليةً عندما تتحد فيما بينها.. بينما نحن البشر لا نستطيع استخراج مثل تلك المضادات الحيوية إلا بعد عمليات معقدة داخل المعامل على أيدي المتخصصين في علم الكيمياء.. ولكن الزرافة منذ أن خُلقتْ تستعمل تلك المضادات الحيوية لتحمي نفسها من البكتيريا والفطريات، وتصد هجمات حشرة القراد، وتمنع نمو الجراثيم في جسمها.. من أين أتقن هذا المخلوق -الطويل القامة- علمَ الكيمياء فأنتج موادًّا مضادة حيوية؟
الطبيب العنيد
يعد الوعل أحد أنواع “تيس الجبال” في كلٍّ من تركيا وإيران، وتركمانستان، وباكستان. ويرتدي الوعل معطفًا من الفرو متعدد الألوان بين الأسود، والبني، والرمادي، والذهبي، والأبيض.. ويملك ذكر الوعل والأنثى قرونًا ولحية. يسمى “الوعل” في اللغة الفارسية باسمٍ مرادف لكلمة “علاج”، وقد أطلقت عليه هذه التسمية، لأن السكان المحليين لاحظوا أنه متى ما لدغته الثعابين بسمّها الزعاف، هرع ليأكل نبات “الفربيون”.. ولما قام العلماء بإجراء أبحاث حول هذا النبات، وجدوا أنه (الفربيون) يحتوي على مكون يدعى “يفروبون”، والعجيب أن هذه المادة تقوم بعكس تأثير السموم بصورة سحرية، ولذلك عندما يصاب “الوعل” بسمِّ الثعبان، يُسرع بالبحث عن نبات الفربيون بين الأعشاب والنباتات، ليعالج نفسه بها مجانًا.
خبير الغوص في الأعماق
الغواصون الذين يصعدون بسرعة إلى سطح الماء، يمرون بتجربة في غاية الخطورة قد تودي بحياتهم، فما يعانوه من آلام في الصدر لا يحتمل، إذ في حالة الصعود السريع يتحول الغاز الخامل إلى فقعات هوائية في مجرى الدم وفي الأنسجة، وهو ما يعدّ أمرًا خطيرًا قد يؤدي للشلل والموت. ولكن كيف لملايين الكائنات التي لا تملك أنابيب الأكسيجين أن تعيش مدى الحياة في البحر دون أن تعاني من تلك المخاطر؟
إن الدلافين والحيتان، يغوصان في أعماق البحار والمحيطات، ويصعدان بسرعة كبيرة إلى سطح الماء دون أيِّ عائق أو صعوبة، بينما رئة الإنسان لا تحتمل الضغط في تلك الأعماق السحيقة أبدًا.. علمًا بأن القصبات الهوائية والحويصلات الهوائية في رئتي الدلافين موضوعة داخل غطاء خاص، لتتجنب معاناة الانحناءات.. وتطلق الدلافين كل الهواء الموجود في رئتيها قبل الغوص إلى الأعماق. لكن كيف تتنفس؟
سمٌّ للبعض طعامٌ للآخر
“ببغاء مكاو” الذي يتخذ من مناطق أمريكا الاستوائية موطنًا له، يبلغ عرض جناحه 80 سم، وهو حيوان قوي ومعمر؛ إذ يمتد عمره إلى ستين عامًا. العجيب أن ببغاء مكاو يتغذى على النباتات التي تنتج مادة “الإستركنين” (C21H22N2O2)، وهي مادة شديدة السمّية تنتجها بعض النباتات لِتُبعد الأعداء عن نفسها، فكيف لمادة تقتل بعض الكائنات أن تصبح مغذّية للأخرى؟ العجيب في الأمر، أن الببغاء بعدما يأكل هذه النباتات المغذية والسامة، ينطلق إلى مناطق المنحدرات الصخرية ويبتلع طينتها الصخرية، ولا شك أن ابتلاع الببغاء لهذا الطين يعدّ تصرّفًا مثيرًا للانتباه.
ولقد تبيّن سبب ذلك بعد دراسة معمقة حول أصل العضلات؛ فوجدوا أن نسبة توفُّر بروتين اليغلوبين لدى الببغاء أعلى بكثير مما لدى البشر، وأن هذه البروتينات تحتوي على كميات فائقة من الأكسيجين، وبالتالي فهذه الكميات توازي الكمية التي تستهلكها الدلافين والحيتان في الغوص إلى أعمق مكان يمكن الوصول إليه في المحيط.
وبعد أبحاث حول ظاهرة بلع الطين الصخري لدى ببغاء مكاو، تبين أن الطين الصخري يحتوي على مادة تدعى “كاولينيت” (Al2O3.2SiO2.2H2O)، وتتميز هذه المادة بأنها تمتص السمّيات من البذور، مما يُمكِّن المكاو من التغذي على البذور السامة دون أيّ ضرر. من المستحيل أن يكون ببغاء مكاو درس مكونات الطين الصخري، وعرف أن أكل الطين الصخري يقضي على تأثير السميات؟
كائن لا يتجمد
خنفساء القطب الشمالي تنجو بنفسها رغم الطقس الزمهريري للقطب الشمالي، الذي يعدّ طقسًا تصعب الحياة فيه، والفضل يرجع في ذلك إلى مادة كحولية يفرزها جسمها وتعمل مضادًّا للتجمد. أجل، إن جسم خنفساء القطب الشمالي يقوم بإفراز مادة كحولية تسمى “الجليسيرول” (C3H8O3) لمنع تجمد الدم والخلايا والأنسجة الرطبة في داخلها، ووقاية نفسها من تسرب البرودة المميتة إلى خلاياها.
والعجيب أنه كلما قصر اليوم واشتدت البرودة زادت مقاومة جسم الخنفساء للتجمد، فبانخفاض درجة حرارة الجو تنخفض نسبة الماء مباشرة داخل جسمها، وتبدأ تنتج مواد كحولية مثل الجلسيرول والسوربيتول وبكمات كبيرة. يقول الباحثون المتخصصون إن هذا الكائن العجيب يستطيع أن يعيش في درجة حرارة تصل إلى 87 درجة. أمرٌ لا يستوعبه العقل، فكيف لحشرة بسيطة أن تنتج مادة معقدة التركيب (C3H8O3) لتحمي نفسها من البرد القارس؟ ومن الذي علمها هذا؟
خبير الإشعاع
لقد قام العلماء بفحص عقربٍ نجا من اختبار قنبلة ذرية، لكن لم يجد العلماء جوابًا شافيًا حول كيفية نجاة هذا الحيوان، بعدما أُمطر بالمواد المشعة التي قتلت كل الكائنات الحية. لاحظ العلماء أن العقارب التي تعيش على ظهر البسيطة منذ ملايين السنين، تعدّ كائنات أحفورية، والفضل في ذلك يرجع لنظامها البنيوي الذي حماها عبر ملايين السنين من فاجعات هي أكبر من القنبلة الذرية بآلاف المرات، مثل الانفجارات الشمسية الضخمة التي تصدر معها إشعاعات غاية في الخطورة تستطيع القضاء على أشكال الحياة المختلفة، لكن العقارب نقلت مزايا بنيتها عبر آلاف الأجيال إلى أحفادها.
كائن لا يشعر بالبرد
إننا نتحدث عن “التاردجراد” دب الماء، وهو واحد من الكائنات الحية التي تقاوم أعتى الظروف المناخية. وهو بحجم رأس الدبوس. هذه الكائنات المجهرية تملك خراطيم في فمها، ولديها عقل وعينان، ونظام للهضم، ولكن لا يوجد لها قلب ولا رئة. وحتى الآن اكتشف العلماء 600 نوع فرعي من هذا الكائن العجيب. يتغذى “التاردجراد” على الطحالب والأشنات، ويستطيع العيش تحت أي ظرف من الظروف المناخية بما فيها المناخ الفضائي؛ فقد ظل ينعم بالحياة تحت تأثير درجة حرارة 120 سيليزيس، وتحت معدل ضغط قدره 1000 أتموسفير.
ففي الأجواء الجافة تقوم هذه الكائنات بتقليص حجمها من خلال تبخير الماء الموجود بأعضائها، وخلال هذه العملية تفقد كلَّ الأكسيجين الموجود بجسمها؛ لتقلها الرياح كيفما تشاء، وعندما تحط في مكان رطب فإنها تنتعش وتعود للحياة من جديد كأن شيئًا لم يحدث. ووفقًا للعالم “إنجمر جونسون” من جامعة كرستيانستادت بالسويد والمتخصص في دراسة الكائنات الحية، فإن بقاء هذه الكائنات حية حتى في ظل ظروف مناخ الفضاء الخارجي، يعدّ لغزًا محيرًا بحد ذاته.
إن الحيوانات تقوم بأعمال تحيِّر عقول البشرية.. وكأنها متبحرة في علم الكيمياء، وغيره من العلوم التي توسِّع آفاق الإنسان، وتساعد على اكتشاف أسرار الكون الشاسع وخفاياه التي لا تعدّ ولا تحصى، ومن ثم يدرك حقيقة الخلق والوجود الذي يحيط به.
(*) كاتب وباحث مصري.