استمر الحديث عن الإصلاح وبشكل ملح عبر مسيرة الأمة الإسلامية، سواء في مراحل القوة والازدهار أو في مراحل الضعف والانهيار والانحطاط، وارتبط أساسًا في القرون الأولى والوسطى بمعاني التجديد والاجتهاد والإحياء، ارتباطًا مباشرًا ووثيقًا بالمرجعية العليا للأمة.
تستعرض الكاتبة الألمانية “زيغريدرهونكه” في كتابها “شمس الله تسطع على الغرب” بطريقة ذكية وجميلة، أهم منجزات الحضارة الإسلامية، وفي الوقت نفسه لم تستعرض بعمق أهم عوامل النهوض وأخطر أسباب الجمود والتخلف إلا بعد أسئلة ملحة ومكررة من طرف كبار العلماء والمفكرين والمهتمين وعموم القراء والمتابعين.. عقدت لذلك محاضرة في أحد المؤتمرات العلمية، فذكرت ما يلي:
أهم العوامل الرئيسة التي نهضت بالأمة إلى ذروة الحياة الحضارية:
– دراسة لغة القرآن وتعلم القراءة والكتابة بالنسبة لجميع المسلمين.
– المهام التي يفرضها القيام بفرائض الدين مثل الفلك والرياضيات والنظافة والصحة.
– التعاليم والإرشادات الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تحفز على طلب العلم ودراسته.
– استيعاب المعرفة الموجودة.
– شرح النصوص اليونانية والهندية وتحقيق مدى صحتها والتعليق عليها.
– وجوب تحصيل العلوم غير الإسلامية واتخاذها سلاحًا للدفاع عن الإسلام.
– التشجيع على مواصلة البحث الذاتي وتدريب الملكات الفكرية.
– توسيع الآفاق عن طريق الهجرة والرحلات والمبادلات.
– الجو السائد في مجال حرية الرأي والتسامح بوجه خاص.
وأما أهم العوامل التي أدت بالأمة الإسلامية إلى الجمود والانحطاط فهي:
– الغزاة الأجانب الذين اندمجوا في الحياة الإسلامية.
– الحروب الصليبية وحروب المغول.
– التعصب وتقييد الحركة الفكرية.
– شيوع الفكر الخرافي الذي تسبب عنه الخضوع والاستسلام.
– عبادة الماضي والإيمان بالغيبيات (على حد تعبير الكاتبة).
– المد الاستعماري الذي ظهر فيما بعد، كالاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي.
بيد أن الأمة الإسلامية لم تستفق من غفلة عصور الانحطاط، إلا على كابوس وصدمة الاستعمار الغربي، الذي احتل مساحات واسعة من أراضيها، وأظهر تفوقًا كبيرًا في الجوانب العلمية والعسكرية والتنظيمية والإنجاز الحضاري عمومًا.. فكانت نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، فترة التساؤلات الحضارية الكبرى من طرف المفكرين والمثقفين، خصوصًا مع تزاحم أطروحات الإصلاح وتعدد المدارس الإصلاحية.

إن تجديد الخطاب الإسلامي ليس متوقفًا على تجديد ألفاظه ورسومه وحدوده بقدر ما هو متوقف على إحداث التغيير المطلوب على مستوى بنياته الفكرية والتربوية والعلمية.

وكان لصدمة الاستعمار الأثر البالغ في تحفيز وتحريك همم المصلحين والتفكير في آليات الانعتاق من ربقة الاستعمار، وذلك عبر اقتراح مشاريع ومقاربات للإصلاح الداخلي والتحرر الخارجي من هيمنة الغرب: “وتشهد على هذا، أعمال محمد عبده وأحمد خان -على سبيل المثال- فإنها في الوقت نفسه خاضت معضلة الإصلاح المثير للسجال مع الغرب، بينما نلاحظ أن الإصلاح ما بعد الكولونيالي في الحقبة المعاصرة لنا، تجلى -من الناحية المبدئية على الأقل- معينًا أساسًا وبشكل مباشر، بالإصلاح الداخلي وبمسألة إعادة البناء. من ناحية أخرى نجد -بسبب هذا الفارق القائم بين الوضعين- أنه بإمكان الحداثة الكلاسيكية أن تبدو جزئية وغير ممنهجة، بل وبطيئة الحركة؛ لأنها على الصعيد النظري كانت في المقام الأول “دفاعًا عن الإسلام”، بمعنى أنها اختارت أن ترد على تلك المسائل التي كان النقاد الغربيون قد طرحوها.
أما من الناحية العملية فقد بدا واضحًا أن إلحاحية الوصول إلى إصلاح سريع ومنهجي، كان من العسير الإحساس به بسبب عدم وجود مسؤوليات ملموسة ونهائية تتعلق بمسألة حل المعضلة المطروحة”.
إن الفشل الذي ألمَّ بمشاريع الإصلاح التي باشرتها الحكومات والأنظمة -بعد صدمة الاستعمار- دفعت الرُّواد الأوائل إلى طرح جملة من الأسئلة المركبة من أجل إدراك عوامل هذه الإخفاقات، والتي نجم عنها خيبات أمل متتالية، يقول راجي إسماعيل الفاروقي: “أما مساعي الإصلاح التي قامت بها حكومات الدول القومية في العالم الإسلامي -سواء كانت ملكية أم جمهورية، ديكتاتورية أم دستورية، في عصر ما يسمى “ما بعد الاستعمار التقليدي”- فقد كانت في معظمها بناء صروح على رمال، ذلك أن قبلة دعاة تلك المحاولات الإصلاحية -حتى المخلصين منهم- انصبت على المتطلبات المادية للأمة، وتغافلت عن احتياجاتها الروحية مع أنها هي الأهم. فكانت النتيجة أن تلك الحركات زادت المجتمع الإسلامي خبالاً”.

علينا أن نبحث عما نأمله لغدنا، في نقطة تتلاقى فيها البيئة الصالحة وعشق العلم وعزم العمل والبحث المنهجي.

نجد أمير البيان “شكيب أرسلان”، من المثقفين الأوائل الذين طرحوا مثل هذه الأسئلة المقلقة، والمنبثقة من همٍّ إصلاحي ورؤية نهضوية في مطلع القرن العشرين؛ لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وهذا السؤال قديم حديث، لأنه شغل عقل ونمط نظام التفكير الإصلاحي.
ولقد كان لسقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة وتفككها سنة 1924م الأثر البالغ في اجتراح أسئلة النهضة والإصلاح والبناء، والبحث عن أسباب السقوط ومداخل الإصلاح ومنهجيات التجديد، وآليات الاستئناف الفكري والتربوي والسياسي والاجتماعي لدى العديد من المفكرين والمصلحين، من أمثال الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي (ت 1960م)، والشيخ مصطفى صبري (ت 1954م)، والشيخ محمد زاهد الكوثري (ت 1952م)، والشيخ سعيد بيران (ت 1927م)، وغيرهم من علماء المشرق والمغرب، الذين اختلفت مقارباتهم وتنوعت وسائلهم لكن توحدت مقاصدهم ومراميهم.
لم تكد صدمة سقوط الدولة العثمانية تنقشع من عالم المسلمين وقتئذٍ، وما استتبعها من انهيارات فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية وعسكرية.
هذا الوضع المأساوي الذي أضحت تعيشه أمة المسلمين، دفع بالمفكرين والمصلحين إلى طرح أسئلة الإصلاح من جديد، بل والعمل على تطويرها؛ فنجد الشيخ أبا الحسن الندوي في منتصف القرن العشرين، ينطلق من قناعة مفادها أن المسلمين قدموا للبشرية حضارة راشدة تحترم كرامة الإنسان، وتحقق له السعادة في المعاش والمعاد، فكان سؤاله: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ وهذا السؤال يستبطن حالة نفسية ووجدانية، مفادها أن جيل الشيخ أبي الحسن الندوي، كان يعيش مفارقة صارخة بين نصوص الوحي وواقع المسلمين المرير، وهو السؤال نفسه، ولكن بصيغة أخرى الذي اجترحه بعمق فلسفيٍّ الرئيسُ “علي عزت ببيجوفيتش” سنة 1967م: ما سبب تخلف المسلمين؟
ولعلَّ من بين أهم التحديات التي واجهت مشاريع الإصلاح المعاصرة إلى نهاية القرن العشرين، ما كان يرتبط بالنموذج الإصلاحي ذي المرجعية الاشتراكية والخلفية الشيوعية بكل تمظهراته وروافده ومخرجاته، غير أن سقوطه بعد سبعين سنة من الحكم الشيوعي والاشتراكي، حيث انطلق بالثورة البلشفية بقيادة “لينين” في أكتوبر سنة 1917م، واستمر حتى تولي “غورباتشوف” السلطة في عام 1985م وطرحه نظريته المسماة بإعادة البناء (البروسترايكا)، إلى أن انتهت فترة حكمه في 24 أغسطس سنة 1991م، حيث أزال عن كاهل الحركات الإصلاحية في عالم المسلمين ثقلاً كبيرًا وتحديًا فلسفيًّا و سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا بل ووجوديًّا.
واستمر طرح هذا السؤال الإشكالي بأبعاده الحضارية ومضامينه المعرفية والمنهجية بصيغ أخرى؛ فالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي -وإن اعتبره سؤالاً سطحيًّا- فقد نبّه على خطورة الإجابة السطحية والارتجالية عندما تساءل: لماذا تحجرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية؟

وأعيد طرح السؤال من جديد -وبإلحاحية أشد- مع حدثين كبيرين، الأول أحداث 11 سبتمبر 2001م وما ارتبط بها من تداعيات على العالم عمومًا وعلى العالم الإسلامي خصوصًا، من حيث ضرورة إعادة النظر في الأسس المرجعية المؤطرة للخطاب الإصلاحي تحت طائلة المتابعة بتهمة الإرهاب الجاهزة.
أمَّا الحدث الثاني فهو ما اصطُلح عليه بـ”الربيع العربي” أو الحَراك الديمقراطي، والذي انطلقت شرارته الأولى من تونس سنة 2010م وانتشر في أغلب الدول العربية، غير أن مآلات هذا الحَراك دفعت بالمثقفين والمفكرين إلى اجتراح أسئلة النهضة والإصلاح من جديد، مستحضرين التجارب السابقة ومستشرفين مستقبل هذه الأمة. وهذا الأمر يؤكد من خلاله الدكتور محمد جكيب بأنه “من الخطأ تجزيء قضية الإصلاح والنهضة والانبعاث، والنظر إليها على أنها قضية جزر وأقطار منفصلة عن بعضها البعض ليس بينها ما تشترك فيه وما تلتقي عنده، بل النظر إليها من زاوية ضيقة كالزاوية القُطرية أو القومية”.

في هذا الخضم انبعثت رؤى ومقاربات أخرى للإصلاح والنهوض الحضاري، تتمثل أساسًا في الدعوة إلى تجديد المدركات الجماعية، وضرورة الانطلاق من القيم الذاتية في استصحاب خلاَّق لمنجزات التجارب الإنسانية. وفي توجيه حضاري عميق ونقد مقارن إصلاحي ذكي ودقيق يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن في كتابه “ونحن نبني حضارتنا”: “إن ما فعلناه في تاريخنا القريب هو الكدح في بناء حضارة فوق إنجازاتها السابقة وأنعُمها وثمراتها، أما اليابان وأمثالها من البلاد المتقدمة، فقد أقامت كل شيء على الفكر الحضاري والمفاهيم والسلوكات الحضارية”.
والأستاذ محمد فتح الله كولن لا يقف عند النقد النظري، بل يقدم نظرية في الإصلاح والانبعاث الحضاري تستجيب لتحديات المرحلة، يقول في الكتاب نفسه: “…إذن علينا أن نبحث عما نأمله لغدنا، في نقطة تتلاقى فيها البيئة الصالحة وعشق العلم وعزم العمل والبحث المنهجي، فإذا ما أثارت البيئة الصالحة العشق العلمي وألهبت العزائم على السعي والإنجاز، فستشعر القلوب الحساسة بذلك في أعماق كيانها بعملية امتصاص خارقة، ثم تقومه، ثم تضعه موضع التنفيذ في إطار منهجية معينة، وبعد ذلك تعمل “الدائرة الصالحة” للارتقاء بالإلهامات، وتداعيات وتركيبات وتحليلات جديدة تعقبها -باستمرار واطراد- الجهود الفكرية والنظم المنسجمة مع مقوماتنا الذاتية والمتوافقة مع رؤيتنا ومبادئنا الحضارية”.
وفي خاتمة دراسة عميقة ومطولة للدكتور رضوان السيد تحت عنوان “الإصلاح الإسلامي المفهوم والآفاق”، يطرح التساؤل الآتي: “هكذا تنتهي سلسلة من الأحاديث المتصلة عن الإصلاح الإسلامي، برسم مخطط له وحسب، بعد أكثر من قرن وربع القرن على البدء بالتفكير فيه: فهل هذا فشل أم أمل؟
في غضون ذلك ارتبطت بمفهوم “الإصلاح” مفاهيم أخرى جديدة من قبيل النهضة والانبعاث والبعث، والتغيير والصحوة، والقابلية للاستعمار، والتحرر، والتقدم والتنمية.. هذا التنوع راجع بالأساس إلى اختلاف المرجعيات المؤطرة للأطروحات الإصلاحية والنظريات التغييرية، هذه المفاهيم تحتاج دراسة وتحليل ونظر وتجديد، “لأن تجديد الخطاب الإسلامي ليس متوقفًا على تجديد ألفاظه ورسومه وحدوده بقدر ما هو متوقف على إحداث التغيير المطلوب على مستوى بنياته الفكرية والتربوية والعلمية، والتي بها يحصل تجديد الخطاب عمقًا لا سطحًا، ويتميز عن غيره من الخطابات الدعائية التي تثير من الضجيج أكثر مما تقدم من البناء”.

(*) كاتب وباحث مغربي.