رُوِيَ أن روحَ سيِّدِ الأنام أُطلِعَت على الْتِقاءِ الأثرياء والعلماء عند باب الجنّة فأخبرَنا بما دار بينهما؛ حيث قال العلماء للأثرياء: “تفضلوا، الأولويّة لكم، هذا حقُّكم أنتم، ادخلوا أنتم أوّلًا، لأنكم لو لم تنفقوا ثرواتكم في سبيل الله، ولم تؤسِّسوا مراكز العلم، ولم تُجهِّزوا الإمكانيات التعليميّة لما كنا نحن علماء، ولما وجدنا الطريق والاتجاه السليم، فقد تسبَّبْتم أنتم في سيرنا في طريق العلم وانفتاح أُفُقِنا، إننا مدينون لكم، ولذلك فالأولويّة لكم أنتم، فلتتفضَّلوا!”، وتراجعوا خطوة إلى الوراء احترامًا لهم، غير أن الأثرياء الأسخياء يردُّون عليهم قائلين: “الحقيقةُ أننا نحن المدينون لكم، لأنكم لو لم تُبصِّروننا بِفَضْلِ عِلْمِكم الواسع، ولم ترشدونا أحسنَ الإرشاد، ولم تعلِّمونا أن نقرأَ الأوامر التكوينيّة والتشريعيّة سويًّا، ولم تدلُّونا إلى جمال الكسبِ الحلال والإنفاقِ في سبيل الله تعالى لما استَطَعْنا أن نُنْفِقَ ثرواتنا في سبيل أعمالٍ خيِّرةٍ كهذه، لقد أرشدتمونا وحملتمونا من الإعطاء مرة إلى الكسبِ آلاف المرات، ولهذا فإنكم روّادُنا هنا في الآخرة كما كنتُم في الدنيا، فلتتفضَّلوا بالدخولِ أنتم أوّلًا!”، وبعد هذا الحوار العذب يتقدَّمُ العلماءُ، ويدخلون الجنةَ مع الأغنياء الأسخياء إثر بعضهم البعض.
يجب ألّا نفهم هذا الحوار الذي دار بين العلماء والأثرياء الأسخياء على أنه مجرَّدُ نقلٍ لحادثةٍ ستقعُ لاحقًا، بالعكس؛ يجب هنا أيضًا الحديث عن مدى اتِّساعِ أفق الإيثار وإطاره، تخيلوا أن هناك جسرًا (أي الصراط) صعبَ المجاز وميزانًا وحساباتٍ ثقيلة خَلَّفَها هؤلاء الناسُ حتى وصلوا باب الجنّة، بينما أمامهم من أوجهِ جمال الجنّةِ ما يُذهِل العقول ويُبهر الألباب؛ مما لا عينٌ رأَتْ ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ قطّ، تخيّلوا كم ينبَهِرُ الإنسان ويُصبح وكأنه سيُغمى عليه حين يرى تلك المحاسن والجماليات، تخيَّلُوا كيف تتجلّى روح الإيثار حتى أمام منظرٍ كهذا! وهكذا يُبَيِّنُ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهذا المشهدِ الذي رَسَمَهُ لنا كم أنّ سبيلَ روحِ الإيثارِ يمتدُّ إلى هذا الحدِّ.
إن عودة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وطن المحنة هذا بعد أن رأى في رحلة المعراج ما لم يُرَ، وبلوغه ما لم يُبلَغْ، واجتيازَه ما لم يُجتَزْ في غايةِ الأهمّيّة من حيث فهم المرتبة الأعلى في أفق الإيثار
وقد قال فذُّ زماننا وأحدُ ورثةِ الأنبياءِ الأستاذ بديع الزمان رحمه الله: “لم أَذُقْ طوالَ عمري البالغِ نيِّفًا وثمانين سنة شيئًا من لذائذ الدنيا، قضيتُ حياتي ما بين ميادين الحرب وزنزانات الأسر وسجون الوطنِ ومحاكمِ البلاد، ولم يبقَ صنفٌ من الآلامِ والمصاعِبِ لم أتجرَّعْهُ… لقد ضحَّيتُ حتى بآخِرَتي في سبيل تحقيقِ سلامةِ إيمانِ المجتمع، فليس في قلبي رغبة في الجنة ولا رهبةٌ من جهنم… وإن رأيت إيمان أمتنا في خير وسلام فإنني أرضى أن أُحرق في لهيبِ جهنّم؛ إذ بينما يحترقُ جسدي يرفلُ قلبي في سعادةٍ وسرورٍ”[8]، ومن يسمع كلماتِهِ هذه يُخيَّلُ إليه أنَّ هذا النَّفَسَ وهذا الصوت آتٍ من قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ ومنبعثٌ من عصرِ صدرِ الإسلامِ، وأظنُّ أن مجتمعَنا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى روحٍ من الإيثار الواسعِ الشموليّ أكثر من حاجتِهِ إلى الماءِ والهواءِ.
إن عودة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وطن المحنة هذا بعد أن رأى في رحلة المعراج ما لم يُرَ، وبلوغه ما لم يُبلَغْ، واجتيازَه ما لم يُجتَزْ في غايةِ الأهمّيّة من حيث فهم المرتبة الأعلى في أفق الإيثار؛ فقد التقى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم في رحلته هذه بكلٍّ من سيدنا المسيح، وسيدنا موسى، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا آدم عليهم السلام أجمعين، ولقي من هؤلاء الأنبياء الكرام التشريفَ والتكريمَ والتبجيلَ، ثم دخل الجنَّة فرأى جمالها وحسنها الأخّاذ[9]، بعد ذلك شاهد جمال الحقِّ تعالى، ومن يدري كيف تشعرُ روح الإنسان وتُحِسُّ بمشاهدة الله! وقد ورد في كتاب “بدء الأمالي”:
يراه المؤمنون بغير كيف وإدراك وضرب من مثالِ
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال[10]
أي إن جميعَ قصورِ الجنّة ونُزُلِها، وجميعَ الحورِ اللواتي تغرقُ الدنيا في نور إحداهن إن انعكس عليها، والفواكه والأطعمة وغيرها تتوارى عن العين وتنحجبُ عند رؤيته تعالى، وهكذا فإن سيدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الذي حظيَ بكلِّ هذا وبلغَ مرتبةً بين الوجوبِ والإمكان عادَ إلى البشريّة مجدّدًا دون أن تزيغَ عيناه وما عودَتُه تلك إلا من أجلِ أن يُبلِّغ أمَّتَهُ بما رآهُ وأحسَّهُ وشعرَ به من النِّعَمِ.
“اللهم إنه لا قيمة لحياتي ولا قَدْرَ لها إلا إذا كانت ستُسهِمُ في حياةِ وإحياءِ الآخرين، وإلا فإنني أشعرُ بالاشمئزازِ من هذه الحياةِ التافهةِ التي لا تُفيدُ الآخرين شيئًا، ولا تبعث فيهم الشعور بالانبعاث، وأعوذُ بكَ من مثلِ تلك الحياة، اللهم فخلِّصْنِي من هذا البلاء”
وعندما ذكرَ أحدُ الأولياءِ -ويُدعى “عبدَ القدوس”- عودةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل هذه الرحلة قال: “والله وبالله وتالله لو أنني كنتُ وصلْتُ إلى هذه المقامات والمراتبِ لما عدتُ إلى الدنيا مجدّدًا”، وقد علَّقَ أحدُهم على كلامِهِ هذا قائلًا: “هذا هو أكبر فرقٍ بين مقام النبوّة والولاية”. أجل، إن الأنبياء وُجدوا لأجل حياة الآخرين تمامًا، أما الأولياء فقد يرغبون في الرفعة المعنويّة والوصول إلى المتعِ المعنويّة الروحيّة.
أضف إلى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ مثل هذا الأفق وهو لا يزال حيًّا في الدنيا حين يسمع في الآخرة أيضًا صرخات من سيدخلون جهنم من أمَّته -ربما أنه- سيدنو من حافتها، ويمدُّ إليهم يده، ويطلب إخراجهم منها مثلما عاد إليهم في الدنيا كي يرشدهم ويهديهم إلى الطريق المستقيم، كل هذه مظاهر مختلفة الأبعاد لتجلِّيات مختلفة من الإيثار ذي الأفق النبوي.
المصدر: الجرّة المشروخة، روح الإيثار