العقل البشري… لغـــز يبحث عن حل

العقل نعمة من أعظم النعم التي اختص الله عز وجل بها الإنسان، وميزه بها عن سائر المخلوقات، فقد جعله بالعقل يدرك حقائق الوجود ، ويميز بين الحق والباطل والحلال والحرام ، وبه يهتدي إلى تحقيق المصالح واتقاء المضار، وبه يتواصل مع بني جنسه، ولولا العقل لظل الإنسان مثل بقية السوائم التي مازالت تهيم على وجهها في القفار، فيما استطاع الإنسان أن يحقق إنجازات عظيمة فاقت حدود الخيال، وما ذلك إلا بفضل هذه الهبة الإلهية العظيمة… العقل الذي أعانه على التفكير والتدبير والتسخير .

ولهذا نجد القرآن الكريم يحض مراراً وتكراراً على إعمال العقل، ويعيب على الذين يعطلون عقولهم من التفكر في آيات الله ، والاستجابة لداعي الإيمان ، حتى إنه ليشبههم بالدواب التي لم ترزق نعمة العقل أصلاً : (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) الأنفال – الآية 22.

ويكفي الإشارة إلى أهمية “العقل” في كتاب الله أنها تكررت ومشتقاتها حوالي سبعين مرة، ناهيك عن الآيات التي تتصل بالعمليات العقلية كالتفكر والتأمل والنظر بتمعن في آيات الله في الأنفس والآفاق، والتي لا يمكن حصرها من كثرتها في كتاب الله.

ولقد عرف التاريخ البشري رجالاً ونساءً قد وهبهم الخالق عز وجل ملكات عقلية هائلة، إلا أنهم اختلفوا في طريقة توظيف هذه الملكات، فمنهم من سخر عقله في الخير، فقدم للبشرية إنجازات باهرة وخدمات علمية وفكرية جليلة رفعت من شأنها، ومنهم من وظف عقله أسوأ توظيف، فجلب على البشرية صنوفاً لا تعد ولا تحصى من الكوارث والمآسي والنكبات.                           

مفهوم العقل

يدلّ مصطلح العقل على مجموعة وجُملة الوظائف الدماغية التي يقوم بها الإنسان، وتتمثل هذه الوظائف في قدرة الإنسان على التفكير والإدراك، والإبداع، والابتكار، والتمحيص، والتذكّر أو استحضار المعلومات واسترجاعها، والفهم، والقيام بالعمليات العقليّة المختلفة بما فيها العمليّات الحسابيّة، وكذلك القدرة على التحليل والتفكيك والتركيب والتنبؤ بحدوث الأشياء وتوقعها بناءً على فهم الواقع، وكذلك الربط بين الأشياء والمفاهيم والتمييز فيما بينها، ممّا سبق نجد أنّ العقل يتمثّل في مجموعة من العمليات أي أنه معنويّ يضمّ الأفكار والمعلومات والحقائق النظريّة والعمليّة التي اكتسبها الفرد وتعلمها بشكل مقصود أو غير مقصود خلال مراحل حياته المختلفة، ونجد أنّه لا يعبّر عن شيء مادي ولا يمكن ملامسته وعلاجه.

والعقل في الجسم هو الجهاز الذي يوجه ويأمر ويختار ويرفض ويحب ويكره ويُسعد الروح أو يُتعسها، وتخزّن به تجارب الحياة العلمية والعملية فهو غرفة عمليات دائمة العمل. ويتكون العقل من جانب مادي وهو المخ، الذي يتكون من ملايين الخلايا، ومن جانب غير مادي يمثل الوعي وهو على مستويَين مستوى الوعي العقلاني ( المدرك ) ومستوى العقل اللاواعي غير المدرك ( مستودع المعلومات ).

الفرق بين العقل والمخ والدماغ

يشيع اعتقاد خاطئ بين الناس أنّ العقل يحمل نفس المفهوم للمخ، حيث يخلط العديد منهم بين المفهومين ويعتبروا أنهم وجهان لعملة واحدة. كذلك ساد الاعتقاد دومًا بأنّه لا فرق بين العقل والدماغ، وأنّهما سيان، لكن لم يخطر ببال العامة التعمق في المعرفة، ليعلموا أنّ هناك فرقًا عظيمًا بين الدماغ والعقل، وأن مفهوم كل منهما يختلف عن الآخر اختلافًا كليًّا… ولتصحيح هذا الاعتقاد لا بدّ من التعرف على أبرز الفروق بين كل من العقل والمخ والدماغ.

العقل: ليس جزء من الدماغ وإنما هو مصطلح يُستخدم غالباً للتعبير ووصف جميع وظائف الدماغ البشري العليا، وعلى وجه الخصوص تلك الوظائف التي يكون فيها الإنسان واعياً، كالجدل والتفكير والذكاء والذاكرة والتحليل، وجميع الانفعالات العاطفيّة التي يتعرّض لها، والتي تعد وفق آراء البعض بأنها منسوبة للعقل… إذن العقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان وليس الدماغ.

المخ: هو أحد أجزاء الدماغ حيث يهتم المخ بشكل عام بالوظائف الإدراكية والحسية والعقلية ووظائف اللغة.

إذنّ الفرق بين العقل والمخ يتمثل في أنّ الأول يشكل جانب معنوي غير ملموس مرتبط بالعمليات العقلية المختلفة، بينما يشكل الآخر عضواً او جزءاً مادياً وملموس يقع تحديداً في الجمجمة البشرية.

الدماغ: هو الجزء الكامل الموجود في الجمجمة والذي نعرفه جميعا وهو من أهم أجزاء الجهاز العصبي في جسم الإنسان ، حيث يتألف دماغ الإنسان من عدة أقسام: المخ والمخيخ والبصلة السيسائية، وهو يجمع المعلومات ويحللها ويسيطر ويدير علي معظم أعضاء الجسم و كذلك هو منبع إنتاج معلومات جديدة.

موقع العقل في جسم الإنسان

اكتشف العلماء المناطق المسئولة عن السمع والبصر والكلام في دماغ الإنسان، ولكنهم لم يكتشفوا مركز الحب والإيمان والضمير… أيضا عرف العلماء كيف يعمل المخ ولكنهم لم يتوصلوا إلي مكان وجود العقل؟.

وقبل أن نناقش هذه النقطة لا بد أن نذكر أولا أنّ كل من زعم بأن العقل هو المخ فقد أبطل، لأن كل الحيوانات لديها مخ ولا عقل لها، وكذلك من استدل على وجود العقل بالقلب فقد أخطأ أيضا لأن كل الحيوانات تمتلك قلبا ولا عقل لها، إذْا ليس وجود المخ أو وجود القلب دليل على وجود العقل، لكن هل يلزم من عدمهما أو عدم أحدهما ذهاب العقل ؟

 يعتقد الكثير من الناس أن العقل موجود بالدماغ وأن القلب مجرد عضو كسائر الأعضاء له وظيفة ضخ الدم إلى الجسد، أو أنه مركز للحب والكره ونحوه من المشاعر فقط، لكنّ نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وحتى بعض نصوص التوراة والإنجيل تدل على أن للقلب وظيفة أخرى وهي وظيفة التدبر والفهم والتفكير.

والسؤال المطروح هنا هو: أين توجد هذه الأداة المحركة للجوارح والتي يتم بها الإدراك والفهم والتمييز؟ هل هي في الدماغ أو في القلب؟ أم فيهما معا؟ أقول: إذا كان القلب في نظر الأطباء هو العضَلة التي تُنظِّم توزيع الدمِ حسب حاجاتِ البدَن، فإنه في نظَر الإسلام هو مصدر التوجيه والقيادة في الإنسان الذي يُضلُّه ويهديه.

لقد اختلف العلماء في تحديد مكان وجود العقل في جسم الإنسان وانقسموا في تحديد مكانه إلى طرفين، يرجح الطرف الأول وجود العقل في الدماغ، أمّا الطرف الثاني فيرجح وجود العقل في القلب ولكل فريق أدلته وبراهينه علي ذلك.

دليل وجود العقل في الدماغ

أيّد الأطباء والفلاسفة فرضية وجود العقل في دماغ الإنسان، وقدّم البعض دعمهم وتفسيرهم لذلك بأنّ العمليات الإرادية التي يقوم بها الإنسان عن وعي وبعد تفكير وتحليل لا تختلف كثيراً عن العمليات العصبية التي تحدث في جسمه كالتنفس وتحليل الأطعمة والروائح، أمّا البعض الآخر من الأطباء فلجئوا إلى أن الجهاز العصبي في جسم الإنسان لا يحتوي فقط على الدماغ، بل يمتد في جميع أجزاء الجسم من خلال الحبل الشوكي والأعصاب التي تنتشر في جميع خلايا الجسم وأنسجته، فعمل الجهاز العصبي في نقل الأوامر من وإلى الدماغ عبر السيلان العصبي في خلاياه وطريقة تفاعله مع باقي أعضاء الجسم وأجهزته تؤثر بشكل كبير في تفعيل العمليات العقلية وتخزينها في الدماغ.

وبالرغم من أن العلماء لا يعرفون مكان العقل إلاّ أنهم يفترضون وجوده في جمجمة الإنسان. فوجود “العقل” في الجمجمة أصبح من قبيل المسلمات في الوسط الطبي والفلسفي، لكن الواقع يقول أن وجود العقل في الجمجمة ادعاء لا يسانده أي دليل علمي أو تشريحي… الدليل الوحيد المتوفر هو صعوبة تقبل وجوده في مكان آخر كالمعدة أو الطحال مثلاً!.

دليل وجود العقل في القلب

رجحت الأبحاث العلمية الحديثة وجود العقل في قلب الإنسان، حيث رجح العلماء الفسيولوجيين ذلك بأنه عندما يتعرض الإنسان لموقف مفاجئ كالخوف الشديد فإن القلب هو أوّل ما يتأثر بذلك في جسم الإنسان عن طريق زيادة سرعة نبضاته و عددها، ثمّ يرسل الأوامر للدماغ بأن يقوم بأفعال لا إرادية كالقفز أو الهرب، أمّا البعض الآخر فرجّحوا أن القلب يحتوي على طاقة خاصة تساعده على استقبال المعلومات وتحليلها ومعالجتها. وقد وصف البعض هذه الطاقة بدماغ صغير شديد التعقيد يوجد في القلب، ولجأ علماء المسلمين إلى النصوص القرآنية لتحديد مكان وجود العقل ومنها قوله تعالى: “َ أ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”. سورة محمد:24. حيث نسب التدبر والتفكير في هذه الآية إلى القلب، فهذه الآية تصرح بأن التدبر وإدراك المعاني يكُون بالقلب، ولو جعل على القلب قفل لم يحصل الإدراك ؛ فتبين أن الدماغ ليس هو محل الإدراك كما ترى..وقوله تعالى:”وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَاسورة   الأعراف: من الآية179.عابهم الله بأنهم لا يفقهون بقلوبهم ؛ والفقه هو: الفهم، والفهم لا يكون إلا بالعقل, فدل ذلك على: أن القلب محل العقل. ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقال: لهم أدمغة لا يفقهون بها .

 اكتشف العلماء أن القلب يحوي أكثر من أربعين ألف خلية عصبية لها دور مهم في التفكير والإدراك والسلوك وتوجيه الدماغ، وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله تعالي: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)سورة الحج:46. ولم يقل: فتكون لهم أدمغة يعقلون بها، ولم يقل : ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس ، فقد صرح الحق سبحانه في آية الحج هذه بأن: القلوب هي التي يعقل بها، وما ذلك إلا لأنها محل العقل. ثم أكد ذلك تأكيدا لا يترك شبهة ولا لبسا؛ فقال تعالى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

أقسام العقل البشري

ينقسم العقل البشري إلى قسمين رئيسين هما:

العقل الواعي(الظاهر) Conscious Mind: هو العقل الذي يتحكم بكافة تصرفاتنا وأفعالنا ونظراتنا تجاه الأمور وفهمنا لها، ويعمل في حالة اليقظة ويعتبر مسئولا عن عشرة بالمائة من وظائف الجسم المختلفة، ويتمثل في العمليات العقلية المنطقية التي تجعل الفرد يفكر ويتصرف بشكل طبيعي وتبعاً للواقع وبعيداً عن التخيلات.

والعقل المدرك( الواعي) هو من يقوم بعملية التفكير فيحب أو يكره ويستنتج ويحلل ويختار ويرفض فإذا ركزتَ بتفكيرك على النجاح ستنجح، وإذا ركزت تفكيرك على عمل الخير ستتجه إلى عمل الخير، وإذا أكثرت من ذكر تجارب مبدعة ستبدع وهكذا… لماذا ؟ وكيف …؟. جميع إشارات تفكيرك وإعجابك وذكرك ومشاهداتك وتجربتك ودراستك وفرحك وحزنك، تُرسَل إلى عقلك الباطن وتخزن فى خلايا المخ وتصبح جميع هذه الأمور هي ذاكرتك وقاعدة بياناتك، وفي العقل الباطن الطاقة والقدرة على ربطها بكل معرفة اكتسبتها في حياتك .

العقل اللاواعي(الباطن) Unconscious Mind: يمثل العقل الباطن مستودع ومركز الإبداع والخير والعواطف ونقيضها أيضاً، لأنها تأتي من عقلك المدرِك وتخزن في خلايا المخ حتى تصبح جزءاً منك ومنها تنطلق الأوامر للتنفيذ. ويعدّ العقل الباطن هو المسئول عن تنظيم الحركات داخل الجسم، فقد تعمل عمل بيديك وتكون شارد الذهن بموضوع ليس له علاقة بما تعمله ورغم ذلك تنجزه، فقد تقود سيارتك حسب الأصول وبدون ارتكاب أي خطأ وفي الوقت نفسه يكون تفكيرك في شيء آخر ورغم انشغال تفكيرك بشيء غير القيادة تصل إلى المكان الذي تريد فتكون العملية أشبه ببرمجة إلكترونية.

ويختلف العقل الباطن غير الواعي عن العقل الواعي في كونه يعمل في حالة يقظة الشخص أو نومه، ويتحكم بما لا يقلّ عن 90% من وظائف الجسم المختلفة. كذلك يختلف في الخصائص والتصرفات، حيث أنّ العقل الباطن تركيزه غير محدود، فيستطيع تخزين وملاحظة الملايين من المعلومات في الثانية الواحدة، كما يربط المعلومات ليشكل سلسلة أفكار مترابطة، ويؤثر على تصرفات الإنسان، فمن خلال تهذيب عقلك الباطن يمكنك الحصول على نتائج ممتازة، والعكس صحيح في حال إساءة استخدامه.

كلمة أخيرة

لقد سبر العلماء غور العالم فاكتشفوا القارات ورسموا الخرائط وحددوا خطوط الطول والعرض ولم يتركوا عمق بحر إلا وكشفوه ولا جزيرة إلا وصلوا إليها ، ولا قمة جبل إلا وصعدوا عليها ، وبهذا اكتشفوا العالم الذي نعيش فيه وبدأوا يتطلعون إلى عوالم أخرى ، ومع ذلك فهناك قارة استعصت على روادها وأغلقت أسرارها ، هذه القارة هي رؤوسنا التي نسير بها كل يوم ونفكر بها كل لحظة !.

أين العقل من الدماغ؟ هل هو المخ؟ هل هو جزء منه؟ هل هو خارج نطاق الدماغ كلية؟ … أسئلة كثيرة محيرة لا نهاية لها تجعل الإنسان يقول إن العقل يعجز عن إدراك كيف يدرك وعن فهم كيف يفهم؟! ….

إن خارطة الدماغ لم يكشف منها حتى الآن إلا أشياء قليلة ، وحتى هذه المناطق المعدودة لم تعرف خارطتها بالتفصيل … فتبارك الذي جمع الأضداد وحل المتناقضات وأبدع في الخلق وجعل من البساطة تعقيدا ومن التعقيد بساطة كما جعل من العصا حية ومن الموت الحياة .