بالرغم من التطور الكبير الذي شهده مجال البرمجيات والألعاب الإلكترونية طيلة السنوات الأخيرة الماضية، بحيث أصبحت الرسومات داخل الألعاب الرقمية أكثر واقعية، وصارت جاذبة أكثر للأطفال والمراهقين من خلال المحاكاة الحقيقية التي تحدث داخل تلك الألعاب، إلا أن بعضها خطير جدًّا لدرجة أكثر مما نتصور، كما أن بعضها قد يدفع المراهقين إلى الانتحار، مثلما حدث مؤخرًّا في أماكن متفرقة من العالم، وللأسف كان من بينها بعض الدول العربية. وبدلاً من أن تكون الألعاب الرقمية كغيرها من الألعاب وسيلة للترفيه والمتعة، تصبح أداة للهلاك والإيذاء.
الألعاب والحالة النفسية
قبل عدة أعوام في الولايات المتحدة الأمريكية، أصاب طفل صغير في التاسعة من عمره طفلة أخرى في الثالثة إصابة حرجة بمسدس، وذكرت الشرطة لاحقًا أنه حين سُئِلَ صغير التاسعة كيف تعلّم استخدام المسدس، قال إنه تعلم ذلك من ألعاب الفيديو التي يلعبها مثل بلاك أوبس.. هذه الجريمة الطفولية كانت جرس إنذار اهتمت به الصحف الأمريكية، وأحدثت ضجة كبيرة في المجتمع الأمريكي، كمؤشر خطير للعنف الذي يكتسبه الأطفال والمراهقين من خلال الألعاب الرقمية.
وخلال السنوات الأخيرة، انتشرت على الشبكة العنكبوتية ألعاب إلكترونية مجانية كثيرة، وبدلاً من أن تبقى في إطارها الطبيعي كوسائل للترفيه والتسلية والمتعة وتمضية الوقت، أصبحت أدوات قاتلة؛ مثل لعبة “الحوت الأزرق” وغيرها من الألعاب الرقمية التي على شاكلتها، والتي ظهرت مؤخرًا واجتاحت صفوف المراهقين حول العالم بسرعة مذهلة، وباتت تنطوي على تهديد مباشر لحياتهم.
لا شك أن لهذه الألعاب تأثيرًا سيئًا على تكوين نفسية الأطفال والمراهقين؛ إذ أن أدمغتهم تشبه “الأسفنج”، فكل ما يراه الطفل يمتصه، وكل ما يسمع به المراهق يسعى لتقليده.. صحيح أن الطفل أو المراهق إذا شاهد مجرمًا فإنه لن يتحول بالضرورة إلى مجرم، لكنه سيتشبع بالأفكار السلبية حتى لو أنه لم يقم بالعمل الإجرامي مباشرة، غير أنه سيتقبل فكرة هذا العمل وسيجد المبررات للأشخاص الآخرين الذين قاموا بالأعمال الإجرامية.
معظم هذه الألعاب يتم نشرها عبْر مواقع التواصل الاجتماعي من خلال حسابات وهمية ومجموعات سرية، حيث لا يتم بيعها أو تحميلها بشكل رسمي من متاجر التطبيقات المعروفة، وإنما يتم نشرها وإرسالها بشكل فردي، مما يمنح شعور لدى اللاعب بأنه متميز، وبأنه قد حظي بشيء لم يحصل عليه غيره من المراهقين. بعض الشركات تكتب تحذيرًا في مفتتح ألعابها العنيفة، محذرة بأن هذه اللعبة ممنوعة عن الأطفال، غير أنه للأسف في ظل عالم إلكتروني كالذي نعيش فيه، فإنه متاح للجميع الحصول عليها، فالقيود المفروضة على السن هي أشبه بعبارة “للكبار فقط”، التي تضعها بعض الشركات السينمائية على أفلامها، فإذا بها تجذب المزيد من المشاهدين للفيلم، من باب أن كل ممنوع مرغوب، خاصة في ظل سهولة الحصول على المحتوى. والأسوأ هنا أنه إذا كان لهذه الألعاب تأثير سلبي على الراشدين، فيمكن أن نتخيل كيف يؤثر على الأطفال وهم في طور التكوين.
وقد خلصت دراسة أمريكية تم نشرها في مجلة الطب السلوكي الحيوي (وهي المجلة الرسمية للرابطة الأمريكية للطب النفسي) إلى أن المراهقين الذين يمارسون الألعاب الرقمية العنيفة لمدة تفوق ثلاث ساعات يوميًّا، لديهم ردود أفعال جسدية ونفسية متبلدة عند اللعب بمثل هذه الألعاب، كما أن ممارسة الألعاب العنيفة تحرض على السلوك العدواني والغضب، بالإضافة لمشاكل بالنوم، واضطراب عدد ضربات القلب.
ألعاب قاتلة
• الحوت الأزرق:
في لعبة “الحوت الأزرق” يتم تكليف المشارك بعدد من المهام الغريبة التي تصل إلى خمسين مهمة، مثل مشاهدة أفلام الرعب، والاستيقاظ في ساعات الفجر لمشاهدة مقطع فيديو مصحوب بموسيقى غريبة تضع المشارك في حالة نفسية كئيبة، وكذلك من بين المهام، العمل على إيذاء النفس والوقوف على الأسطح العالية، ورسم صورة الحوت على أجسادهم بآلة حادة.. وعقب استنفاد قواهم في نهاية اللعبة، يُطلب منهم الانتحار. اللعبة تستهدف المراهقين بين 12 و16 عامًا.
والمزعج أنه في حال قرر المراهق الانسحاب من اللعبة، أو عدم تنفيذ أمر الانتحار، يتم تهديده بإيذاء أسرته، ويبتزونه بالمعلومات التي أعطاهم إياها لمحاولة اكتساب الثقة، ما يجعله يستسلم لطلب اللعبة ويقتل نفسه بسبب التهديدات. ويرجع أصل هذه اللعبة إلى شاب روسي يُدعى “فيليب بوديكين”، الذي أُلقيَ القبض عليه لتحريضه نحو 16 طالبة على الانتحار بعد مشاركتهن في هذه اللعبة المؤذية التي أطلقها، فيما انتحر أكثر من 150 شخص حول العالم بسببها، وقد اعترف “بوديكين” بالجرائم، ويقبع حاليًا في السجن. المجموعات الخاصة بهذه اللعبة في صفحات التواصل الاجتماعي قد تم حظرها.
• لعبة مريم:
من الألعاب القاتلة أيضًا، نجد لعبة “مريم” التي تسببت في انتحار بعض المراهقين والأطفال بسبب تنفيذ طلبات بطلة هذه اللعبة. وتصدرت اللعبة محركات البحث، إذ كان عام 2017م حافلاً بالتحذيرات من هذه اللعبة وما تتضمنه من أسئلة، مؤكدين أنها تسعى لجمع أكبر قدر من المعلومات الشخصية عن المستخدمين، وتقوم بربطها مع حسابات التواصل لتحليل هذه البيانات بعد ربطها ببعضها، ومن ثمَّ يحدث الابتزاز الذي قد يصل بالشخص في النهاية إلى انتحاره.
• البوكيمون:
ومن الألعاب التي كان لها أثر سيئ أيضًا، لعبة “البوكيمون”، والتي حرص مستخدموها على التواجد بالشوارع والميادين للبحث عن”البوكيمون”، مما عرضهم للمخاطر.
وبعض التقارير أفادت بأن مِثل هذه الألعاب قد يتم استخدامها في الأعمال الجاسوسية بتصوير الأماكن المهمة استراتيجيًّا، أو التسبب في الحوادث المرورية، حيث يظهر البوكيمون في أي مكان، وقد يكون بمنتصف طريق سريع.
• جنيَّة النار:
وكذلك لعبة “جنيّة النار”، التي تشجع الأطفال على اللعب بالنار، حيث توهمهم بتحولهم إلى مخلوقات نارية باستخدام غاز مواقد الطبخ، وتدعوهم إلى التواجد منفردين في الغرفة حتى لا يزول مفعول كلمات سحرية يرددونها، ومن ثم حرق أنفسهم بالغاز ليتحولوا إلى “جنية نار”.. وقد تسببت هذه اللعبة الخطيرة في موت العديد من الأطفال حرقًا، أو اختناقًا بالغاز..
• الشيطان الحزين:
إنها لعبة تشبه “جنيّة النار”، وتم اكتشافها بالصدفة؛ ففي 25 يوليو 2015م، أعلن أحد الأشخاص -ويمتلك قناة على موقع “يوتيوب”- بأن رسالة بريد إلكتروني وصلته تحتوي على لعبة من الإنترنت الخفي تسمى “الشيطان الحزين”، وفيها يقوم أصحاب هذه اللعبة بإرسال دعوات خاصة إلى عدد محدود من الأشخاص، حيث يستغلون الأطفال في اللعبة لتحطيم روح الطفولة وبث العنف والخوف في نفوسهم، بإصدار أصوات معينة ونشر صور مرعبة، وغير ذلك من الأمور المخيفة.
• تحدي تشارلي:
في عام 2015م أيضًا انتشرت لعبة “تحدي تشارلي”، والتي ساهم في انتشارها العديد من أطفال المدارس وصغار السن، وتحتوي على تحدي “تشارلي” -وهي شخصية أسطورية ميتة- وتبدأ اللعبة برسم شبكة من المربعات على الأوراق ويتم استخدام أقلام الرصاص، ومن ثم يتحرك القلم دون أن يعي المستخدم بذلك ويشعر أن هناك قوى خارقة موجودة معه، ومع تحرك القلم يشعر المستخدم بالخوف والرعب، هذه اللعبة تسببت في حدوث عدة حالات انتحار بين الأطفال والكثير من الإغماءات بينهم.. وقد تم انتقاد اللعبة من كل الأديان، حيث تقوم على قراءة بعض التعويذات الشيطانية، كما أنها يشوبها التضليل والكذب والافتراء، وأيضًا ترويع وترهيب الأطفال.
بعض هذه الألعاب تعتمد على غسل دماغ المراهقين، وإدخالهم في حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي، وشحنهم بالأفكار السلبية، مثل الضياع، والكراهية، وبث الإحساس بعدم جدواهم.. مما يدخلهم في حالة من الاكتئاب الذي قد يؤدي إلى دفعهم للانتحار في النهاية.
القائمون على مثل هذه الألعاب، يمارسون نوعًا من أنواع التنمر الإلكتروني، وهو أخطرها على الأطفال اللاعبين، وأغلبهم في سن المراهقة، كما أن هذه الألعاب، تزيد الشحنات الكهربائية في الدماغ وتصيب الأعصاب بالتوتر وتُضعف التركيز.. وسبب هذا أن الشاشة تتغير كل ١٠ ثواني تقريبًا، مما يؤدي لحالات صرع وانفعال، ويزداد السلوك العدواني لدى الطفل، وربما يؤدي ذلك إلى إيذاء نفسه أو غيره.
ما يمكن التأكيد عليه الآن هو أن الآباء والأمهات تقع عليهم مسؤولية عظيمة حيال الأمر، فهم مطالبون بالتقيد بضوابط عدة عند اقتنائهم الألعاب الإلكترونية لأبنائهم.. فلكل مرحلة عمرية ما يناسبها من هذه الألعاب، كونها قد تسهم في اكتشاف مهارات معينة لديهم وتنميتها. فمن الواجب على الأهل، النظر في التصنيف العمري لأي لعبة إلكترونية يستخدمها الأبناء، والتأكد من سلامة التصنيف لعمر الطفل، مع تحديد أوقات معينة مسموح فيها للطفل باللعب خلال اليوم، ويراجعوا أجهزة الأطفال بشكل دائم ليراقبوا التطبيقات التي يقومون بتحميلها واستخدامها، وتشجيع الطفل على ممارسة أنشطة حركية أخرى بحسب هواياتهم واهتماماتهم وشغفهم، ومشاركة الطفل في اللعب، ومناقشته حول محتوى اللعبة، وعليهم أن يحيطوا أولادهم بالرعاية والاهتمام ومنحهم المزيد من الوقت ليكونوا معهم، ومراقبة حالتهم النفسية وأي متغيرات طارئة على حياتهم، وألا يستهينوا بأي تراجع لحالة أطفالهم النفسية، أو تغيرات في السلوك وطريقة التفكير، وأن يفتحوا نقاشًا يوميًّا مع الأبناء بأسلوب هادئ ومريح، بعيدًا عن التهديد والعقوبات، وذلك حتى يكونوا على اطلاع دائم بحالتهم النفسية، وما يطرأ على حياتهم من مستجدات.