ما المقصود بإنسانية الوظيفة النسائية؟ وما مركزيتها؟ إن أهم ما في هذا الكون هو هذا الإنسان/الخليفة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30)؛ له سُويت الأرض وله رُتبت السماء: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ﴾(البقرة:29)، ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾(لقمان:20).. الكل مسخر لهذا الإنسان وخادم له؛ ليعبد -بكل ذلك- اللهَ جل جلاله ويؤدي وظيفته: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56).. فسِواه خادم له، ومن ثَم فهو أهم شيء في هذه الكائنات التي تُرى، إن صلح صلح سواه وإن فسد فسد سواه، غيره يعذَّب بسيئاته، وغيره أيضًا يُرحم بحسناته: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾(فاطر:45)؛ لأن ما سوى الإنسان تابعٌ لهذا الإنسان، وإذا آخَذ الله الإنسانَ فما الفائدة من بقاء غير الإنسان وهو -أساسًا- موجود لخدمة الإنسان؟ بل إن قيام الساعة -على خطورة علاقته الأساسية- بفعل هذا الإنسان وعبادته.. فالكون يُدَمَّر حين لا تبقى فائدة في هذا الإنسان من حيث رسالته الأساسية وهي عبادة الله جل جلاله.
إذن، من يخالط هذا الإنسان الذي هو الأهم؟ ومن له الصدارة والأولوية والأسبقية في صنعه البشري العادي؟ من له الأسبقية في صياغته وجعله على نمط معين؟ هل هو الرجل أم المرأة؟ إن الجواب الواضح في القرآن الكريم وفي الواقع المشاهد هو؛ المرأة.
هذا ما نقصده بـ”إنسانية وظيفة المرأة”، أي إنها متخصصة في الاهتمام بالإنسان، والرجل متخصص في بعض ذلك لكي يعين المرأة على أداء وظيفتها الأساسية في تكامل وانسجام تام بناء على خلقته هو، التي بها كُلّف وأُنيطت به تلك الوظيفة، وبناء على خلقتها هي، التي كُلفت بها وأُنيطت بها تلك الوظيفة.
دور المرأة في صياغة الإنسان
للمرأة في صياغة الإنسان ثلاثة أرباع، وللرجل ربُع، ويفيدنا في تقرير هذا المعنى الاستئناسُ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان جوابًا لسؤال أحد الصحابة: من أحق الناس بحسْن صحابتي يا رسول الله؟ قال: “أمّك”، قال: ثم من؟ قال: “أمّك”، قال: ثم من؟ قال: “أمّك”، قال: ثم من؟ قال بعد ذلك: “أبوك” (رواه البخاري)؛ فأعطى للمرأة (أي للأم) 75% -بلغة حسابات العصر- و25% هي التي بقيت للأب. هل في الأمر محاباة للمرأة؟ كلا، ولكن الغُنْم على حسب الغُرْم.
والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة حين يقول: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ﴾؛ فلم يحمله أبوه، وقد قالت الأعرابية: “حملتَه خفيفًا، وحملتُه ثقيلاً.. ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾، ثم في ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا﴾(الأحقاف:15)، وفي ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾(البقرة:233) نجد أن هناك فترة اسمها “الحمل”، لا علاقة للرجل بها ولا حظ له فيها إلا حظ الحماية العامة والصيانة العامة، ونجد أن فترة الرضاع لا حظ له فيها، وإنما الحظ كذلك خالص للمرأة.
وكذلك ما يلي ذلك حتى نهاية مرحلة الحضانة أيضًا للأم الأولوية فيها، بل ولها الأسبقية بالشرع والواقع والمنطق وهي مرحلة لها أهميتها.
وبعد ذلك يأتي حظ الرجل بعد أن تتكون الشخصية. ويرى كثير من الخبراء أن الولد أو البنت -قبل ست سنوات- يكون أكثر من 60% من شخصيته النفسية وبنائه الشخصي قد تم وكمل؛ لأن الوليد في هذه المرحلة يبتدئ في التعلم وهو جنين في بطن أمه، ويتعلم بعدُ بطرقه الخاصة عبر أجهزة الاستقبال الخطيرة التي أودعها الله فيه بأجهزته.. فهي التي تستقبل معلومات كثيرة ربما دون أن يكلم الطفل من حوله أو يعرف ما يقول، ولكنه يستقبل ويخزن.
وبعد مدة يبتدئ في الإرسال، لا يعلّمه اللغةَ أحدٌ، ولكنه يخزن المعلومات الكثيرة جدًّا.. ليست اللغة فقط، بل يخزن العادات والتصرفات، ويخزن النظرات والإشارات، يخزن كل شيء، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابية التي قالت لولدها: تعال أعطك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أردتِ أن تعطيه؟” قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال لها: “لو لم تعطه شيئًا كُتبت عليك كذبة” (رواه الإمام أحمد). هذا الأمر يُستهان به الآن بدرجة فظيعة، فالأب والأم يظنان بأن الولد الصغير ما زال لا يفقه شيئًا ولا يعرف شيئًا، بينما هو في الواقع يعرف العجب العجاب، إن كذبوا سجّل عليهم الكذب، وإن صدقوا سجّل عليهم الصدق، وإن أخلفوا سجّل عليهم الإخلاف، وإن أنفقوا… فكل ما يراه ويحسه ويخزنه. وها هنا نكت كثيرة يعرفها الآباء عن أبنائهم في ملاحظة الأبناء على الآباء دون أن يشعروا.
ومما سبق يتضح أن المرأة -بالأساس- متخصصة فيما يتعلق بصياغة الإنسان ذَكرًا كان أو أنثى، هي المتخصصة قبل الرجل، وخُلقت وصُممت على أساس أداء هذه الوظيفة. ولو أراد الرجل أن ينافسها فيها لما استطاع، بل لا سبيل له إلى ذلك، فلا يستطيع الرجل الحمل، ولا يستطيع الإرضاع.. وكل هذه المحاولات التي تريد تعويض المرأة في بعض الأمور، إنما هي من المضاهاة لخلق الله، وهي محاولات لإفساد النظام العام للاستغناء عن الوظائف الأساسية وتعويضها بالوظائف الاصطناعية، وذلك لا يساوي الأصل أبدًا بتصريح وتحقيق علماء الطب وعلماء التشريح وعلماء البيولوجيا.. كل ذلك معلوم، والدليل على ذلك أن حليب الأم -على سبيل المثال- إذا أُعطي للطفل خلال ستة أشهر بكاملها بعد الولادة، يكون الطفل ملقحًا تلقيحًا طبيعيًّا.. فالمناعة للأم تكون للولد طيلة مدة ستة أشهر إن كان يرضع من ثدي أمه.. إنه تصميم كوني قبل مجيء الطفل.. إذن هناك نظام، وهناك تصميم خاص للوظيفة التي صُنعت لها الأثداء، للوظيفة التي صُنعت لها الأرحام.. إن كل ما صنعه الله في المرأة قد صنعه لأمر خاص.
ونحن نعلم أن الإنسان -رجلاً كان أم امرأة- يوجد فيه النقطة الأساسية الخطيرة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” (رواه البخاري)، هذا الشيء الذي هو في الداخل هو الذي يترجم عنه اللسان، وهو الذي تترجم عنه أعمال الجوارح.. فالحسنات تنبت في القلب قبل الظهور، والسيئات تنبت في القلب قبل الظهور. ولذلك كانت الحرب ليست خارجية فقط، بل داخلية قبل ذلك: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾(فصلت:36). فمجرد النـزغ ينبغي قمعه بسلاح التذكر والتقوى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾(الأعراف:201).
محاربة الوساوس في المهد
ولذلك يجب محاربة الوساوس في المهد، أي القلب؛ حيث إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، إذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس، فالأصل رعاية داخل الإنسان (نفسه وقلبه)، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾(التوبة:25)؛ فسبب الهزيمة أمر داخلي تمثل في الإعجاب بالنفس وبالكثرة: ﴿أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾(آل عمران:165).. فالإشكال في الداخل، والمسلمون في المنطق العام لا يؤتون من الخارج، وإنما يؤتون من الداخل.
فهذا الأمر إنما هو تمهيد لقول الله عز وجل للنساء: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾(الأحزاب:33).. والسؤال: لِمَ هذا القرار؟ لأن النقطة المركزية التي تُحدِث السلام أو تُسبب الحرب، والتي تُحدِث الطمأنينة أو تُسبب القلق والاضطراب، والتي تحدث الهدوء والاستقرار، إنما هي “البيت”. فالبيت إذا كان مستقرًّا وسكنًا، كان فيه السكون، يسكن فيه القلب ويطمئن، وتسكن فيه النفس وتهدأ، ويسكن فيه الكيان، وتكون فيه السكينة على أساس أن خارج البيت فيه غير ذلك؛ حيث إن آدم (الرجل) هو الذي يشتغل خارج البيت أكثر، ولذلك قال الله عز وجل لآدم عليه السلام:
﴿فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾(طه:117)؛ فأنت يا آدم الذي تشقى، أما حواء فلا تشقى، لأن أصل وجود هذا الموقع الطبيعي لها، أن تكون بالداخل، بالبيت، ولا يعني هذا أن الرجل لا يستقر بالبيت عند الضرورة والحاجة، وأن المرأة لا تخرج خارج البيت عند الضرورة والحاجة، ولكن التصميم العام والأصل العام، أصل التخطيط وأصل البناء الذي هو على أساس الوظيفة، إنما ينبغي أن يكون هكذا: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ﴾(الأحزاب:34)، ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾(الأحزاب:33)، ﴿فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾(طه:117).
ومن ذلك يتبين أن هذا الشقاء والكدح والنَّصَب والتعب سيكون أساسًا بسبب هذا الخروج، والمرشح له في أصل الخلقة هو هذا الرجل.. إذن البيت مؤسسة، وهذه المؤسسة لها داخل ولها خارج، كالإنسان نفسه؛ له داخل وخارج، ظاهر وباطن.. فهناك من هو مختص أصلاً بذلك الباطن، وهناك من هو مختص بذلك الظاهر وهما معًا متكاملان؛ المختص بالباطن يساعد المختص بالظاهر، والمختص بالظاهر أي الخارج هنا يحمي ظهر المختص بالداخل ويعينه إلى غير ذلك. ولكن أين المرأة من هذا التكامل؟
المرأة بالنسبة للإنسان هي في المركز، وبالنسبة للوحدة الإنسانية هي كذلك في المركز؛ فهي نقطة الانطلاق والبؤرة التي لابد أن نفهمها. أما وظيفة الرجل في هذا الكون، هي التلقيح من ناحية، والحماية والصيانة من ناحية أخرى… وإلا فالإنتاج حقًّا موطنه وتنميته ورعايته في المرحلة الأساسية إنما تقوم به المرأة.
وفي الوحدة الإنسانية كذلك وُضعت المرأة في موقع خاص هو نقطة الانطلاق التي هي البيت، فهي ربّتْه وسيدته، وهي التي تجعله من قبيل جهنم أو من قبيل الجنة.