سلطان إبليس على الإنس بين الحقيقة والوهم

غالبًا ما يتخذ الناس إبليس مشجبًا يعلقون عليه فشلهم وأخطاءهم ومعاصيهم وذنوبهم وكل سوء يصيبهم، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتعداه إلى قذفه باللعنات ورميه بأبشع العبارات للاعتقاد الجازم أنه سبب كل هم وغم يلحقهم وكل مصيبة تطاردهم.

غير أنه وبالرجوع إلى تاريخ إبليس وإلقاء نظرة خاطفة على سيرته الذاتية نجد أنه رغم كونه كان في الملأ الأعلى مع صفوة الملائكة عبادة وزهدًا إلا أنه ارتكب خطأ فادحًا، ومعصيه عظمى عندما امتنع عن تنفيذ أمر الله تعالى والسجود لآدم عليه السلام، قال سبحانه: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(البقرة:34)، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عمن دفع إبليس إلى الفسوق عن أمر ربه والامتناع عن الاستجابة لطلبه؟ وهل يمكن أن يكون هناك مخلوق آخر وراء زلته؟

طبعًا لا يمكن أن يكون هناك مخلوق آخر وراء المعصية لأنه لو كان كذلك لتساءلنا أيضا عمن دفع ذاك المخلوق الذي أغرى إبليس وأوقعه في معصية الله، وهذا عبث لا يقول به أحد. ولما كان ذلك مستحيلاً، فقد رجحنا باستقراء آي القرآن وأحاديث النبي العدنان، أن الذي أوقع إبليس في المعصية ليس مخلوقًا آخر وإنما الذي جنى عليه هو نفسه التي تعيش بين جنابيه حين قال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) حيث سولت له أنه أفضل من آدم عليه السلام باعتبار أصله (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(الأعراف:12)، فأوهمته أن النار أفضل من الطين فتكبر وتجبر، فكان الإبلاس من رحمة الله والطرد من جنته سبحانه لاعتبار أن المقياس عند الله ليس الأصل أو اللون أو الجنس أو العرق وإنما هو التقوى التي بها يقوى الكائن ويرتفع قدره عند ربه (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13) واللافت في الأمر أن إبليس بعد وقوعه في المعصية تحلى بكامل المسؤولية ولم يتملص من فعلته بإلصاقها بالقدر أو بأي مخلوق آخر ولو فعل لأخبرنا الله تعالى، فكان ذلك دليلاً على أن نفسه هي من أمره (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(يوسف:53)، وهذا ما أكده على الضفة الأخرى آدم وزوجه حواء عليهما السلام عندما وقعا في المحظور وأكلا من الشجرة التي نهي عنها (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(الأعراف:23)، فكان كلامهما فيه من تحمل المسؤولية الشيء الكثير واعترافًا واضحًا بالذنب مع توجيه اللوم والعتاب للنفس باعتبارها العنصر المدان في القضية وليس إبليس، فغفر الله لهما لصراحتهما وتاب عليهما لتوبتهما (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة:37) بخلاف إبليس الذي لم يتب ولم يستغفر فكان الطرد من رحمة الله

نعم إنها النفس التي هي أنت ولا أحد غيرك، هي ذاك الخليط الذي حوى فيك الفجور والتقوى مع الاستعداد التام للفعل تزكية وتدسية، وعلى قدر حسن اختيارها أو سوءه يكون فلاحك أو خيبتك (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)(الشمس:8)

نعم أنت أيها الإنسان بنفسك المسؤول الأول والأخير عما تجني من فلاح وأرباح، وأنت أيضًا المسؤول عم تقع فيه من هفوات وانتكاسات بفعل ضعف النفس فيك واستسلامها للشهوات.

إن هذه النفس التي أدانها إبليس، وأدانها آدم عليه السلام دون أن يلقي أحدهما باللوم على الآخر ويعتبره سبب خيبته وخطيئته، هي نفسها التي دفعت إخوة يوسف للمكر به وإلقاءه في غيابات الجب بعد أن اتفقوا على ذلك وأجمعوا أمرهم بينهم، وهي التي أملت عليهم تلطيخ قميصه المبارك بالدم لتقديمه حجة للأب المكلوم، الذي ما إن سمع الخبر ورأى القميص حتى قال لهم مباشرة وبدون ترد (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)(يوسف:18)، وهو الاتهام الذي أكده الأخوة المذنبون في الأخير بعد ما تم اللقاء بأخيهم يوسف عليه السلام وتجدد الوصال وتم التعرف عليه بعد أن صار على خزائن مصر حيث قالوا (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)(يوسف:91) فاعترفوا بأنهم هم المخطئون وليس الشيطان أو غيره، وهي الحقيقة التي اعترفوا بها لأبيهم أيضًا حين قالوا (يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)(يوسف:97) حيث تحملوا مسؤولية فعلهم تماما كما تحملها آدم عليه السلام ومن قبله إبليس اللعين ولم يبحثوا عن مشجب ليعلقوا عليه ذنوبهم ويكون فيه خلاصهم .

أنت أيها الإنسان بنفسك المسؤول الأول والأخير عما تجني من فلاح وأرباح، وأنت أيضًا المسؤول عم تقع فيه من هفوات وانتكاسات بفعل ضعف النفس فيك واستسلامها للشهوات.

وكما يقال” الشيء إذا تكرر تقرر، فإنه لما تكررت الإشارة إلى النفس واتهامها فيما ذكرنا وفيما لم نذكر من النماذج الكثيرة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وفي سنة النبي العظيم عليه أزكى الصلاة والتسليم،   فقد تقرر إدانتها دون غيرها وتحميلها المسؤولية كاملة بعيدًا عن شبهة الشيطان التي أصبحت لنا قاعدة مسلمة نستدل بها كلما هفونا أو أخطأنا، هذه الشبهة التي لو وجدت لكانت خيرًا لإخوة يوسف ولزوجة العزيز ومن قبل لآدم عليه السلام تدرأ عنهم وعنا وعن جميع الجناة والمخطئين والقتلة والمجرمين إلى يوم الدين العتاب والعقاب في الدنيا والأخرة، ولو كان للشيطان سلطانا علينا (نحن بنو البشر) لكان ذلك لصالحنا ولحاججنا غدًا يوم القيامة بين يدي ربنا بكوننا كنا مقهورين تحت قدمي ذاك المخلوق المارق، ولما استحق أحد العقوبة أو الإلقاء في النار أبدًا، بل لن يكون هناك داع لوجودها أصلا، ولو وجدت وأُدخلها الناس لكان ذلك ظلمًا من رب الناس لهم (حشاه سبحانه)، ولما كان عز وجل عادلاً (تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا)، إذ كيف يعذب إنسانًا كان مقهورًا تحت سلطان شيطان سلط عليه تسليطًا، وهذا عبث لا يقول به أحد ولا يصح، بل إن الصحيح الثابت أن الجنة حق والنار كذلك، وأن الناس ينعمون في الأولى بما كسبوا من أعمال صالحة أهلتهم لنيل رحمة الله، ويشقون في الثانية أيضا بما كسبوا من أعمال طالحة أهلتهم ليحظوا بغضب الله، وكل ذلك طبقًا للقاعدة القرآنية (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(المدثر:38) و(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(الزلزلة:8-7) هذا ومما ثبت وصح أيضا أن الشيطان لا سلطان له على الإنسان إلا بشيء واحد وهو الدعوة التي يقوم بها بطرق مختلفة تارة عن طريق الوسوسة والتزيين وتارة عن طريق النزغ وغير ذلك فكان دور إبليس وأعوانه في هذه الحياة منحصرًا في الدعوة والإغراء فقط دون أن تكون لهم سلطة إلزامية جبرية قهرية على الإنسان، وهذه الوظيفة يستوي فيها حتى بنو البشر الذين يزينون لبعضهم البعض الشر ويدعون بعضهم البعض إليه بطرق شتى كذلك (كلام، اشهار، اعلان، يافطات، برامج، عروض..) دون أن يلزم أحدهم الآخر بشيء من ذلك، ليبقى الاختيار والحرية التامة للنفس إقبالاً وإدبارًا، مع تحمل المسؤولية التامة في الاختيار ربحًا وخسارة دون لوم اليافطة أو الإشهار.

إذا عُرف هذا فقد وجب علينا التخلي عن التعلق بوهم الشيطان والكف عن نسبة كل انتكاسة ومعصية إليه والتحلي بكامل المسؤولية أمام من نخطئ في حقهم سواء كانت نفسنا أو غيرنا أو ربنا، ولنتعلم بدل التشبث بالوهم والسراب الذي يحسبه الظمئان ماءً أن نعتذر ونستغفر ونتوب سيرًا على النهج السوي الذي علمنا إياه أبونا آدم عليه السلام مذ أخطأ أول مرة، ولنوقن أن سلطان الشيطان علينا أوهن من بيت العنكبوت وأن القوة والسلطة الحقيقية هي لتلك التي تقبع بداخلنا وتسكن أضلعنا ولا تكاد تفارقنا وهي في صراع دائم داخل حلبة أجسادنا الموثقة بحبال الشهوات والنزوات، وهي تارة تضعف وتنهار فتهوى إلى دركة النفس (الأمارة بالسوء) وتارة تقوم وتنهض وتقاوم فترقى إلى درجة (النفس اللوامة)، وتارة تثبت وتصمد أمام خصوم اللذات والشهوات فيكون الانتصار وتحصد لقب (النفس المطمئنة) فيكون التتويج بالجنة.