كان يبكي… يجهش… يصرخ… يضرب الأرض بقدميه… ينادي… يستغيث… يمزق الهدوءَ المخيِّمَ على قريتنا الصغيرة المتكئة على جبل الزيتون بسكون أبدي. انتفضت خالتي حميدة بذعر وانتفض جميع من في الدار، سقط فنجان القهوة من يد والدتي على وقع الصراخ المتواصل، إنه صوت طارق، لقد أصابه مكروه بالتأكيد، نطحه التيس الأقرن أو عضه الكلب الأجرب أو لسعه الحنش الأسود الذي يظهر لأطفال القرية بين الحين والآخر فجأة ثم يختفي.

ولم الكذب؟ فقد هزّ صوته جميع أطرافي وشعرت برعدة تسري في جسمي كله، جريتُ مع الجميع تسبقنا خالتي يتبعها زوجها يلحق بهما والدي ووالدتي وبعض أبناء خالتي. إنه هناك على بعد مائتي متر منا تحت شجرة الجوز العملاقة حيث كنا نمرح ونلعب قبل بضع دقائق، بدت لي المسافة كأنها كيلومترات، اختلط نواح النساء بصياح الرجال بالغبار الثائر، لكن ذلك كله لم يستطع أن يغطي على صراخ طارق واستنجاداته المتلاحقة.

احتضنته خالتي بعمق، ضمّته إلى صدرها بحنان، قبلته بشوق، صرخت أمي “كفي عن ذلك يا زكية، انظري هل أصابه مكروه؟ طارق حبيبي ما بك؟” سأله زوج خالتي: “طارق لسعك شيء؟ طارق حبيبي تكلم؟” تدخل جدي بصوته الحازم: “ما لكم يا أولاد؟ دعوا الطفل يلتقط أنفاسه. لا تخف يا بني، جميعنا هنا من أجلك”. تعلقت النظرات المشدوهة في وجه طارق، شعرت بقلبي كأنه سيفر من صدري.

رفع إبهامه اليمنى يحاول التغلب على نشيجه وأشار إلى شوكة صغيرة انغرزت فيها. تنفس الجميع الصعداء وعلا الوجوهَ المرعوبةَ هالةٌ من البسمة والارتياح، نزعت خالتي زكية الشوكة بلطف وقبّلت إبهامه ودموع الفرح تسيل من خديها، ضمته إلى صدرها قائلة: “حبيبي أنت”.

عاد الجميع إلى البيت ليواصلوا جلستهم اليومية المحببة، وبقينا لوحدنا: “ظننتُ الأقرن، أو الأجرب، أو الأسود، فإذا بها…”، قاطعني بعنف مقطّبا جبينه: “لكنها مؤلمة… مؤلمة… جدًا”

بعد أسبوع انتهت عطلة الصيف فعدت مع أسرتي إلى دمشق وبقي هو في بيروت مع عائلته، سار كل واحد منا في مسارات مختلفة من الحياة. لكن لا أدري لماذا، بقيت صورة طارق عالقة في ذاكرتي وهو يصرخ ويبكي بسبب شوكة أصابت إصبعه.

……

مرت السنوات مرور البرق، فإذا بي أجد نفسي شريكا في العمل مع طارق، ابن خالتي الحبيب، تعانقنا بحرارة، شعرت بغياب شيء ما في داخله أثناء العناق، شعور غامض لم أتبينه بوضوح.

كان يملك سيارة فاخرة وعملاً محترمًا ومنزلاً فخمًا ويتمتع بحالة اجتماعية راقية، كان الجميع ينظر إلى نجاحاته بانبهار، كان مجتهدًا وطموحًا لا يعرف المستحيل، مع وسامة بارزة وابتسامة مشرقة ولباقة ملحوظة، لكن كما قلت هناك شيء ما لم أرتح إليه.. شيء ما أقلقني.

قال لي: خبرتك في الإلكترونيات والبرمجة ستجعلنا “رقم واحد” في هذا المجال. سنسحق مصطفى أدهم ويأتينا متسولاً.

قلت بدهشة: ابن عمنا؟ لكنه رجل طيب.

قال مقطبًا بغضب: لن يكون أفضل مني.

شعرت بشوكة تنغرز في قلبي وتدميه. سألته: وعمك ماذا سيقول إذا تسببنا في تدمير مصطفى؟

قال محتدًا: وما شأنه؟ أصلاً أنا شطبت أبي عندما وقف إلى جانب مصطفى؟ كلا لن أغفر لهما.

انغرزت شوكة أخرى في قلبي، كم كان حب طارق لوالده عظيما، وكم كان يحب عمي؟ ما هذه الكراهية التي حلت محل الحب؟

في الأيام المقبلة رأيت الإهمال الذي تتعرض له خالتي من قبل طارق والقسوة التي يعامل بها إخوته وخصال سيئة أخرى. لم يكن يكترث بأحد، لم يكن يرى إلا نفسه ونجاحاته وتضخيم ثروته وإضافة أمجاد جديدة إلى أمجاده، حتى وإن كان السبيل إليها غير مقبول مجتمعيًا أو أخلاقيًا.

في حواراتي الحامية التي كانت تدور بيني وبينه كنت أبحث عن براءة طارق الذي عرفته منذ نعومة أظفاره، ولكن بدون جدوى. بدا لي قلبه محفوفا بالأشواك، أشواك القسوة، والاستئثار، والغيرة، والعجب، والشح، والطمع… متى سمحت لهذه الأشواك أن تحتل قلبك يا طارق؟

لكنني لن أتركك لها، لن أتخلى عنك. سأنزع كل تلك الأشواك من قلبك واحدة تلو الأخرى، ولن أتراجع. سأخوض هذه المعركة المحتمة وسأنقذك، وها أنا أنطلق، قلت له: “أتذكر ذلك اليوم عندما انغرزت شوكة في إصبعك؟”

نقّب في ذاكرته طويلا ثم قال: “آه نعم نعم أذكرها، تلك الشوكة الحمقاء”.

قلت: “تلك كانت شوكة صغيرة، لكنك أثرت ضجيجا أقلق القرية كلها، أتذكر؟ ولكن ما الذي دهاك يا طارق؟ ألا ترى الأشواك المنغرزة في قلبك اليوم؟ ألا ترى كم هي كثيرة؟ قلبك ينزف بسببها. لماذا لا تصرخ؟ لماذا لا تجهش في البكاء؟ ماذا حصل لك يا طارق؟ أمتَّ قبل أن تموت يا طارق؟ أفقدت الإحساس بالألم؟ لماذا لا تستغيث؟ لماذا لا تطلب النجدة؟ أين براءة الطفولة يا طارق؟ فوالله لو أحسستَ بتلك الأشواك التي تنغزر في قلبك في اليوم عشرات المرات لما توقفت عن البكاء أبدًا؟ فكر بهذا يا صديقي!”

كان ينظر إليّ باندهاش، يبدو أن كلماتي وقعت من نفسه موقعًا صحيحًا، أو على الأقل هكذا بدا لي، أدرت له ظهري وتركته يتأمل فيما قلت، من يدري لعلها تكون بداية التعافي، لأن التعافي يحتاج إلى وقت، لست أدري.

خرجت من الغرفة تتردد هذه العبارة في داخلي: “بكيتَ لشوكة صغيرة أصابت إصبعك، فلو علمتَ بعشرات الأشواك تصيب قلبك يوميا، لأسرعت في طلب الغوث، ولما توقفت عن البكاء أبدًا…”.