هل من شك أن الإنسان المعاصر يعيش “أزمة” متعددة الأوجه متداخلة الجوانب؟. وهل من شك في أن الشخصية الإنسانية “السائدة” بحاجة لجهود إنقاذ عاجلة وحثيثة؟ وهل في الإمكان عمليًّا إحداث تغيير وتجديد فيها للوصول إلى “الإنسان المنشود” منارة النهوض المجتمعي، وركيزة البناء الحضاري؟

لقد تم تقييد الإنسان وربطه بالآلة والميكنة، وتكرست تبعيته للمادة وسلوك التملك، وتضخمت جوانب “كمية ظاهرية تجميلية” تتناسب مع “الشخصية الاستهلاكية” ومتطلبات السوق، وسيادة “الأخلاق الصناعية”، والخضوع لمغريات الاستهلاك الشره، واللهث خلف لذة وقتية ونشوة عابرة، لكن اقتناص المزيد من الأشياء الماديات لم يحقق المزيد من السعادة والكينونة؛ بل تفاقمت مشكلة عدة اقتصادية واجتماعية وبيئية، وتغيرات مناخية كوكبية خطيرة. وتعترف تجليات العولمة الاقتصادية بمن يملك المال، وتكرس “مجتمع الخمس”، وأحقية “البقاء للأغنى والأقوى”. وشاعت المخدرات، وتجارة الرقيق الأبيض، والجريمة الفردية والمُنظمة، والقهر والعنف، وتلاشى دور الأسرة.

لقد باتت الحاجة مُلحة لإعادة صياغة “الشخصية الإنسانية” التي أصابها “الوهن” الوجداني والنفسي والأسري والاجتماعي والإنساني مما أوجد ملامح التفسخ والتفكك والاغتراب والانعزال والعنف.

إنه “تجفيف” للقيم الإنسانية، ومنابع العواطف الاجتماعية المتمثل في دور الأبوين والأسرة. والقضاء على التمييز بين الرجل والمرأة، وقصر مفهومها على تحقيق اللذة أيا ما كانت. وإشاعة أنماطاً “غير تقليدية” للمعاشرة الجنسية، وبات من حق المثليين جنسيًّا: الزواج، والتبني، والتوارث، وكثيرة هي المنحنيات والتحولات السريعة التي أفقدت “الذات العولمية” كثيرًا من الإرادة والوعي بما هو قادم، مما أضعف بدن المرء ونفسه، وغيب تفرده وفرادته. فبات البعض يوصي بتجديد القيم والثقافات لتتلاءم مع هذه التحولات، وبرزت تحذيرات من “النهايات”، نهاية الحياة المعاصرة عندما تطغي الآلات وينكشف للإنسان عجزه عن أداء دوره في مواجهة تلك الآلات والتقنيات تلك التي نستعملها فتستعبدنا.

ولقد باتت الحاجة مُلحة لإعادة صياغة “الشخصية الإنسانية” التي أصابها “الوهن” الوجداني والنفسي والأسري والاجتماعي والإنساني مما أوجد ملامح التفسخ والتفكك والاغتراب والانعزال والعنف (هاجس البشرية هو تحقيق الأمن). ولا شك أن النزوع للشر والتدمير إنما هو نتيجة الإخفاق في اختيار سبل النمو والنضج والبناء. يقول الأستاذ فتح الله كولن”: “وقد اعترى الغرب في القرون الماضية نسيانٌ لِقِيَمِهِ الدينية ووصايا السيد المسيح، فشن أهله الحروب في القارات، وأشاعوا الرق والاستغلال أينما حلو… فهذا العالم يتباهى بالعلم والتكنولوجيا إزاء الفراغ والاكتئاب الذي أوجده في الحياة الاجتماعية نتيجة لخطئه العظيم في تحديد نقطة الانطلاق”.

الإنسان المنشود

الإنسان المنشود راض خالقه، وعن قيمه، وعن مجتمعه، وعن ذاته، لا يعاني من ثنائية “الروح والمادة”، بل يعيد المادة لوزنها الصحيح بجوار النفس، ويوازن بين الروح والجسد مع أهمية التناسق والتناغم مع مفردات الكون كلها. كما يجمع بين الهوية الذاتية والمقومات الحضارية. ويُقدر قيمة (العقل الوازع الرادع) والأخلاق الشاملة، فهذا الإنسان المنشود مُتصالح مع عالمه المحيط، وفق نمط حياتي جديد، يفر من أنماط حياة لا ترضيه إلى أخري ترضيه. فيحب الحياة ويحترمها في كل تجلياتها ومظاهرها ولكل ما يسهم في إنمائها دون قهر لها أو استنفاد مقدراتها أو استنزاف ثرواتها. بساطة واقتصاد واعتدال وصدق ومعرفة لما له وما عليه، وأداء الواجب واحترام حقوق الآخرين.

وهو يقوم بتنمية مستمرة لحيويته عبر صياغة جيدة وجديدة للعلم وأخلاقياته (علم بلا تدمير)، وللتعليم وطرائقه تعليمًا إبداعيًّا مستمرًا، وللأعلام ووسائطه إعلامًا صادقًا، وللفن وإبداعاته جمالاً بغير ترف، وللثقافة وسبلها ثقافة بغير راحة. ويستعمل طرقًا وأساليب حياة أكثر توافقًا وتوفيقًا بين الفردية والجماعية، وبين الأنا والآخر مجتمعيًّا وحضاريًّا.

قد تم تقييد الإنسان وربطه بالآلة والميكنة، وتكرست تبعيته للمادة وسلوك التملك، وتضخمت جوانب “كمية ظاهرية تجميلية” تتناسب مع “الشخصية الاستهلاكية” ومتطلبات السوق، وسيادة “الأخلاق الصناعية”، والخضوع لمغريات الاستهلاك الشره.

ويعترف بالتعددية العقدية، والثقافية والحضارية، فهي آية تستحق التدبر والتأمل. أصل بشرى واحد، ثم اختلاف الأجناس والألوان واللغات، ثم التفرق شعوباً وقبائل، ليس للتفرق، والتخاصم، والتناحر، والذهاب بددًا، بل للتعارف، والتكامل، والتعاون وفق معيار: التقوى والعمل الصالح. وهما أعمال كسبية (ليست وراثية / عنصرية) يتسابق فيهما الناس.. مرضاة لخالقهم. مع التصالح على العرف الحسن، والمعرفة الرشيدة دونما اعتداء أو تعدٍ أو إكراه. وتراه حاضراً حضوراً كاملاً شاملاً حيث يتواجد الإنسان ويكون. فهذا الإنسان تغمره الفرحة والسعادة حين يخدم الآخرين ويشارك ويعطي، وليس حين يستغل أو يحتكر أو يكتنز، “إنسان شامل، يخدم غيره ناكرًا ذاته”. إنه طاقة بناء، ونهر عطاء، يؤسس لا يهدم، ويشيد لا يخرب، ويبذر القيم والخير، ولا يكل عن خدمة الغير.

ويعالج الاقتصاد العولمي الذي “انتقل من اللامساواة إلى اللاإنسانية”، ليكون علمًا إنسانيًّا حقًا، مؤكدًا على قيمة العمل، ومحاربة الاحتكار والاستغلال والجشع والغش، وكما له حاجات بدنية جسدية تلبي عبر تحديث الإنتاج والعمل واستهلاك الطعام والشراب والملبس والمسكن و”أوقات الفراغ”، له أيضًا حاجات روحية ونفسية ومعني وهدف للحياة، مع القدرة علي حسن استشراف المستقبل. والإنسان المنشود غني في جوهره وقوة إرادته الحاكمة الممانعة لتسليع كل شئ. لا يسرف في إرضاء الغرائز، فالإسراف في إرضائها إرضاءً كاملاً يوردها موارد الهلكة، فضلاً عن أنه سبيل انحلالها عبر إسراف غذائي ممرض، أو إدمان قاتل، أو عنف أسري ومجتمعي مدمر. إنه توازن وفعالية لتحسين الحياة، وحالة نشاط وتناسق لا ينقطع، وفتوة ورياضة دائمة للبدن والروح معًا.

إنه يُعلي من فضائل النفس الإنسانية، ولا يستذلها أو يورطها في دعة قاتلة، يقول “ابن المقفع”: “واصل الأمر في المعيشة ألا تني عن طلب الرزق، وأن تحسن التقدير فيما تكسب وما تنفق، ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها، فإن أعظم الناس خطراً أحوجهم إلى التقدير”. والامتلاء الداخلي والغنى الوجداني والشعور بالإشباع يقف حاجزاً مانعاً ضد الرغبة الدفينة في التملك والمزيد منه، والتملك يولد المزيد من العطش (عبودية المقتنيات)، ولذة التملك الخارجية عابرة مؤقتة عرضة للتحولات وما أكثرها.

“الإنسان المنشود” في فكر الأستاذ “فتح الله كولن”

شكل الإنسان المنشود وكيفية إعداده، عقديًّا، وإيمانيًّا وقيميًّا، وتربويًّا، وتعليميًّا، وأخلاقيًّا، وسلوكيًّا، وعلميًّا، وحركيًّا، وحياتيًّا حجر الأساس في فكر الأستاذ “فتح الله كولن”، ويتجلى ذلك من خلال الخطب والدروس، والمؤلفات والرسائل، والمقالات والمقابلات التي قام بها الأستاذ. ولما لا فالإنسان مخلوق مكرَّم، مُفضل، مُسخَّر لخدمته كل ما في الكون، فيجب الاعتناء به ليكون “مشعل نور” مشحون بشعائر الثقافة الذاتية للأمة قادرًا على  حل “أزمات الواقع”، واستشراف رؤية واعية للمستقبل.

الإنسان المنشود راض خالقه، وعن قيمه، وعن مجتمعه، وعن ذاته، لا يعاني من ثنائية “الروح والمادة”، بل يعيد المادة لوزنها الصحيح بجوار النفس، ويوازن بين الروح والجسد مع أهمية التناسق والتناغم مع مفردات الكون كلها.

وهو يري الإنسان المنشود “بطل لا يطلب الدنيا”، أنموذج للقيم السامية، والثابتة، والشاملة، والواضحة، والواقعية، والمنفتحة، أنموذج تنويري حقيقي، وتبيان شافٍ، وتصحيح وافٍ لأزمة الإنسان المعاصر، وشقائه.

وتتأكد فيه الكرامة الإنسانية، وكسب البشرية هدايتها للحق والمعروف، ونهيها عن المنكر، وتمتعها بالطيبات، واجتنابها الخبائث. فركائز “الإنسان الذهبي”: صدق الإيمان، وإخلاص العبادات، ودوام ذكر الله عز وجل، والاستقامة، وسمو الأخلاق، والشكر، والصبر، والمثابرة، والتضحية، والزهد، والدعاء.