لقد أحرز الصناع المسلمون تقدمًا ملحوظا في صناعة المعادن، وبلغت مهارتهم ودقتهم فيها مبلغًا فائقًا، وأنتجوا منها مختلف التحف من أوان وصينيات وأباريق وزهريات وشمعدانان وغيرها، وأتقنوا صناعتها من البراويز، وتكفيتها بالذهب والفضة والنحاس وشكلوها على هيئة الطيور والحيوانات، ونقشوا مسطحاتها بزخارف رائعة الجمال، هندسية ونباتية وحيوانية وآدمية وخطية.
وكانت أولى الاقتباسات الأوربية من هذه الصناعات المعدنية أشكال الأباريق البرونزية أو النحاسية، واستخدموها لسكب الماء والخمر في القداس والكنائس، وكانت التحف الإسلامية المعدنية تلقى رواجًا كبيرًا في بلاطات الملوك الأوربيين ، وكان من نتائج انتشارها أن ظهرت بمدينة البندقية مصانع للتحف النحاسية في القرن الخامس عشر، اتخذ صناعها من التحف الإسلامية نماذج استوحوا منها أساليب صناعتهم وأشكالها، وقد تخلفت تحف عديدة من إنتاج هذه المصانع، من بينها صينية مشهورة من النحاس المكفت بالفضة، نقشت عليها رسوم متشابكة على الأسلوب العربي وازدان وسطها بحلقة تحيط بشعار أسرة “أوشي ده كانيOchidiCane””من مدينة “فيرونا”.
واتبع الفن الأوربي أسلوبًا مماثلاً لأسلوب التكفيت الإسلامي، واستبدلوا الأسلاك الفضية والذهبية التي كانت تستخدم فيه، لدائن زجاجية من المينا الملونة، فأصبح فن الزخرفة بالمينا، المعروف في أوربا بصفة”CloisonneChampleve”إخراجًا مقتبسًا من فن التكفيت الإسلامي المعروف باسم”Inlay”، ولقد تجلت عبقرية الصانع المبدع في الفن الإسلامي المجرد في تزيين أغنى به القطع والمقتنيات الخاصة، بأشكال وطرق تختلف باختلاف المادة التي صنع منها سواء كان فخارًا أو زجاجًا أو معادن مسكوكة، أو أرابيسك وخشب معشق أو زجاج وخزف ملون، وغيرها من الفنون الإسلامية الكثيرة. ولقد مارس الفنان المسلم عمله بحرية مطلقة، كما يقول المستشرق والمؤرخ للفن الإسلامي “غرابار” هذه الحرية المطلقة التي جعلت أي عنصر قابلاً للتطور في أي اتجاه.وهكذا كانت للفن العربي في بداية الإسلام إمكانية نمو لا حد لها، وإمكانية تطور كبيرة تشهد عليها واجهة قصر المشتى بوضوح، وكثير من الآثار الإسلامية بالغة الضخامة كالقصور والمساجد والقلاع، وتحف فنية صغيرة ودقيقة، مما يعطي فكرة عن خاصية مميزة للفن الإسلامي في عهد تكونه، وهي (الحرية) ، فليس هناك بداية وليس هناك نهاية، وليست هناك حدود أخرى سوى إرادة الفنان.
كما نلاحظ أن الفنون الإسلامية لم تعرف تلك التفرقة بين فنون جمالية وأخرى تطبيقية، فقد كانت كل الفنون في الحضارة الإسلامية تراد لمنفعتها مثلما تراد لتحقيق غايات جمالية تساعد على تحقيق متعة بريئة للإنسان في مختلف تجليات حياته، تمثل هذا في المصحف الصغير، الذي يقرأ فيه قرآنه أو في ذلك المسجد الكبير الذي يضمه للعبادة، ولذلك عاش الإنسان المسلم فنونه، وتمثل هذه الفنون في كل وسائله الحضارية وأدواته اليومية، بل في أسلحته التي يستخدمها للحرب والقتال، ومسكوكاته المعدنية التي بواسطتها يحيا حياته الاقتصادية.
ولا أدل على صحة هذا وصدقه من أننا نجد الطابع الجمالي والعبقرية الفنية واضحة وجلية في كل مقتنيات الإنسان المسلم في الحضارة الإسلامية، تجلى هذا واضحًا في عمارة مدينته وبناء قصوره وحدائقه، وفي المنسوجات التي كان يرتديها ، وفي السجاجيد التي كان يستعملها في حياته.
اليومية أو في الحلي والمجوهرات التي كانت تقتنيها نسائه وبناته. وقد تنوعت الفنون الإسلامية، وتغلغلت في كل مناشط الحياة المختلفة، ما بين تصوير وزخرفة ونسيج ونقش على الخشب، وتشكيل في الزجاج والخزف والفسيفساء…وغيرها، وهذا التنوع يعكس تعاظم المد الفني واتساقه مع المد الثقافي والاقتصادي، وتغلغل الفن في الصناعات المعروفة بالفنون الصغرى في الحضارة الإسلامية.
الفنون الإسلامية والمعادندلت الأبحاث على أن قدماء المصريين استغلوا مناجم ومعادن تلك البلاد منذ وقت بعيد، وقد وجد الذهب قديمًا في مصر، وكانت خاماته تقع فيما بين وادي النيل والبحر الأحمر، كما وجدت عدة مراكز قديمة لاستخراجه شمال قنا وبلاد النوبة، وكانت بيزنطة تعتمد على مناجم الذهب الوارد إليها من النوبة وشمال السودان، وحينما سيطر العرب والمسلمون على تلك البلاد تدفقت إليهم تلك الكنوز الكبيرة من الذهب والفضة، فضلاً عما حصلوا عليه من أقباط مصر بعد الفتح إضافة إلي الكنوز المدفونة في المقابر الفرعونية على ما يذكر المسعودي في كتابه”مروج الذهب”.
وقد أشرفت الدولة الإسلامية في حكم الإخشيديين والفاطميين على استخراج الذهب والفضة من أرض مصر، وقد كانت خبرة المصريين عالية في صهر المعادن، وإجادتهم لتشكيل الذهب والنحاس والرصاص والفضة والبرونز والقصدير، فيرعون للمسلمين في سبيل صنع وإنتاج وصياغة كافة الأدوات والآلات المعدنية منذ فجر الإسلام ، وفي تقديم وازدهار تلك الصناعات المعدنية في عصر الفاطميين، ومن خير الأمثلة على ذلك ما قام به الصنّاع المصريون في عهد “خمارويه” بن أحمد بن طولون حينما صهروا النحاس وكسوا به أجسام النخيل، وجعلوا بين النحاس وأجساد النخيل مزاريب الرصاص ، وأجروا فيها الماء المدبر ، فجاءت في أحسن صنعة ، وما استخدمه من معادن النحاس والذهب والفضة في صناعة المرصد الفلكي، حين أراد المأمون البطائحي في عهد الآمر بأحكام الله إعادة بنائه.
وقد ذكر المقريزي أن المأمون أراد أن يستكمل ما قام به الأفضل من قبل ، وذلك حينما تم اختيار مكان الرصد فوق جبل المقطم ، وقيل إنه احتاج إلي إطلاق مائتي قنطار من النحاس البخر ، وثمانين قنطارا من النحاس القضيب الأندلسي ، وأربعين قنطارا من النحاس الأحمر ، ومن الرصاص ألف قنطار ، ومن الحطب ومن الحديد والفولاذ . وقد حضر الملك “الأفضل” صهر تلك المعادن وصبها في الأشكال المطلوبة ، وكان من جملة ما رمى به إلي الصنّاع كيس فيه ألف درهم، ولا شك أن ما تطلبته أعمال إقامة المرصد الفلكي، وما أحضر له من جميع صناع النحاس ومن سائر الصناع والمهندسين فضلاً عن تلك المقادير الكبيرة من المعادن المختلفة، توضح لنا مدى ما بلغه هؤلاء الصّناع من خبرة فائقة بصهر أنواع النحاس والحديد والفولاذ في ذلك العصر.
ولم تقتصر أعمال التعدين في مصر منذ فجر الإسلام على استخراج الذهب أو النحاس والرصاص وغيرها من أنواع الفلزات بالمعنى الحديث ، واشتغال المصريين بصهرها في المسابك وتشكيلها وفقا لما تتطلبه حاجة الصناعات المعدنية ، بل يذكر المؤرخون أنه كان من فضائل مصر وجود الأحجار الكريمة مثل الزمرد والزبرجد والياقوت واللؤلؤ وأنواع أخرى من المعادن، خاصة في منطقة الصعيد الأعلى.
ويذكر “اليعقوبي” من أنه توجد بمدينة” مجانة” بالقرب من القيروان معادن الفضة والكحل والحديد والرصاص ، كما أشار كل من الإدريسي والقزويني إلي مدينة بجاية بالمغرب الغنية بمناجم الحديد الطيب ، ويصف “القزويني”بلاد القيروان بأنها تضم معادن الفضة والحديد والنحاس والرصاص ، والذي قامت عليه كثيرا من صناعات التعدين، في غرب العالم الإسلامي.