علم الكلام والإمام

اتجه القرآن الكريم منذ البداية كان لتكريم الإنسان وتحميله الأمانة، أمانة الاستخلاف في الأرض: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30)، وأمانة المسؤوليَّة عن إعمار الأرض وإحياء مواتها والاستفادة من خيراتها، (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61)، والأمانة عهد الله بها إلى الإنسان تعبيرًا عن هذا التكريم، وبيانًا للثقة بهذا الإنسان وبقدرته على تنفيذ ما عهد الله به إليه من وفاء بالعهد وقيام بحق الاستخلاف ومحافظة على الأمانة، وإعمار للأرض وتزكية للإنسان، ووضعه على طريق السلم، وتكليفه وربط عمله وآثار العمل بالجزاء يوم القيامة.
ولم يفقد القرآن المجيد ثقته بقدرة الإنسان على القيام بذلك كله، فالإنسان قد اختار ذلك ورشح نفسه لهذه المهمة، والخالق (تبارك وتعالى) منح الإنسان هذه الفرصة، ليقوم بحق الأمانة والاستخلاف وإعمار الأرض والوفاء بعهده مع الله (جل وعلا) والنجاح في اختبار الجزاء؛ ولذلك عطف أولي الأمر على الله ورسوله عندما كلف الإنسان بالطاعة، فقال (جل شأنه): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(النساء:59)Ç

فعطف أولي الأمر على الله وعلى الرسول، فطاعة الله (جل شأنه) باعتباره الخالق المنشئ والبارئ المصور، وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره النبي الرسول، الذي يحمل رسالة الله إلى العالمين كافَّة، ويوصلها إلى البشر جميعًا، أمَّا أولوا الأمر فطاعتهم باعتبارهم ممثلين للإنسان المكلف، فهم بشر يطاعون فيما أطاعوا الله ورسوله فيه، ولا طاعة لمخلوق بعد ذلك في معصية الخالق، ولكن الفرق كبير بين طاعة الله وطاعة رسوله من ناحية، وبين طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة الإنسان (ولي الأمر).

فهناك فرق كبير، فيطاع الله بألوهيته وربوبيته، وتوحده وتفرده بالخلق والإيجاد والإنشاء، وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) مستمدة من كونه رسول الله، يبلغ الناس رسالته، فيتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وأمَّا طاعة أولياء الأمور فهم بشر ممن خلق، تحدد الغايات والمقاصد القرآنيَّة لهم الأهداف الكليَّة، والمقاصد العليا، والقيم التي عليهم أن لا يغفلوا عنها، دون أن تضفي عليهم قداسة أو عصمة، أو شيئًا من ذلك، فهم بشر ممن خلق، يطاعون بطاعة الله، ولا طاعة لهم خارج هذا الإطار، وولايتهم للأمر تكليف لا تشريف، لا تمنحهم قداسة ولا مزايا، ولا تعطيهم أيَّة أفضليَّة على البشر، فأفضل ما يأتون به اجتهاد قابل للخطأ وللصواب، والاحتكام في الخطأ والصواب ليس إليهم بل إلى الله ورسوله، وأمَّا في الأمور الاجتهاديَّة التي يغلب أن تنبثق عنها ممارساتهم فإنَّها محكومة برضى الأمَّة وانسجام آرائهم مع غاياتها ومقاصدها، مرجعيَّتها العليا إلى الله ورسوله، كان ذلك الأمر واضحًا بينًا في اتجاهات القرآن الكريم، وفي جميع الأحاديث التي بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها آيات الكتاب، وألزم الناس بها.
فالحاكم لا قداسة له، وولي الأمر لا ميزة له، والولاية تكليف لا تشريف، وهي مقيدة بمنهاج النبوة، بحيث لا يجوز لولي الأمر أن يكون فظًا غليظ القلب، ولا أن يستبد بالأمر فأمرهم شورى بينهم، ولا أن يستقل به، وليس له أن يستبد فهو مقيد بقيم ومقاصد ومسؤوليَّات أمام الله، وأمام من اختاروه لقيادتهم؛ ولذلك كان من رحمة الله بعباده أن لم يجعل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عقبًا من صلبه، فابنه إبراهيم توفي قبل أن يبلغ الحلم، وأنجب بنات -رضي الله عنهن جميعًا- لئلا يقال: إنَّ النبوة شأن بشري يُورث ويورَّث وتخرج من دائرة الاصطفاء الإلهي، والملكيَّة طاغية كانت في عالم الأمس أنَّ ابن الرجل يملك بعده، فتتحول النبوة إلى ملك، وليست اصطفاء إلهيًّا، كان ذلك بديهة من البديهيَّات، إلى أن جاء من يدَّعي أنَّ الحكم قرين النبوة، وأنَّ الحاكم ينبغي أن يكون من سلالة النبوة، وأنَّ شؤون الحكم والسياسة شؤون دينيَّة وغيبيَّة، وأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان رئيس دولة أسسها في المدينة، وأدخل ذلك حينما بدأت المعارك الإسلاميَّة تتبلور وتظهر في علم الكلام، الذي هو علم العقيدة والتوحيد، وهو بهذا الاعتبار يعد أهم العلوم الدينيَّة، وبذلك أدمجت قضايا الدنيا والسياسة بقضايا العقيدة، وخلط بين المراتب الثلاثة: (الله، الرسول، أولي الأمر)، وصارت أوامر أولي الأمر كأنَّها أوامر الله، وأوامر رسوله؛ واجبة الطاعة، لا يجوز مخالفتها ولا الخروج عليها بل ولا الاعتراض عليها، بل صادر ولي الأمر صلاحيَّات الله (جل وعلا) ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليضمها إلى صلاحيَّاته، حتى تركزت بيده جميع الصلاحيَّات، وصار يلقب ظل الله في الأرض، وترى العامَّة فيه سلطان الأرض، وكأنَّ الألوهيَّة والربوبيَّة في السماء والسلطان لدى سلطان الأرض.
وعززت تلك الأطروحات بأحاديث وضعت، وآيات أسيء تأوليها وتفسيرها، وابتلي المسلمون بأنظمة سياسيَّة عبر تاريخهم ظهر فيها الاستبداد، والترفع على البشر، والاستعلاء عليهم، وتحكم الأفراد بهم، وصار السلطان يطلق عليه ظل الله في الأرض، وما إلى ذلك، تجب طاعته ولا تجوز مخالفته، ويباح دم من يخرج عليه، أو يحاول تسديده حتى نسب إلى عبد الملك بن مروان قوله: “من قال لي اتق الله قطعت عنقه”. فكأنَّه فوق النصيحة، وأصبحت فكرة السلطان ملتصقة بجانب إلهي ولاهوتي يضفي على السلطان قداسة لا يستحقها، وبذلك أصبح باب الاستبداد مفتوحًا فالأمَّة مغيبة، وتقضى أمورها وهي غائبة مغيبة.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم***ولا يستشهدون وهم حضور
ولم تبق إلا مواعظ لا أثر لها إذا رغب السلطان أن يسمعها يسمعها باعتبارها مجرد مواعظ، وإذا ضاق بأصحابها ذرعًا منعهم أن يفعلوا وانقطع ما بين السلاطين والأمَّة فلم يعد أمرهم شورى بينهم، بل استبداد وطغيان، وتفرد ومصالح، وبدأ الفساد ينتشر بحيث لم يبق إلا الجانب القضائي سليمًا إلى حد ما، أمَّا الجانب السياسي فقد انتهى، وعززت عقوبات مثل عقوبة الردة، والحرابة، والخروج عن الجماعة، أو مفارقتها، أو التهوين من شأن السلطان وما إلى ذلك من تهم، شرعت لها قواعد فقهيَّة، وأحكام لتكريسها، والتمكين للافتئات على الأمَّة، والاستبداد بشأنها، واستخدام القمع والاضطهاد لإسكات سائر الأصوات.
فكان أول الوهن، وانتهت الفترة النبويَّة المشرقة التي علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها الناس أنَّ حكَّامهم ما هم إلا أجراء لديهم، مهمتهم خدمتهم، وإقامة الحق والعدل فيهم، والعناية بالأمانة، وإعلاء كلمة الله، والتواضع لخلقه، وخدمتهم، والإحساس بالمسؤوليَّة عن كل شأن من شؤونهم حتى قال عمر -رضي الله عنه- قولته المشهورة: “لو أنَّ جملًا على شط الفرات زلق وهلك ضياعًا لخشيت أن يسأل عنه عمر لم لم يعبد له الطريق؟”. وقال كلمته المشهورة الأخرى وهو يعاقب ابن عمرو بن العاص على استهانته بقبطي، ضرب ابن عمرو ذلك القبطي الذي قصد المدينة واشتكى هذا الرجل ابن عمرو لعمر، فاستقدم عمرو بن العاص وابنه وانتصر للقبطي ومكَّنه من الاقتصاص من ابن عمرو، ثم كشف له عن صلعة عمرو نفسه وقال له: اضرب صلعة أبيه فلو لا جاه أبيه ما ضربك. ثم التفت إلى الناس وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.
هذه الروح التي استطاع القرآن المجيد وهدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يغرسها في جيل التلقي ويغرس معها الإحساس بالحرية، والتمتع بظلها الوارف، حتى إنَّ رجلا قيل إنَّه قاتل زيد بن الخطاب شقيق عمر الذي كان من أحب الناس إليه، كان يصلي خلف عمر بعد أن أسلم فيراه عمر فيتذكر أخاه، فدعاه يومًا وقال: يا أخي إنَّني كنت أحب أخي زيد بن الخطاب، وكلما رأيتك وذكرت أنَّك قاتله، فأحس بشيء في داخلي تجاهك لا أحب أن أشعر به تجاه أي مسلم من المسلمين، قال: وبماذا تشعر يا أمير المؤمنين؟ قال أشعر بنفرة منك وشيء من الكراهية لك، وقد أمرنا أن نحب إخواننا في الدين وأن لا يكون في قلوبنا غل على أحد منهم، فليتك تبتعد عن الموقع الذي أراك فيه، قال: يا أمير المؤمنين كأنَّك تريد أن تقول إنَّك لا تحبني، قال هو ذاك، قال أتستطيع أن تهضمني من حقي شيئًا؟ قال: لا والله، قال: إذًا يا أمير المؤمنين أحببني أو ابغضني فإنَّ ذلك لا يهمني، إذا ما يفرح بالحب والبغض إلا النساء.
هذا التصورات التي ربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها أبناء جيل التلقي بدت تضعف وتضمحل إلى أن تلاشت، في العهود التالية لعهد الصحابة -رضوان الله عليهم، فنحن بحاجة اليوم ونحن نعمل على مراجعة العلوم النقليَّة والمعارف التي وضعت حول الوحي إلى إعادة الأمر إلى نصابه، وإعادة كل ما يتعلق بالسياسة إلى العلوم السياسيَّة، وإلى ما يتعلق بشؤون الأمَّة الاجتهادية، التي تعمل الأمَّة فيها بإمكاناتها على تحقيق مقاصد الدين، وتمارس حياتها الدنيويَّة بالحرية التي منَّ الله بها عليها، وتجتهد في اختيار الأصلح والأحسن، والأكثر تحقيقًا لغايات الحق من الخلق، دون ارتباط بالمعتقد، أو اللاهوت، ودون هيمنة من السياسة على الدين، أو هيمنة من فقه الدين أو التدين على السياسة.