أمام جلال الموت وسطوته يقف الناس جميعًا مستسلمين، وجلة قلوبهم خاشعة أبصارهم.. لا تَرى لهم حركة، ولا تَسمع لهم حسًّا، ينتزعهم الموت من دوّامة الحياة التي لا تكفّ عن الدوران، فإذا هُم كأنهم أمام أمر لم يكونوا يتوقعون حدوثه في أية لحظة. والعجيب أنهم يعرفون تمام المعرفة من قبل وقوعه، أنه حين يأتي لا يطرق بابًا ولا يهاب حُجّابًا ولا يستأذن أحدًا، فتلك طبيعته وخاصيّته. ومع ذلك فإنهم يبدون أمام بغتة الموت وكأنهم كانوا يتوقعون منه أن يُخالف ما عُرف به، وليس على من تصرف حسب طبيعته ملام، إنما الملام على من طلب من الأشياء غيرَ طبيعتها، وأرادها على غيرِ ما جُبلت عليه.
في التصور الإسلامي، لا تعدو لحظة الموت أن تكون مرحلة من مراحل الحياة، شأنها في ذلك شأن لحظة الميلاد، وهذه هي المراحل -باختلافها وتضادها- تُسلم الإنسان إلى أجلٍ هو بالغُه، ومستقرٍّ هو صائرٌ إليه.. لا مفرّ من ذلك ولا مهرب. ولأن الأمر هكذا، يجب ألا تشغلنا كثافةُ المعاني التي تمتلئ بها لحظة الموت -والتي بسببها يصير الناس في ذهول كما أسلفنا- عن تلمُّس العبرة والعظة، ورؤيةِ الخيط الدقيق الذي يصل ما قبل الموت بما بعده. فليس الموت نهاية التاريخ ولا ختام الحياة؛ إنما بعده حساب وجزاء وجنة أو نار. وحين يمدّ الإنسان بصره إلى ما بعد الموت، ويصله بما قبله في حلقات مترابطة وسياق واحد، فإنه لا يتوقف كثيرًا عند لحظة الموت مهما عظمت، ولا يجزع ولا ييأس عند فَقْدِ الأحبة مهما كان فَقْدهم مؤلمًا، بل يكون مشغولاً عليهم ومشفقًا مما صاروا إليه بدل أنْ يُشغَل بهم، ويحزن لهم أكثرَ مما يحزن عليهم.
إننا لا نستطيع أن نعتبر أنفسنا قد استوعبنا ما في لحظة الموت من معانٍ مكثّفة، إنْ وقفنا عند الحزن والبكاء على فقد الأحبة، ولم نتجاوز ذلك إلى استدراك ما فاتنا من خير، والاعتبار بمن سبقنا إلى دار الحق، وأصلحنا ورجعنا وتُبْنا وأنَبْنا
يحفظ لنا تراثنا واحدًا من أروع مواقف الرثاء، يعلمنا كيف يكون حالنا عند فراق الأحبة، وكيف نرى الموتَ في حقيقته ودلالته، وكيف تكون النفوسُ العامرةُ بالإيمان مطمئنة إلى قدر الله، وراضية عنه غاية الرضا.
لمَّا مات ذرّ الهمداني فجأة، جاء أبوه فوجد عياله يبكون، فقال لهم: ما لكم!؟ والله ما ظلمناه ولا قهرناه ولا ذهب لنا بحق، ولا أصابنا فيه ما أخطأ مَنْ كان قبلنا في مثله.. ولما وضعه في حفرته قال: رحمك الله يا بُني، وجعل أجري فيك لك، والله ما بكيتُ عليك وإنما بكيتُ لك، فوالله لقد كنتَ بي بارًّا، ولي نافعًا، وكنتَ لي محبًّا، وما بي إليك من وحشة، وما بي من أحد غير الله من فاقة، وما ذهبتَ لنا بعزة، وما أبقيتَ لنا من ذل، ولقد شغلنا الحزنُ لك عن الحزن عليك.. يا ذرّ، لولا هول المطلع لتمنيتُ ما صرتَ إليه، فليت شعري ماذا قلتَ، وماذا قيل لك!؟ ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك وعدتَ الصابرين على المصيبة ثوابَك ورحمتَك، اللهم وقد وهبتُ ما جعلتَ لي من الأجر إلى ذرّ صلةً مني، فلا تحرمني ولا تعرفه قبيحًا، وتجاوز عنه فإنك رحيم بي وبه، اللهم وقد وهبتُ لك إساءته لي فهب لي إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم.. اللهم إنك قد جعلتَ لكَ عليه حقًّا، وجعلتَ لي عليه حقًّا قرنته بحقك، فقلت: (اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
اللهم إني قد غفرتُ له ما قصَّرَ فيه من حقي، فاغفر له ما قصَّرَ فيه من حقك، فإنك أولى بالجود والكرم.. فلما أراد الانصراف قال: يا ذرّ! قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا عندك ما نفعناك.
في التصور الإسلامي، لا تعدو لحظة الموت أن تكون مرحلة من مراحل الحياة، شأنها في ذلك شأن لحظة الميلاد، وهذه هي المراحل تُسلم الإنسان إلى أجلٍ هو بالغُه، ومستقرٍّ هو صائرٌ إليه.. لا مفرّ من ذلك ولا مهرب.
ففي هذا الموقف الذي يفيض حزنًا وأسى بفراق فلذة الكبد، لم ينس أبو ذرّ الهمداني أن يذكِّر نفسَه وأحفادَه بحقائق هي أوضح من الشمس، لكنها قد تغيب في مثل هذه المواقف.. والصبر حقًّا عند الصدمة الأولى.
إننا لا نستطيع أن نعتبر أنفسنا قد استوعبنا ما في لحظة الموت من معانٍ مكثّفة، إنْ وقفنا عند الحزن والبكاء على فقد الأحبة، ولم نتجاوز ذلك إلى استدراك ما فاتنا من خير، والاعتبار بمن سبقنا إلى دار الحق، وأصلحنا ورجعنا وتُبْنا وأنَبْنا.. فإنْ حصل ذلك واستدركنا، كان الموت مُذكّرًا ومُنبِّهًا ومُعِينًا.. وساعتها لن يخلو من فوائد، حتى وإن فرّق الشملَ وأحزنَ القلبَ وأسال الدمعَ، وباعدَ بيننا وبين مَن نحب؛ فعزاؤنا أنْ نلتقي عند الله سبحانه، وننعم بجواره الخالد، حيث لا هَمَّ ولا حَزن ولا فراق.
(*) كاتب وباحث، وسكرتير تحرير مجلة التبيان / مصر.