كلما ذكرت كلمة “النقش” تبادر إلى الذهن الرسم والنحت والتصميم والزخرفة التي تدل على الرقة والنعومة والجمال. ولا نقش من دون نقَّاش، وكل نقش يدل على ناقشه وصانعه. ولكن ما معنى لا نقش دون نقَّاش؟

إن النقش في الشيء، دليل على علم صاحبه والقدرة والإرادة والحكمة التي يتصف بها، لأن التصميم لا يكون إلا بعلمٍ؛ ففي كل نقشة حساب دقيق وتناسب عجيب وتناغم بديع. وهل يعقل أن يَرسم الفنان رسمته دون أن يعرف من أين يبدأ الخط وأين ينهيه، وأين يضع النقطة وأين يحذفها، وأين يُمَوضِع الحدود وأين يلغيها.. أو دون أن يعلم كيف يقيم صلة تناغمية وجمالية بين عناصر تصميمه؟

قد لا يكفي العلم وحده لِوضْع النقش البديع، بل لا بد من إرفاقه بالقدرة التي تضبط له القواعد والمعايير، كما يجب على هذه القدرة أن تثبت أمام العقبات دون ضعف، وبالتالي أن تظل تُساند العلمَ حتى يبقى حركيًّا وفعَّالاً. ثم لا بد من الإرادة لتطبيق العلم والقدرة وتفعيلهما وفق الغاية والمقصد المحددَين من قِبل صاحبهما، أيْ، لن يكفي العلم والقدرة أبدًا لإنجاز المهمة دون وجود الإرادة والعزيمة. ومن ثم إذا حدث نقص في الإرادة، أو إذا تدخّل أحدهم في النظام بشكلٍ عشوائي، فلا مناص وقتئذ من أن تظهر العيوب والأخطاء والنواقص في النقوش والزخارف المصنوعة. ولا شك أن النقوش المجردة عن الحكمة، بمثابة خطوط منثورة على اللوحة فحسب، لا معنى لها في الشكل ولا في المضمون. ولكن إذا اقترنتْ هذه النقوش بصفة الحياة وتحلتْ بصفة الكلام ناطقة بلسان حالها، أي إذا تم ابتكار نقشٍ ينبض بالقدرة على التواصل الحي؛ عندها سيدرك الإنسان مدى عجزه عن محاكاة هذا النقش الحيوي، ومدى ضعفه أمام القدرة التي أبدعته.

إن الكون زاخر بالألوان الزاهية والنقوش الأخاذة.. كل واحد منها يشير إلى الذات المقدسة تعالى التي تشتمل على جواهر الأسماء الذاتية. بالأحرى، تَمتُّعنا، نَشوتنا، سعادتنا، عزمنا، ميولنا، رغبتنا، اعتزازنا، راحتنا وغيرها من الأحاسيس والأحوال.

إن الفلسفات التي ترفض الدين والخالق، تزعم أن الأرض ستبقى خالدة دون أي تغيير، كما ترى أن الحياة عليها سوف تدوم أبد الدهر، وبالتالي تتحدث بالتفاصيل المملَّة عن ماهية الموجودات وخصائص جميع الكائنات الحية والجامدة التي تعيش على تربة الأرض. بتعبير آخر؛ إن هذه الفلسفات تقوم بالتركيز على حروفِ كتاب الكون ونقوشه فقط، دون الاهتمام بالمضمون والمعنى.

إن الذي لا يعي معنى القرآن وروحه، يعتقد أنه مجرد حروف وأشكال، هذا بطبيعة الحال يَحرمه من فهم وإدراك الآيات والكائنات التي خلقتْها صفة القدرة الربانية -أو أحيتها صفة الكلام الإلهية- ومن ثم يؤدي ذلك إلى عدم الإحساس بمعانيها وعدم التمتع بروحانيتها.

إن جميع الكائنات في هذا الكون الشاسع، هي تجلٍّ لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وبرهان على جماله وبدائعه في الخلق.. كل شيء في هذا الوجود -صغيره وكبيره حيِّه وجماده- انعكاس لأسمائه الحسنى، ونقوش ملموسة معجزة، تَعرض جماله الذي يبهر الأبصار ويأخذ بالألباب. كل نقش هو نافذة أو مرآة تطل على الأسماء الإلهية. أما الذين يقرأون النقوش بمعانيها الحرفية(1)، أيْ الذين يتأملون الناقش ويسعون لمعرفته، يدركون أن الدنيا ممرٌّ للآخرة فيجعلونها معرضًا تتجلى فيه أسماء الله القدسية. وأما الذين يقرأون النقوش بمعانيها الاسمية(2)، وبالأحرى الذين يتعلقون باللفظ فقط ولا ينظرون إلى المعنى الحقيقي، ومن ثم لا يعرفون النقَّاش الحقيقي لكل شيء؛ يتمسكون بوجه الدنيا الفاني ويهدرون أوقاتهم فيها هباء منثورًا.. ولو افترضنا أنهم صاروا حِرَفيين في النقش، إلا أن تغافلهم النقَّاشَ الحقيقي، يؤدي في نهاية المطاف إلى عدم معرفتهم به، ومن ثم إلى عدم حبهم ومودتهم له.

من المعلوم أن الفلسفات والمذاهب اللادينية، تفصل بين الشاهد والغائب بل وتنكر الغائب، أو تفصل الغاية عن السبب وتقيم بحوثها على أساس فصل الغاية عن السبب، مركزة على علاقات السببية دون الاهتمام بالغايات وراء الحوادث والأشياء. إذ الإيجاد من العدم، أي إيجاد النقش بالعلم والقدرة والإرادة، وإنشاؤه بكامل ذراته وعناصره، ثم جعْله يجري بتناغمٍ مع نظام مذهل لا خلل فيه ولا فتور في حركته الدائمة المستمرة.. يدل ويؤكد على أن ثمة قوة تدير هذا النظام بحساب دقيق وبعلم لانهائي.. وكيف يُعقل أن نُسنِد الإيجاد والخلْق إلى النقش ذاته وهو جزء من كلٍّ؟ إن عقلاً منقطعًا عن القلب، أو ذكاءً نفعيًّا خاضعًا للأهواء، لا يمكن أن يرى ما يكتنزه النقش في ثناياه من معان وروح، ينظر إلى النافذة والمرآة فيعجب بهما، ولكن لا يرى الأسماء المختبئة وراءهما ولا يدرك تجلياتها، ومن ثم يُحرَم من التمتع بالجمال والروعة.

إن النقش في الشيء، دليل على علم صاحبه والقدرة والإرادة والحكمة التي يتصف بها، لأن التصميم لا يكون إلا بعلمٍ؛ ففي كل نقشة حساب دقيق وتناسب عجيب وتناغم بديع.

إن الكون زاخر بالألوان الزاهية والنقوش الأخاذة.. كل واحد منها يشير إلى الذات المقدسة تعالى التي تشتمل على جواهر الأسماء الذاتية. بالأحرى، تَمتُّعنا، نَشوتنا، سعادتنا، عزمنا، ميولنا، رغبتنا، اعتزازنا، راحتنا وغيرها من الأحاسيس والأحوال.. ما هي إلا انعكاسات لشؤونه اللانهائية، وصفاته العالية، وأسمائه الجليلة المنزَّهة عن القصور والنقصان.. إذ لولا فضله وكرمه علينا، لما استطعنا نحن بأحاسيسنا المحدودة ومشاعرنا الناقصة، أن ندرك صفاته وخصوصياته المطلقة الأزلية والأبدية.

إذن، كل فنٍّ عُرض أمام أنظارنا نحن البشر، وكل نقشة ازدانت بها الأرض التي نعيش عليها، ما هي إلا توقيع الذات القدسية المبدعة التي يَنفذ حكمها في كل شيء.

أما الإنسان فهو مرآة حية للأسماء الإلهية، ومعرض جامع تتجلى فيه شتى الألوان والنقوش.. فهو -على سبيل المثال- مرآة بخلقته لاسمي الصانع والخالق.. وهو مرآة بكماله لاسمي الرحمن والرحيم.. وهو مرآة بأخلاقه وتقلُّبه في النعم المادية والمعنوية ووقاره لاسمي الكريم واللطيف.. كما أن الإنسان بكل أعضائه وأجزائه، وبتركيبه وتصميمه البديع المعجِز، وأحاسيسه المعنوية الرهيفة وروحانيته، يعرض للعيان نقوش الأسماء الإلهية كل على حدة.. وكما يوجد ضمن الأسماء الإلهية اسمٌ معظَّم يشمل كل الأسماء ويتصدَّرها، فكذلك توجد نقشةٌ تشمل كل النقوش الكونية وتتصدَّرها، وهي الإنسان.

لذا يتوجّب علينا نحن البشر أن نسعى إلى إدراك حقيقتنا، وأن نتأمل هذه النقوش الإلهية المبثوثة أمام أنظارنا، حتى نتعرَّف على خالقها عن قرب، ومن ثم نحبه ونتقرَّب إليه عن كثب، وإلا فما الفرق بيننا وبين الكائنات الأخرى؟

الهوامش

(1) المصطلح مأخوذ من معنى الحرف في النحو، وهو أنه لا يدل على معنى في ذاته إلا إذا التصق باسم آخر.

(2) المصطلح مأخوذ من معنى الاسم في النحو، وهو الذي يدل على معنى في ذاته.