إن جهد الباحث في الوقوف على تعريف لمصطلح النظرية من خلال أمهات الكتب الفقهية في المذاهب السنية المشهورة وغيرها قد يذهب سدى، ولا يُعلم أن أحدًا من الباحثين المعاصرين قد وُفقَ في ذلك، فمصادر الفقه الإسلامي عمومًا لم تتضمن بحث المادة الفقهية على هيئة النظريات بالصورة المتداولة في الدراسات المعاصرة، وبسبب خلوها مما ذكر وباعتقاد ليس بعيدًا عن اليقين يمكن القول بأن لفظ “النظرية” يوشك أن يكون غائبًا ومنبوذًا في الكتابات والمؤلفات الفقهية عند جل الفقهاء، مع أن هذه المؤلفات هي في الحقيقة مصدر رئيس ومنبع لا محيد عنه لأصول وأسس النظريات الفقهية المستحدثة.
وقد أشار كثير من الباحثين إلى ما ذكره الدكتور السنهوري حول هذا المعطى بقوله: “إن الفقه الإسلامي في مراجعه القديمة، لا توجد فيه نظرية عامة للعقد، بل هو يستعرض العقود المسماة عقدًا عقدًا، وعلى الباحث أن يستخلص النظرية العامة للعقد من بين الأحكام المختلفة لهذه العقود المسماة، فيقف عند الأحكام المشتركة التي تسري على الكثرة الغالبة من هذه العقود”، وهو نفس الحكم الذي أورده الندوي في كتابه القواعد الفقهية حيث قال: “والواقع أن النظرية العامة ودراسة الفقه الإسلامي في نطاقها أمر مستحدث”.
إن الفقه الإسلامي في مراجعه القديمة، لا توجد فيه نظرية عامة للعقد، بل هو يستعرض العقود المسماة عقدًا عقدًا، وعلى الباحث أن يستخلص النظرية العامة للعقد من بين الأحكام المختلفة لهذه العقود المسماة، فيقف عند الأحكام المشتركة التي تسري على الكثرة الغالبة من هذه العقود.
ولا أرى هنا حاجة لعرض المفاهيم اللغوية والاصطلاحية للنظرية عمومًا، فقد قيل فيها الكثير، وإنما أقتصر على ما جاء عند الجرجاني في التعريفات، حيث قال: “النظري هو الذي يتوقف حصوله على نظر وكسب، كتصور النفس والعقل، وكالتصديق بأن العالم حادث”، فاستصحاب هذا التعريف أساسًا مفيد فيما يأتي من كلام.
المبحث الأول: الاعتراضات على اصطلاح النظرية الفقهية
من الباحثين من يعترض ويرفض هذه المسألة من أصلها، ويرى أن هذه التسمية “النظريات الفقهية” تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالنظريةُ وليدة الفكر الإنساني، والأحكام الشرعية كثيرٌ منها منصوص عليه، وليس نتاجًا للفكر الإنساني؛ لذلك كان الفقهاء أدقَّ عندما سموها أحكامًا، وكل مجموعة متجانِسة من الأحكام عقدوا لها بابًا، وبعض المعاصرين يميلون إلى تسمية هذه النظريات بنظم الإسلام، وهذا أقرب.
وتعليل ذلك عندهم، أن النظرية تقوم على أساس التنظير الفكري للإنسان، فهي وليدة نظره الصرف، أما الفقه فأساسه مُستمد من نصوص الوحي.
ومما يعترضون به أيضًا، أن هذه النظريات ليست إلا تقليدًا للقوانين الوضعية، بينما الفقه الإسلامي متفرد في أصوله وفروعه، وهو الأصل ولا ريب أن الأصول أهم من الفروع، فيلزم من ذلك تأخير التابع وتقديم المتبوع.
ويمكن أن يناقش هذا التعليل بأن الفقه – على الرغم من أنه يدور في فلك النصوص-ليس نصوصا شرعية مجردة، وإنما هو اجتهادات الفقهاء في فهمها وتفسيرها وتأويلها واستنباط الأحكام منها، إذ الفقه في الاصطلاح كما هو معلوم معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، أو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، والعلمُ المكتسبُ موقوف على النظر والاستدلال، أما النصوص الشرعية الصحيحة الثابتة المجردة عن النظر فلا تسمى فقها، بل هي مصادر وأصول يستنبط منها الفقه.
ومع أن كثيرا من الآيات والأحاديث تدل على مكانة العلماء العاملين، والفقهاء المجتهدين، وما يحظون به من شرف الدارين، من ذلك ما ورد في السنة وما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وضلوا”.
إلا أن أحدًا من أعلام الفقهاء والمجتهدين في تاريخ الإسلام، لم يدَّعِ العصمة في قول ولا حَقًّا مطلقًا في رأي ولا مذهب، ولا عُرف عنهم تعصب في ذلك، بل على النقيض من ذلك، كانوا يؤوبون إلى الحق كلما صح عندهم دليله.
مع كل ذلك، إلا أن أحدًا من أعلام الفقهاء والمجتهدين في تاريخ الإسلام، لم يدَّعِ العصمة في قول ولا حَقًّا مطلقًا في رأي ولا مذهب، ولا عُرف عنهم تعصب في ذلك، بل على النقيض من ذلك، كانوا يؤوبون إلى الحق كلما صح عندهم دليله، وقد ورد إلينا من أقوال بعضهم -رحمهم الله تعالى جميعًا- ما يعضد هذا المعنى، فمما قاله الأئمة الكبار على سبيل المثال لا الحصر:
ما نقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله أنه كان يقول: “حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم، ونرجع عنه غدا”.
وقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”، ويقول: “ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم”.
وهذا الشافعي رحمه الله تعالى يقول : “ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي”ويقول: “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت”.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: “رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار”.
وانظر بتبصر إلى هذا الفهم العميق والتحليل الدقيق من الشيخ مصطفى الزرقا، قال: “وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس، هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة…، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية، كحرمة المحرمات المطلقة، ووجوب التراضي في العقود، والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الذي يلحقه بغيره… إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها، فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان…، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة…، فالحقيقة أن الأحكام الشرعية التي تتبدل بتبدل الزمان مهما تغيرت باختلاف الزمن، فإن المبدأ الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق، وجلب المصالح ودرء المفاسد”.
فتقليد أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وابن حنبل وغيرهم من أئمة الفقهاء في أمور الطهارة والصلاة له ما يسوغه، إلا أن جانب المعاملات مثلا أمر يستحيل فيه تقليدهم مطلقًا، لعلة ليست خافية على أحد، عبر عنها الإمام الجويني رحمه الله بقوله:”لم تغشهم هواجم المحن والفتن”.
قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس، هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة…
فالمراد من هذا كله، أن اجتهاد المجتهد ينسب إليه لا للشرع، لأن كثيرًا من أحكام الفروع، إنما بنيت على إعمال النظر في النص والأثر، ثم إن كل جيل أو طبقة ممن سبق من الفقهاء قد اصطلحوا على مسميات لم تعرف بالضرورة ولم يتواضع عليها من سبقهم، كلفظ العقيدة مثلاً، باعتباره مصطلحًا وغيره كثير مما أصبح مألوفًا ومتداولاً بين أهل العلم فيما بعد، فما المانع من التوافق في شأن مصطلح بشرط التوافق على مضمونه ومحدداته التي تؤطره، مع العلم أن مصطلح “النظرية” قد وجد طريقه واستوطن مؤلفات عدد مهم من العلماء والباحثين المعاصرين.
المبحث الثاني: ضوابط النظرية الفقهية
إن المتأمل فيما سبق ذكره، لا بد أن يخلص إلى أن هناك بعض الضوابط تؤطر حقل النظرية الفقهية، ومحددات تحمي مجالها، وقيودًا تكبح جنوحها وانفلاتها، هذه الضوابط يمكن إجمالها في ما يلي:
-أن يكون موضوعها مما هو نازل بالخلق أو محتمل الوقوع.
فالتعمق في بحث المسائل التي لم تقع، أو تلك التي يبعد حصولها، والإكثار من الأسئلة على سبيل التعنت، كل ذلك لا فائدة من ورائه، بل هو شغل للنفس بما لا يرجى منه نفع، وقد كان من سيرة السلف كراهته والتحذير منه، فقد أخرج البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم، إنّما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم(، قال ابن حجر عند شرح هذا الحديث: “واستُدِل به على النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك، قال البغوي في شرح السنة: المسائل على وجهين، أحدهما ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز، بل مأمور به لقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر) ثانيهما ما كان على وجه التعنت والتكلف وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم”.
ثانيًّا: أن لا تكون فيها مخالفة لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
إن اعتبار النظرية الفقهية اجتهادًا، يلزم منه أن لا تكون مُخالِفة لحكم شرعي قطعي، سواء في عمومها أو على وجه التفصيل..
إن اعتبار النظرية الفقهية اجتهادًا، يلزم منه أن لا تكون مُخالِفة لحكم شرعي قطعي، سواء في عمومها أو على وجه التفصيل، فالقاعدة عند الأصوليين أن “لا اجتهاد مع النص”، والاجتهاد المقصود في القاعدة إنما هو الاجتهاد المخالف للنص، وأنقل هنا ما ذكره الدكتور التاويل رحمه الله تعالى حول هذه المسألة، قال: “ولكن الاجتهاد الذي نتحدث عنه ونناقشه وتمنعه هذه القاعدة وترفض الاعتراف به، وإعطاءه صفة الاجتهاد، وتقول لا اجتهاد مع النص، هو الاجتهاد المعاكس للنص، المناقض له، والمضاد لنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى النص وحي معصوم من الخطأ يفيد الحكم قطعًا، والاجتهاد رأي بشري يحتمل الخطأ ولا يفيد إلا الظن، ولا يجوز العدول عن اليقين إلى الظن، لقاعدة أنه لا تعارض بين قاطعين، ولا بين قاطع ومظنون، لوجوب تقديم المعلوم على المظنون، وكذلك الاجتهاد في فهم النص ظني الدلالة وحسن تنزيله على محل الحكم، فهذا نوع من الاجتهاد تختلف فيه الفهوم.
وإن من أوكد خصائص الأحكام القطعية في الشريعة أنها ثابتة، فلا ينبغي لعاقل الخوض فيها، يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: “الثبوت من غير زوال، فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا، ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقييدًا لإطلاقها، ولا رفعًا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببا: فهو سبب أبدًا لا يرتفع، وما كان شرطًا: فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا: فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا: فمندوب، وهكذا جميع الأحكام، فلا زوال لها، ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية: لكانت أحكامها كذلك”.
قائمة المصادر و المراجع
- أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، بدون ت ط.
- تاريخ الفقه الإسلامي، د عمر سليمان الأشقر، دار النفائس- مكتبة الفلاح، الطبعة الثالثة، 1991م.
- تاريخ دمشق لابن عساكر، تحقيق مرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ 1995م.
- التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق محمد صديق المنشاوي، طبعة دار الفضيلة، بدون ت ط.
- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر القرطبي، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط1، 1414هـ، 1994م.
- السنن الكبرى للبيهقي.
- صحيح البخاري.
- العقيدة البانية، الدكتور محمد ابياط، مطبعة أميمة، فاس، المغرب، ط1، 1437هـ 2016م.
- غياث الأمم في التيات الظلم، إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، تحقيق فؤاد عبد المنعم ومصطفى حلمي، دار الدعوة للطبع للنشر والتوزيع، الاسكندرية، بدون ت ط.
- فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة – بيروت، 1379هـ.
- القواعد الفقهية، علي أحمد الندوي، دار القلم، دمشق، ط4، 1418هـ.
- المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بدون ت ط.
- مشكاة المصابيح، الخطيب العمري، تحقيق ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1985م.
- مصادر الحق في الفقه الإسلامي، السنهوري، مطابع دار المعارف، مصر 1968م.
- منهجية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الاجتهاد مع النص، محمد التاويل، مطبعة آنفو برانت، 2013م.
- الموافقات للشاطبي، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417هـ 1997م.