إن مبدأ التعددية لا يتحقق إلا من خلال الإيمان بوجود العديد من طرق الحياة العقلانية التي تسمح لنا بأن نعيش حياة كريمة. كما يتحقق من خلال القدرة على الاختيار الحر لنمط الحياة الإنسانية الذي يليق بنا كبشر.
سنرى من خلال هذه التأملات كيف أن الخيار الأمثل يتمثل في السعي إلى صياغة نظرية معاصرة تنتهج نهجا وسطا للتوفيق بين كلا الاتجاهين، من منطلق أن وحدة الدولة لا تقتضي أُحادية ثقافة المجتمع، وأن التنوع الثقافي لا يفضي بالضرورة إلى تشظية الدولة وانقسامها. وتعرف هذه النظرية بتسمية “التعددية الثقافية” Multiculturalisme. وهي من قبيل نظريات ما بعد الحداثة التي تتميز بتركيزها على أهمية الوعي بالذات الجماعية..
إن مبدأ التعددية لا يتحقق إلا من خلال الإيمان بوجود العديد من طرق الحياة العقلانية التي تسمح لنا بأن نعيش حياة كريمة. كما يتحقق من خلال القدرة على الاختيار الحر لنمط الحياة الإنسانية الذي يليق بنا كبشر. علما أن التعددية والتنوع إنما يكونان في إطار الوحدة الجامعة والروابط المشتركة؛ فالشرائع المتعددة، على سبيل المثال، “لا تتأتى تعدديتها إلا في إطار الدين الواحد، والحضارات المتعددة لا تتأتى تعدديتها إلا في إطار المشترك الإنساني العام. وبذلك، فإن التعددية هي تنوع قائم على تميز وخصوصية، فهي لا يمكن أن توجد إلا بالمقارنة بالوحدة وضمن إطارها، فلا يمكن إطلاق التعددية على التشرذم والقطيعة التي لا جامع لآحادها، ولا على الأحادية التي لا أجزاء لها”.
ضمن هذا المنظور، يوظف المفهوم باعتباره مفهوما جامعا يستبطن مجموعة كبيرة من السياسات المعنية بتوفير مستوى معين من الاعتراف الرسمي والدعم للجماعات الفرعية غير المهيمنة، سواء أكانت تلك الجماعات من المهاجرين أو الأقليات القومية أو السكان الأصليين.
تستخدم الأدبيات المعاصرة مصطلح “التعددية الثقافية” كمصطلح شامل يغطي مساحة واسعة من السياسات التي تستهدف توفير مستوى معين من الاعتراف العام، ومساندة مختلف الثقافات الفرعية الأمر الذي يستوجب بلورة أنواع مختلفة من السياسات لأنواع مختلفة من الجماعات الثقافية الفرعية.. وهكذا يتصل مفهوم التعددية الثقافية اتصالا وثيقا بمفهوم “سياسة الاختلاف”، وهو المفهوم الذي بمقتضاه يتعين “معاملة الأشخاص المختلفين بشكل مختلف نسبيا وفقا لثقافتهم المميزة.”
تستخدم الأدبيات المعاصرة مصطلح “التعددية الثقافية” كمصطلح شامل يغطي مساحة واسعة من السياسات التي تستهدف توفير مستوى معين من الاعتراف العام، ومساندة مختلف الثقافات الفرعية الأمر
كما أن التعددية الثقافية تقوم على افتراض أن سياسات الاعتراف ومساندة التنوع الثقافي من شأنها أن “توسع مجال الحرية البشرية” و”تقوي الحقوق الإنسانية”، وتخفف من التراتبية العرقية والعنصرية، وتعمق الديمقراطية والعيش المشترك.
ومع ذلك، فإن التعددية الثقافية، من منظور ليبرالي، تعد ظاهرة أكثر تعقيدا مما يعتقد الكثيرون، وهي ليست مبدأ واحدا أو سياسة واحدة، وإنما هي مظلة تستوعب أساليب تختلف بشكل كبير من تجربة إلى أخرى، كما أن كل واحد من هذه الأساليب يتميز بتعدد أبعاده وتعقدها، مثلما تتميز بتعدد تطبيقاته.
والدليل على ذلك أن تطبيقات التعددية الثقافية لم تعد تنحصر في الأبحاث والدراسات الثقافية والفلسفية، وإنما تعدت ذلك إلى الجوانب التربوية والتعليمية، حيث جهد دعاة التعددية الثقافية لإحداث تغييرات عميقة في طريقة تفكير المجتمعات الغربية وتعاملها مع الأقليات القومية والإثنية والدينية، ثم تحويل طروحات المساواة الثقافية والنسبية الثقافية والحقوق الجماعية وغيرها إلى فلسفة عامة لهذه المجتمعات، لتنعكس مضامينها الفكرية في الحياة اليومية، لتغدو التعددية الثقافية، تبعا لذلك، بمثابة منهج للحياة والتفكير، لا مجرد طريقة لتدبير التنوع الثقافي.
المصدر: مـــســارات، للرصد والدراســـات الاستشـــرافية
رئيس تحرير مجلة الإحياء
أستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس/ السويسي / سلا