ومضات خلف أستار الغيب

أودع الله عز وجل في الوجود أسرارًا وحكمًا للمتبصرين، ما تفتأ تنجلي كل برهة فتذكر الإنسان بغاية وجوده ومنتهى أمله، وجعل سبحانه لأولئك المتبصرين سبلاً للإسراء والعروج بأرواحهم وفكرهم، ومكنهم من الفهوم والعلوم ما يستقوون به على تلمس فيوض رحمته ومسكوب محبته التي ملأت الأرجاء.

وإن من تلك الأسرار المخفية التي تستجلب النظر والاعتبار، ما طواه عالم الغيب من عجائب وأسرار، مما لا عين رأته ولا أذن سمعته، ولا جارحة من جوارحنا لامسته وعاينته، ومما لا سبيل إلى معرفة تفاصيله وخبر معالمه، إلا الخبر اليقيني الصادق الصادر عن رب العزة والجبروت، وعن المعصوم عن الزلل والنعوت، صاحب الشريعة والبرهان، وسيد الخلائق والثقلين، محمد عليه أزكى الصلاة والسلام.

الغيب قضيتنا الكبرى

عالم الغيب هو القضية الكبرى التي أعطت المعنى لوجودنا، وصيرته وجودًا معقولاً، ووجهت الإنسان نحو آماله البعيدة، إنها القضية التي حولها ينتظم كل شيء مما وصل إلى مداركنا أو لم يصل؛ من ظواهر جليات أو منازل خفيات، وأنى لنا أن نفهم شيئًا من حركية الكائنات ودورانها في الأفلاك، وزفرة أنفاسها وأجيج تسبيحها، وسريان الزمان بنا واتساع الآفاق من حولنا، وتفاوت المراتب والدرجات بين الموحدين الموقنين، وتباين تهافت المشككين والقضية التي حولها نرمي البيان غائبة أو منسية، وأنى لها أن تنسى وهي التي تمتزج بجوارحنا، وتخيم على الروح والفكر في جولاتنا و مراقدنا ومناسكنا.

هي القضية التي على بداهتها ومعقوليتها لدى الفطر، وجلاء أنوارها في القلوب، ما تفتأ تفترق حولها الفهوم بين جاحد منكر لبراهينها، وغال منسج للخيالات والتُرُّهات حولها، وكل ذاك لا وزن له أمام حججها الساطعة المدوية في الآفاق والمدونة في كتاب السماء .

إن عالم الغيب المنتظر حقيقة كونية حتمية كالشمس لاحت للرائي وهي في كبد السماء، وإن حجبتها كتل الغيوم في بعض الفترات، بإجالة النظر في تلك العوالم المخفيات يستقيم فهمنا للوجود، وتنتظم كل العشوائيات في الاعتقاد التي تربعت على فهوم الكثير، وصاغت لهم طلاسم المصير، وحجبتهم عن تبصر دلائل الغيب الحق المبثوثة في الموجودات وعلى رأسها الإنسان المليء بالأسرار؛ إذ ما هو إلا عمق غيبي، المستور والمجهول فيه أكثر بكثير من المشهود، و تنكشف عجائبه تباعًا بين حين وآخر، وتزيدنا يقينا على تعلق هذا الكائن الفريد بالغيب الذي منه أتينا وإليه نعود.

الغيب بغية الإنسان ولا مناص له عنه أو فكاك، وإن تعامى ولم يتبصر ما خلف الأستار، وحين يأبى إلا أن يعيش منعزلاً عن تلك العوامل المخفيات، ويستقي الفهم من نزواته العابرة، يعيش بعيدا عن بغيته، مغرورًا بما يلمح من أشياء وألوان قصيرة المدى، حاله في ذلك كحال من يقف مبتهجا، وينظر مستمتعًا إلى أمواج البحر التي تأتيه كالجبال، ولكن لا يخبر شيئًا عن كنوزه الدفينة في أعماقه اللجية، وما يكتنزه من حياة وياقوت ومرجان.

المقاصد الجليات من أستار الغيبيات

قد يعترض المكابر لماذا حجب عنا الغيب؟ فالأولى أن ينكشف لدينا أن ثمة وجود فعلي لتلك العوالم، وأي حكمة تطويها أستار الغيوب؟ إلا أن تزيد الإنسان ارتباكًا وتشكيكًا وهوسًا في عالم لم يتلمسه، و هو مأمور أن يؤمن به إيمانًا راسخًا؟

وجوابًا عن هذا الاعتراض المحتشم أمام طوفان الدلائل القطعية وكبرى اليقينيات الكونية، أن دلائل الغيب في الوجود بعدد حبات الرمال أو أكثر وحين نعمق الفكر فيها تكاد ترتفع تلك الحجب ارتفاعًا كلما تجاوز الإنسان مسافات من التبصر الذي يرقيه درجات اليقين.

إن في حجب تلك العوالم حكمًا قد لا نستشعرها إذا حكمنا أنفسنا بمقاييس العالم المشهود، و سيجنا حدودنا بحدود عالمنا الضئيل، لعله إذا انكشف نزر من ذاك الجمال طاشت العقول وأحرقت الأجساد سبحات الأنوار، فرحمة بالخلق حجب الغيب عنا لأن كياننا لا يحتمل، ولأننا في قبضة زمان ومكان معقول، فكيف بمن فوق الزمان والمكان والأبعاد غير المعقولة؟

إن عقولنا التي بها نرى بعضا من أنوار المعارف من الضحالة والصغر؛ بحيث قد تنطفئ شعلتها حين ينكشف أمامها أول طيف من أطياف تلك الغيوب انكشــافًا، و لعــل ما في ذاك العالم من مرئيات و مطـعومات وسروج ومراكب ومن حمم مسعرة، وسلاسل وأغلال، وأهوال وسجون مقفرة… ما يمكن أن يبدد كل ذرة في كياننا، ويبخر كل عضو فينا، في طرف العين لو سقط حجاب واحد من حجبه، وعاينته أجسادنا الضئيلة في محله.

كيف نقوى ونحن بنواميس الحياة الدنيا أن نستنشق رحيق الجنان، لعل في طيبوبة تلك النسائم والتي توجد على مسافة كذا وكذا ما ينسينا كل ما ندركه في دنيانا من نسائم؟ كيف نتذوق حلاوة تلك الثمار وقد علمنا أن بعضها ينسيك في الأخرى؟ كيف تستقيم لدينا أذواق الثمار في دنيانا إن قضمنا شيئًا من تلك الثمار المخفيات؟ وأنى لنا أن نطرب بخرير تلك الأنهار وحفيف تلكم الأشجار، ولما يؤذن لنا بالرحيل والولوج لفضاءات تلك الجنان والبساتين الخضراء الغراء؟ هل يبقي الاطلاع على تلك العوالم أي طعم للحياة التي نحياها، وكلفنا فيها أن نعمل وندخر منها ما قد يوصلنا لذاك النعيم؟

وبالمقابل هل نقوى على الاطلاع على أهوال الجحيم، وقلوبنا تكاد تخترق صدرونا أمام أصوات الرعود، وقد أهلك الله أقوامًا بصحية؟ كيف لا وأبصارنا تسكر في الدنيا ونسحر أمام عجائب السماوات التي ليس غيبا مطلقا، ولما تنكشف عنا كل أستارها رغم الارتقاء في العلوم والإدراك الذي بلغه إنسان الدهر.

لكل هذا وذاك كان مستحيلاً وألف مستحيل أن نرى شيئًا، أو نسمع شيئًا، أو نضطلع على شيء من تلك الغيوب بحواسنا القاصرة، إلا ما وصلنا من الوحي وخبر المعصوم عليه السلام، وإلا لماذا كلفنا أن نؤمن؟ وأي معنى لاختبارنا بالإيمان الذي لا يبقى له أي اعتبار لدى الجبار حين يسقط عنا كل الحجب؟ ومن ظن أنه بمقدوره أن يطلع على شيء، دون أن يكون نبيًّا مرسلاً، فهو يخرف من حيث يظن أن يستشرف تلك العوالم، وما أكثر الخرافيين الذين يؤمنون بكل شيء، وما أكثر الماديين الذين لا يسلمون بأي شيء.

إن المؤمن العارف بأسرار الله في الخلق لا يستحوذ عليه مثل هذا الاعتراض ما دام يتلمس جريان رحمة الله عليه، وكيف أنها لا تنبث عنه أو تفارقه في كل لحظة يحياها في عالم دنياه، وأزكى تلك الرحمات أن ستر عليه أهوال الغيوب النسبية لأنه لم يهيأ لمشاهدتها؛ إذ فليس كل ما في عالم الدنيا مشاهدا ومدركا لما فيها من الفزع والرعب ما لا يستوعبه كيان بني آدم الضعيف، فكيف بالمستور من عالم الغيب المطلق الذي بمجرد أن خبرنا عنه في القرآن رقت قلوبنا وخشعت جوارحنا لأهواله.

ثم إن الجميل في الغيب أنه غيب، ففي خفائه وستره عنا يكتنز عناصر جماله وبهائه التي إليها تشرئب الأعناق، وفي حجبه يتفتق الوله إلى محاسنه، وفي منازله ودرجات جنانه يطمع كل لبيب، وتتبخر لديه كل الأطماع الدنيوية الدنيئة حين يتذكر أفراح تلك البلاد، أما المكشوف من المحاسن ما يلبث تمله الأذواق التي تعشق الخفاء، وصفحات الكون برهان على تطابق الجمال مع الكساء في دنيانا حتى والتي ليست غيبًا مطلقًا.

إن شذرات الغيوب حين تلقى على القلوب يرق لها الفؤاد الملآن باليقين، الولهان إلى رحاب الجنان، وحسبك بمغمض الأجفان، زهيد الإيمان، وبليد الأفهام، حين تستحيل لديه ظلمات حاجبات لعرض الآفاق، فلا يبصر المسكين إلا الحدود التي ألقت بظلالها فيراها منتهى الأمل.

لقد حبا الله بعض خلقه بمستويات اليقين أزاحت عنهم كل الغيوم، و بددت لديهم كل الشكوك، وصار ما ينتظرهم من عالم الغيب كأنهم يعاينونه في حياتهم الدنيا، يختلط بفكرهم ويمتزج بجوارهم، فلا يفتر عنهم التذكر والاتعاظ، ولا يفارقهم الوجل والشوق للقاء الحق سبحانه الذي يعتبر لديهم منتهى الغرض والطلب وأسمى ما في الغيب، وصفوتهم الموقنين المخبتين، والأنباء المصطفين الأخيار عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة والتسليم.

فهذا موسى عليه السلام حين تجلى ربه للجبل أيقن أن لا مطمع في أن يخرق كل حجب الغيب مادام محكوما بنواميس عالم الشهادة، وأيقن أن وراء أستار الغيب ما لا يحتمله كيانه الضعيف: (فلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين)(الأعراف : 143)، وفي قصته مع الخضر شواهد أخرى على معاينته لأحداث غيبية، لم يستطع عليها صبرا وهو الذي بلغ مبلغ الإيمان الذي جعله كليم الله.

وحسبك بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بلغ مبلغًا عظيمًا من الاطلاع على عالم الغيب، لم يبلغه نبي قبله ولا إنسان بعده، ولك في معراجه إلى العلى ما يروي الظمآن إلى الاطلاع على تلك العوالم.

كلما توسع إدراك الإنسان للغيب وفهم ذاك النزر القليل الذي باستطاعتنا فهمه وإدراكه، كلما استوعب أكثر نواميس الحياة الدنيا التي نحياها، واطلع أكثر على ضحالتها وصغرها أمام العوالم الأخرى الخفيات، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعرف الخلق بالله وأعلم الخلق بالغيب، فكان بذلك أعرف الناس بنواميس الحياة وأفهمهم لقوانينها وأدركهم لدنوها وحقارتها، كيف لا؟ وهو الذي خرج عن نطاق الزمان والمكان المدرك حين عرج به إلى أبعد مدى وهو سدرة المنتهى.