من تجليات مفهوم القراءة في القرآن الكريم

ليس من باب الترف الفكري البحث في مفاهيم القرآن الكريم. فالوحي مجموعة مفاهيم إذا ضُبطت ضُبط الدين. وبناء المفاهيم ضرورة حضارية، وفرض من فروض الكفاية الذي إذا لم يقم به أحد أثم الجميع.

إن المفاهيم القرآنية ليست ألفاظًا كباقي الألفاظ البشرية، إنها مستودعات كبرى للمعاني والدلالات… فقد تتكثف في مفهوم واحد ثقافة كاملة أو حضارة كاملة أو تاريخ بأجمعه، وهذا ما يتجلى من خلال الحظ وتتبع مفهوم القراءة في القرآن. فلقد كان أول ما نزل من الوحي هو الأمر بالقراءة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق:1-5)، ومن هذا الأمر تشكلت العقيدة والفكر والمجتمع ثم الأمة وبعدها الحضارة الإسلامية، واستمر البناء والتشييد الحضاريين باستمرار امتثالاً لهذا الأمر الإلهي الأول، وبهذا بلغت الأمة الإسلامية الشهود الحضاري، ودَعّم شهودَها هذا استمدادُها من قراءة مزدوجة للكتابين؛ المسطور والمنظور جنبًا إلى جنب. فكلما انحسر فعل القراءة في طرف دون الآخر توقّف البناء والعمران، أو حدث الاختلال والطغيان كما هو حاصل في الحضارة المادية.

فقراءةٌ هذا دورها وهذه فعاليتها، ليست بالمفهوم الشائع والمتداول للقراءة، فأول ما يتبادر إلى الأذهان عند سماع عبارة قراءة القرآن هو الجانب الصوتي وما له من أحكام وقواعد من ترقيق وتفخيم وغنة وإدغام وغير ذلك -مع أهميته- أو هو ترديد الكلمات عن طريق الشفاه دون عناء أو تكليف لإدراك كنه تلك الكلمات.

ثم لماذا انحصرت القراءة فيما هو مسطور (الكتاب المسطور/الوحي)، وغيبت قراءة المنظور (الكتاب المنظور/الكون بكل ما بث فيه من خلائق).

إن أسئلة مثل هذه وغيرها، دفعت بنا إلى تتبع مفهوم القراءة في بيئته القرآنية حتى يتسنى لنا -بإذن الله- بيان معانيه ودلالاته وفكه من الانحسار الذي أصابه.
فمادة “قرأ” في اللغة تدور على أصل واحد هو الجمع والاجتماع، ومنه القرآن سمي بذلك؛ لجمعه تراث النبوات وثمرة علوم الأولين والآخرين، ولاجتماع الناس/الأمة حوله.

وبلحظنا لعملية القراءة، نجدها تتركب من مجموعة عمليات: نظر وتدبر وتفكر وعقل وتتبع… وغير ذلك مما يُفعّل عملية القراءة ويوصلها إلى الغرض المقصود الذي هو تحصيل العلم والمعرفة اللذين بهما تتحقق مهمة الاستخلاف والعبودية في الأرض. فالقراءة في القرآن ليست أمرًا كما اتفق، بل هي ذات محددات وصفات ومجالات.

محددات القراءة

سنفرد بالكلام محددًا واحدًا نراه من أهم المحددات المنهاجية وآكدها، قال عز وجل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾(العلق:1-3)؛ يتبين من خلال الآيات أن القراءة يجب أن تكون باسم الله ومع استحضار الله، فهو استحضار دائم للعناية الربانية بهذا المخلوق الذي خلق وهو لا يعلم شيئًا: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(النحل:78). فالإنسان مدين لله في خلقه وعلمه ومعرفته، وهو بذلك غير مستغن عن الله عز وجل بل هو دائمًا، في حاجة إلى المدد الإلهي والفتح الرباني، ومن ظن أنه مستغن عن الله في تحصيله المعرفي فهو طاغ في الأرض ظالم لنفسه.

فالقراءة باسم الله ومع الله تنتج حضارة ربانية قرآنية، حضارةً قلبها التوحيد، وطابعها التزكية، وهدفها العمران والصلاح في الأرض. والقراءة المستغنية عن الله، هي قراءة إلحادية تكفر نعم الله، إلا أنها رغم ذلك تنتج حضارة، حضارة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لأنها تفتقر إلى الرشد الرباني القرآني.

فالربانية في القراءة باسم الله ومع استحضار الله، هي بمثابة عاصم من الوقوع في حبائل الشيطان وسبله ومكايده، إنها تهدي إلى الرشد والصلاح وتسير بالإنسان سويًّا على الصراط المستقيم.

صفات القراءة

1- صفة البشرية: إن هذا الوحي أُنزل إلى الإنسان -أولاً وأخيرًا- ليهتدي به ويعمله في مجاله، والاهتداء به لا يمكن أن يتحصل بدون القراءة والفهم والفقه عن الله عز وجل كلامه وخطابه. فالإنسان هو المكلف بالقراءة لما زود به من مؤهلات تمكّنه من ذلك.

ومن خصائص هذه القراءة البشرية النسبية، ذلك أن قدرات وطاقات الإنسان محدودة مهما بلغت، وكل ما ينتجه من علم ومعرفة هو محدود كذلك بالنسبة لعلم الله عز وجل المطلق: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾(يوسف:76) ليبقى الإنسان ينشد الكمال ويبحث عن الحقيقة. “وليس كما يزعم دعاة الحضارة الغربية الذين يقوم فكرهم على أساس طغيان معرفة الإنسان، وهو ما عرف بالفاوستيه وتعني عبقرية الإنسان وقدرته على اكتشاف المجهول مهما بلغ هذا المجهول من خفاء، ولكون الإنسان قد أدهش بإنجازاته الضئيلة، فإنه غير قادر على تفهم معنى العناية الإلهية به، رغم أنه لا يزال في حضيض المعرفة فيما لو علم أن ما تم اكتشافه حتى اليوم، ليس شيئًا بإزاء غوامض وأسرار عالم الشهادة، فكيف بعالم الغيب؟!”.(1)

2- صفة الاستمرار والتجدد: قال عز وجل: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾(الأعلى:6-7).

يقول الطاهر بن عاشور: “والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصته إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد، وذلك تأكيد لحصوله، وإذا كان قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى﴾ إقراءً، فالسين دالة على أن الإقراء يستمر ويتجدد”.(2)

إن من خصائص الوحي أنه مكنون تتكشف معانيه عبر الزمن وحسب الطلب وحسن صياغة السؤال، فمعانيه غير منتهية وإن كانت ألفاظه منتهية: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾(الكهف:109)، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(لقمان:27). ومن خصائص الكون وهو الكتاب المعادل للوحي، أن حقائقه غير منتهية -كذلك- بالنسبة للإنسان. أما الله عز وجل فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ولو كان مثقال ذرة أو حبة خردل. هذا اللاتناهي هو السبب في استمرار وتجدد القراءة وفي تراكم العلم والمعرفة ليستوعب اللاحق السابق فيبني عليه أو يتجاوزه.

مجالات القراءة

تتعدد مجالات القراءة بتعدد موضوعاتها، إلا أنه يمكن جمع هذه الموضوعات في ثلاثة مجالات كبرى هي: مجال الوحي، ومجال الكون، ومجال الإنسان. فهي مجالات كلها تخدم هذا الأخير مجتمعة، وكلها تستقي من نبع المجال الأول وتنضبط بضابطه.

1- مجال الوحي: يعتبر الوحي مجال القراءة ومصدرها، فأول ما نزل منه هو الأمر بالقراءة في كافة المجالات التي ذكرناها. فمجال الوحي أوسع المجالات وأشملها باعتباره يستوعب الإنسان والكون، الزمان والمكان، عالم الغيب والشهادة.

فالوحي يقدم التصورات عن الله والآخرة، والملائكة، والرسل والرسالات، ويفتح عقل الإنسان وقلبه على الوحي في مجمله -من بدايته إلى منتهاه- والعلاقة بين الرسل والرسالات، وحقيقة الدين ومنتهاه. وهذه التصورات لا سبيل إلى إدراكها إلا عبر طريق الوحي.

ويقدم الوحي التصور عن الكون والخلائق المبثوثة فيه مما يدركه الإنسان وما لا يدركه، وعن العلاقات التي تربط هذه المخلوقات فيما بينها (كعلاقة السماء والجبال بالأرض وغير ذلك) وعلاقة المخلوقات كلها بالإنسان، وعلاقة الكون بالوحي.

كما يقدم التصورَ عن الإنسان، طبيعته وحقيقته، نفسه وروحه، مداخله المعرفية والنفسية، مكامن القوة فيه والضعف، أحواله وتقلباتها، وعلاقته بالله وبوحيه، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون.

ويقدم الوحي التصورَ عن الحياة، وهي مسرح تفاعل الوحي والإنسان والكون، عن ماهيتها وبما تصلح وبما تفسد، عن تقلباتها وابتلاءاتها وغير ذلك.

فالوحي يقدم التصور العام الشامل عن كل من الكون والإنسان والحياة، أما تفاصيل الأمور ودقائقها، فمتروك للإنسان اكتشافها ومعرفتها من خلال اتصاله بهذه العناصر وإقباله عليها، وباستفراغ جهده ووسعه وتوظيف حواسه وقدراته المعرفية في الإحاطة بها.

2- مجال الكون: إذا كان الوحي كلام الله المسطور، فإن الكون كلام الله المنظور: ﴿فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(غافر:68). وكل مخلوقات الكون تعمل بوحي من الله عز وجل: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(فصلت:11)، ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾(النحل:68)، ﴿وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(الرعد:15). وفي الكون تتجلى مجموعة من الحقائق التي وجه القرآن الإنسان إلى النظر فيها لمعرفتها وإدراكها ليحصل له اليقين، لأن النظر في الكون يقود إلى الإيمان. لكن هذا الأخير لا يكتمل إلا من خلال النظر في الوحي، لأنه هو الذي يقدم التصور الشامل للأشياء، وقد سبق أن قلنا بأن الوحي يقدم تصورًا شاملاً عن الكون وعلاقته بالإنسان التي هي علاقة تسخير، فعليه أن يبذل جهده ويشغل حواسه وقلبه في اكتشاف سنن التسخير وفقهها للانتفاع بمفردات الكون، فما من مخلوق في هذا الكون إلا وخلق لغاية وهدف، ولم يخلق الله عز وجل شيئًا عبثًا.

3- مجال الإنسان: تنقسم القراءة في مجال الإنسان إلى قسمين: قسم يخص الإنسان في ذاته فردًا ثم مجتمعًا، والآخر يخص منتوج الإنسان المعرفي، أي ما خلفه البشر من معارف وعلوم، من خلال قراءتهم في مجال الوحي والكون والإنسان.

فالقسم الأول قراءته واجبة، لأن الإنسان هو المكلف بالاستخلاف في هذا الكون، ولا يمكن أن تقوم مهمة الاستخلاف كما أرادها الله بمنأى ومعزل عن الوحي. ومن هنا تأتي مهمة الإنسان المكلف بإدخال الوحي في مجال الإنسان والحياة. ولكي يتحقق هذا، وجب معرفة المداخل والمنافذ التي منها يمكن إدخال الوحي وإنفاذه، ويمكن أن تتمثل في: معرفة معتقدات الإنسان (تصوراته عن الله والإنسان والكون)، وقربه أو بعده من الفطرة، بعده أو قربه من الوحي، عاداته وتقاليده وأعرافه، تاريخه، علاقاته، أفكاره… مما يستعان به في استمالته وإقناعه لإعادة تشكيله وصياغته بالوحي.

أما القسم الآخر فتجب قراءته، لأن الإنسان تكاملي في ذاته ومع بني جنسه، فكما أن الرسالات السماوية كانت تكاملية عبر الأزمنة والأمكنة، فإن المعرفة البشرية تكاملية هي بدورها عبر الأزمنة والأمكنة، وليست هناك معرفة بشرية مطلقة يمكن الوقوف عندها وعدم تجاوزها، بل الإنسان في اكتشاف واكتساب مستمر للعلوم والمعارف، لأن العلم والمعرفة يبنيان أولاً على التعليم الإلهي للإنسان ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(البقرة:31) ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العَلَق:4-5)، ثم على العلوم والمعارف السابقة. وقراءة هذا التراث البشري المعرفي، هي قراءة استيعاب وتجاوز في إطار تصديق الوحي وهيمنته.

هكذا هي إذن هذه المجالات (الكون، الوحي، الإنسان) تبدو لأول وهلة أنها مستقلة بعضها عن البعض، لكن بعد النظر إليها جميعًا يتجلى ما بينها من تناغم وتواشج وتواؤم حتى تتسرب إلى ذهن الناظر قناعة بأنها لا يمكن أن توجد إلا مجتمعة. فلا يمكن تصور إنسان بلا مجال يسرح فيه ويوفر له حاجاته المعيشية والجمالية، كما لا يمكن تصورهما معًا (الإنسان والمجال/الكون) بدون وحي يقدم للإنسان التصورات عن نفسه وحقيقتها، وعن الكون وعلاقته به، ويرشد سلوك الإنسان ويهديه للتي هي أقوم.
فمن هنا تبرز وظيفة القراءة ودورها في تجلية هذا الناظم المنهجي لهذه المجالات حتى يكون سعي الإنسان مشكورًا في الأرض والسماء، فالقراءة ينبوع العطاء وينبوع كل المكاسب، ومكسب القراءة المباشر هو العلم والمعرفة، العلم بالوحي وبالكون وبالإنسان، وبهذه العلوم يعبد الله ويوحد -فمعرفة الله عز وجل هي رأس المعارف والعلوم- وبها تكون الشهادة على الناس، وبها يتحقق العمران، وبها تزكو الحياة وتستقيم. وبهذا تكون وظيفة القراءة هي تحقيق التوحيد والتزكية والعمران، وإن كان التوحيد يغني عما وراءه لأنه إذا تحقق التوحيد تحقق بالتبع العمران والتزكية، فالتوحيد رأس الأمر كله، وهو “بالعبارة البسيطة المتوارثة الاعتقاد والشهادة أن “أن لا إله إلا الله”. وهذا القول بصيغة النفي، الموجز أشد الإيجاز، يحمل أعظم المعاني وأغناها في الإسلام قاطبة. وقد تتكثف في جملة واحدة ثقافة كاملة أو حضارة كاملة أو تاريخ بأجمعه. وهذا بالتأكيد ما نجده في “الكلمة” أو “الشهادة” في الإسلام. فكل ما في الإسلام من تنوع وغنى وتاريخ وثقافة ومعرفة وحكمة وحضارة، يجتمع في هذه الجملة البالغة القصر: “لا إله إلا الله”.(3)

أ-التوحيد: مدار التوحيد على شهادة “لا إله إلا الله”، وهذه الشهادة تعني الإيمان بأن الله هو الخالق الذي أعطى كل شيء خلقه فسوى، والذي قدر فهدى، والذي إليه يرجع الخلق وإليه يصير، المنزه عن كل ما يعرض للخلق ويتصف به. والإيمان بهذه الشهادة عن فهم وفقه، وإنما يتحصل الفهم والفقه من النظر في آيات الوحي وآيات الأنفس والآفاق، وذلك “يؤدي إلى إدراك أن جميع ما يحيط بنا من أشياء وأحداث، وكل ما يجري في الميادين الطبيعية والاجتماعية والنفسية هو من عمل الله، وتنفيذ لغاية من غاياته. وعندما يتم هذا الإدراك يغدو طبيعة ثانية للإنسان، لا تنفصل عنه طوال ساعات يقظته، فيعيش المرء كل لحظات حياته في ظل هذا الإدراك… ويترتب عن ذلك بالضرورة القول إن التوحيد يفيد إلغاء أية قوة فاعلة في الطبيعة إلى جانب الله، الذي تكون مبادرته الأزلية هي القوانين الثانية في الطبيعة… فهو يجمع كافة خيوط السببية ويعيدها إلى الله لا إلى القوى الخفية، وبذلك تنزع صفة القداسة عن مجالات الطبيعة وترجع إلى الله فلا قدسية لسواه، فهو القاهر فوق عباده ومخلوقاته”.(4)

بـ-التزكية: تزكو النفس البشرية عن طريق القراءة، وذلك بمعرفتها حقيقة الوجود فتتجه نحو ربها خالق الوجود الحق، تنشده في كل وقت وحين، وتنبذ الهوى وتبعد الشيطان عن مجال حركتها وسعيها، وتبتعد عن الباطل والشرك والآثام. وتعرف أن الكون يسير عبر قوانين وسنن ثابتة ومنضبطة لا تتخلف، فتبتعد في تفسير الظواهر الكونية والإنسانية عن الخرافة والشعوذة والأساطير الباطلة. وتعلم أن الوحي نازل من خالق الكون والإنسان فتعرف أن الذي خلق أعلم بمن خلق، وأعلم بما يصلح وما يفسد الخلق، ما يزكي الحياة وما يدسيها، فتقبل عليه طالبة الرشد والهدى والصلاح في شتى مناحي الحياة. فإذا زكت النفس والحياة البشريتان، انصلحت أحوال القلوب، وتراجعت حظوظ النفس وشهواتها لصالح نماء المجتمع والعالم، ثم تحقق العمران الذي هو غاية الخلق.

جـ-العمران الحضاري: لما أراد الله عز وجل أن يستخلف الإنسان في الأرض قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(البقرة:30-31). ويقول الله عز وجل: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(هود:61) وقوله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(الروم:9). غاية الاستخلاف في الأرض عمارتها، فالعمران نقيض الخراب، لهذا نجد اعتراض الملائكة على استخلاف الإنسان في الأرض لأنه سيفسد فيها ويسفك الدماء. والإنسان بطبيعته، فيه استعداد للإصلاح والإفساد، للتعمير والتخريب، يقول ابن خلدون: “الاجتماع الإنساني هو عمران العالم، ويعترض لطبيعة هذا العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”.(5) فالعمران عامة يتحقق من خلال تفاعل قانون الاستخلاف وقانون التسخير، لكن في المنظومة الإسلامية يتحقق العمران من خلال تفاعل ثلاثة قوانين: قانون الاستخلاف: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾(الأنعام:133)، وقانون التسخير: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾(لقمان:20)، وقانون التيسير: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾(القمر:17).

فتعمر الأرض إذن، وتنشأ الحضارة وتتشكل في المنظومة الإسلامية، من خلال تنزيل قراءة الوحي والكون والإنسان في واقع الناس، فيتشكل المجتمع/الأمة على أساس سنن الاجتماع الإنساني، وتنتظم علاقاته (الاجتماعية-الإنسانية، والسياسية، والاقتصادية…) على أساس من الوحي الرباني وهدي منه. وتزدهر الحضارة وتنمو الصناعات وتنشأ المباني والمؤسسات، مما ينفع الناس ومما لا تقوم الحياة إلا به، من خلال حسن استثمار ثروات الكون والانتفاع بها وفق قانون التسخير.

وخلاصة القول، فبالقراءة تزكو الحياة، وتنمو الكفاءات والقدرات، يقول جودت سعيد: “إن حل مشكلات الإنسانية، ونفي تهمة الملائكة لبني آدم، وإخراج الإنسان من الفساد والسفك (…) لا يتم إلا بالتسخير الحق لقدرة القراءة.

إن التسخير الحق لقدرة القراءة، يجعل الإنسان يطير بجناح القراءة ويتغلب على المشكلات. لا يغرنك شيوع الفساد والسفك في العالم، إن إنسانًا أدرك كيف بدأ خلقه وكيف وصل إلى ما وصل إليه وتجاوز ما تجاوز، سيعلم كيف سيصل إلى ما لم يصل إليه بعدُ، وكيف يتجاوز العقبات التي خلفها”.(6)

إن الأمم الغربية تقود العالم اليوم بالقراءة -لأن الأمم القارئة هي القائدة- وتشد إليها أنظار كل البشر رغم ما ينتج عن قراءتها من فساد في البر والبحر، لأنها قراءة أحادية النظرة، فما بالك لو كانت هناك قراءة للأمة الإسلامية تعطيها قوة روحية وأخرى مادية، فيظهر صلاحها في البر والبحر، ألا تتحول إليها أنظار البشر ينشدونها، وتستقطب الناس من كل حدب وصوب، وتقود البشرية إلى شاطئ الأمان؟! لكن الأمة الإسلامية لم تسخر قدرة القراءة التسخير الحق، فبدل أن تصنع من قراءة القرآن حضارة، صنعت من قراءتها الخاطئة طريقًا للتواكل، والجهل، والفرقة، والتنازع، والتشاكس.

ـــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) الإنسان والحضارة في القرآن بين العالمية والعولمة، للدكتور فرح موسى، ص:96-97، الطبعة الأولى 1424هـ/2003م، دار الهادي.

(2) التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، ج:30، ص:280.

(3) أطلس الحضارة الإسلامية، للدكتور إسماعيل راجي الفاروقي والدكتور لموس لمياء الفاروقي، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، ص:131، ط:1، 1998، مكتبة العبيكان (الرياض)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

(4) نفس المصدر، ص:139-140 بتصرف.

(5) مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، تحقيق الدكتور درويش جويدي، ص:40، المكتبة المصرية صيدا-بيروت 1422هـ/2001م.

(6) اقرأ وربك الأكرم، لجودت سعيد، ص:71.