علومنا الإسلامية والسياق الكوني المعاصر (5)

سادسًا: في أهمية الوعي بالسياق
تَحْتَوِشُ الإنسان إفرادًا واجتماعًا، جملة من العناصر الذاتية، والموضوعية التي يتشكل منها سياقه الذي يحيا ويعيش فيه، والتعاطي مع هذا الإنسان في ذهول عن عناصر سياقه لا يمكن أن يكون مُستجمِعًا بحال لعناصر الفاعلية.
فإذا أخذنا مثالاً على ذلكم، التعاطي على مستوى الخطاب، فإن عدم استحضار عناصر السياق النفسانية يصيب هذا الخطاب بالنقص ويُعدمه القدرة على إصابة المحزّات، وتطبيق المفاصل، ووضع الهناء في مواطن النقب؛ لأن اعتبار السياق النفسي للإنسان المخاطَب هو الذي يحدد كيفية صياغة الخطاب لكي يكون موائمًا للمخاطَب مُتفهَّمًا من لدنه، ومُحدِثًا للتفاعل المؤدي إلى التبني المطلوب.
• وعدم اعتبار السياق العقلي للمخاطَب، يؤدي إلى تفاوت عن مستوى المخاطَب إما إفراطًا أو تفريطًا.
• وعدم اعتبار السياق الاجتماعي بمختلف أبعاده، يجعل هذا الخطاب غير معانق لانتظارات المخاطَب، وآلامه وآماله، ويمكن قولُ قريبٍ من ذلكم عن آثار عدم إدراك السياقات الاقتصادية، والسياسية، والمحلية، والكونية على هذا الخطاب.
وهناك مجموعة من المؤشرات التي تكشف اهتمام المسلمين بالسياق، أهمها العمل على استجلاء كيفية تنزيل النبي صلى الله عليه وسلم لنصوص الوحي على الناس بالمدينة المنورة، وقراءة ابن العباس (عم رسول الله) للسياق النفسي للسائل حينما سأله: هل للقاتل من توبة؟ فسدّ الباب أمامه عندما قرأ في ملامحه أنه عازم على القتل ويريد الرخصة. وفتح الباب لمن رأى أنه قتل فعلاً ويريد التوبة.
ولا يخفى أن الاهتمام بالسياق لدى علماء المسلمين حظي بأهمية كبرى، فالإمام مالك أنتج “سد الذرائع” و”فتح الذرائع”، وأكد على مراعاة المآلات ضمن الوعي بالسياق، واستحضار “فقه الأولويات”، و”الموازنة بين المصالح والمفاسد” في الفهم والتنزيل، كما أن الشافعي غيّر مذهبه كليًّا من الناحية التطبيقية بين العراق ومصر وإن حافظ عليه على مستوى التصور والتنظير.
ولقد أبدع علماء المسلمين في توظيف الآليات الاستنطاقية لفهم السياق الداخلي (النص القرآني المؤسس والسنة الموضحة له)، والسياق الخارجي (واقع الناس ومحاورة الكون بآليات علمية ومنهجية).
وقد نصوا عدة مفاتيح وآليات لفهم السياق من أجل تفادي الوقوع في الاضطراب و”الالتياث”(1)، ومنها:
• الوعي بالسياق النفسي للمخاطب: حيث يلقى الخطاب موائمًا لنفسية المخاطب (تجربة ابن العباس مع من يريد معرفة توبة القاتل)، وهذا الوعي يبقى ضروريًّا خاصة لمعرفة احتياجات الطفولة وتنوع البنيات الأسرية والعلاقات والمعارف، التي تحكم بنية كل مجتمع.
• الوعي بالسياق العقلاني والمعرفي: وذلك باستحضار القدرة الإدراكية للمخاطب حتى لا يحصل “الاستوحاش”.
• الوعي بالسياق المادي الاجتماعي: وذلك بمعرفة العلاقات بين أفراد المجتمع، فعين المجتمع ليست مثل عين الفرد، كما أن الهموم والآمال تبقى متفاوتة بين المخاطبين. ومما يسهم في ذلك ضرورة الوعي بكيفية غرس النبي صلى الله عليه وسلم للوحي في نفوس الناس، مما يساعد على تنزيله في واقعنا بمقدار يراعي السياق، إذ هناك مستويان في فهم السياق:
1- السياق الذي أعمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم النصوص.
2- معرفة السياق الذاتي النفسي والاجتماعي وآليات المقاربة.
والذي يستطيع أن يحاور القرآن المجيد في موضوع مخصوص، لا بد أن تكون تضاريس عقله قد نحتت ونقشت، لتكون قادرة على إجراء الحوار في ذلك الموضوع. فمثلاً، لا يمكن أن نتصور أن الذي سوف يستخرج بعض معالم المنهج التربوي في القرآن المجيد، سوف يكون من خارج علماء التربية؛ لأنه لن يلتقط الإشارات التربوية العميقة والدقيقة الموجودة في القرآن المجيد، إلا مَن قد نقشت تضاريس عقله بحسب مقتضيات هذا الفن، وأصبحت عنده الردود الأفعال التي تجعله ينتبه إلى هذه الإشارات الموجودة بخصوص التربية في القرآن المجيد.
سابعًا: تجديد العلوم الإسلامية في سياقنا المعاصر
إن تجديد العلوم الإسلامية، ليكون ذا فاعلية ونفع في سياقنا المعاصر، فلا بد له من جملة شروط:
1- الاستيعابية: ونقصد بها الاستيعابية في مجال تمثل العلوم موضوع التجديد، من حيث المعرفة بها نشأة، ومضمونًا، ومباحث، وسيرورة، ومقاصد، وثمرات ومشاكل، وبدون هذه الاستيعابية، فيعسُر تصوُّر تجديد مثمر.
2- التساؤلية: وهو شرط يُسلِمُ إليه سابقه، إذ لا يمكن دون استيعابية أن يفضى إلى مرحلة التساؤلية الفاحصة داخل هذه العلوم؛ والمؤدية إلى الوقوف على مدى انبنائها على النص المؤسس وانطلاقها منه، وكذا الوقوف على مدى وظيفيتها، وواقعيتها، وعلى أنجع مناهج وأساليب التقويم والتجديد فيها.
3- المعرفية: ونقصد بها الغوص في بُنى هذه العلوم، وأنساقها، ومناهجها، للتأكد من اندراجها في النسق المعرفي الذي جاء به الوحي.
4- الوظيفية: بحيث يتم الحرص على التأكد من مدى خدمة العلوم الإسلامية للإنسان فردًا واجتماعًا، وإعانته على تحصيل السعادتين، في انضباط لضوابط التيسير ووضع الإصر والأغلال، وإحلال الطيبات، وتحريم الخبائث، التي بيّنها الوحي الخاتم (النص المؤسِّس).
5- الجماعية: ونقصد بها وجوب ارتكاز التجديد في مجال العلوم اليوم على العمل العلمي البحثي التجديدي، الجماعي، التكاملي، وذلك لِتَفَرُّع الإشكالات ومجالات الإصلاح داخل هذه العلوم والمعارف، وهو شرط لن يكون تنزيله الاجتهادي ناجعًا، إلا إذا توافرت الشروط الأربعة السالفة، مع إضافة أربعة شروط ضرورية أخرى، وهي:
6- الانغمارية: ونقصد بها الانغمار الواعي والذكي في هموم ومشاكل الإنسان محليًّا وكونيًّا لمعرفتها أولاً، ثم الاجتهاد ثانيًا لوجدان حلول وظيفية وعملية لها، انطلاقًا من النسقين المعرفي والقيمي الإسلاميين، مما سوف يعطي للأداء الجماعي روحه ومقاصده ونفعيته.
7- الاستشرافية: بحيث لا يتم الاشتغال بالمهم وتأخير الأهم، وبالمفضول وإهمال الأفضل، كل ذلك في تحديد دقيق للأولويات وهندسة لها.
8- الحكامة والتدبير الجيدان: على المستويات الأكاديمي، والبشري، واللوجيستيكي، والزمني.. مما قد يجر إهماله إلى اضطراب في إنجاز شرط الجماعية. ولا شك أن من مقتضيات ذلك، الشرط الأخير، والذي هو:
9- التكوين الأساسي والمستمر: بحيث يتم بناء مناهج تكوين المكوِّنين والمكوَّنين في ضوء الوعي بكل ما سلف، ليتم بعد ذلك، وتأسيسًا عليه تنسيق جهود فرق البحث المنتقاة فكريًّا ونفسيًّا ووجدانيًّا واستراتيجيًّا، ومواكبتها بالتكوين المستمر حتى يكون الأداء بحول الله مثمرًا.
إن التجديد في علومنا الإسلامية كان -وكما رأينا- دومًا حاضرًا وبطريقة عضوية عبر مسار أمتنا، تطلبًا واجتهادًا، كما أن هذا التجديد -لا شك- أمر مصيري لها، وجوديًّا، فيما يستقبل من تاريخها.
(*) الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء / المغرب.
الهوامش
(1) مستعيرًا اللفظ من عنوان كتاب “غياث الأمم في التياث الظلم” لإمام الحرمين الجويني رحمة الله عليه، المتوفى سنة 478هـ.