الـ”أنا” الطاغية تبدأ بـ”أنا” وتنتهي بـ”من أنتم؟”، و”الكِبْرُ بَطَرُ الحقّ وغَمْطُ الناس” (أخرجه مسلم). وهي المعبرة عن طغيان الذات الذي هو أصل الكفر والجحود، يحتقر الأغيار حتى لو كانوا من شعبه أو حاشيته المقربة، خاصة حين يكونون أصحاب شرف ديني أو تاريخي أو اجتماعي، كما قال هشام حين رأى زين العابدين بن الحسين: من هذا؟

فكان رد الفرزدق:

هـذا ابـن خير عبــاد الله كلــهم

هـــذا النــقي التــقي الطــاهــر العـلَم

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

رفض الشيطان السجود لآدم وقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)(الأعراف:12)، وفرعون قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)(النازعات:24)، وقارون قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص:78)، والنمرود قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)(البقرة:258)، وصاحب الجنتين قال: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا)(الكهف:34).

الاغترار بالجنس أو بالعنصر أو بالسلطة أو بالمال أو بالعلم أو بالوزارة، يغري بعبادة الذات، ونسبة الخير إلى النفس، والشر إلى الغير، ولذا قال الشيطان: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)(الحجر:39)، بينما قال آدم وحواء: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)(الأعراف:23). الـ”أنا” المستكبرة لا ترى إلا ذاتها وحدها بلا شريك.
مسلّمات العلم تمر عبر الذات: أعتقد أن سرعة الضوء تساوي كذا، وأن الشمس أكبر من الأرض بكذا… وحقائق الشريعة تخضع لعقله، فهو يأخذ ويترك، ويستحسن ويستهجن، ويحرّف الكلم عن مواضعه دون بصيرة أو علم وفق ما يروق له، ويتكلم بتفاصح وتضخيم للكلمات وتركيز على مخارج النطق، وكأنه يقرأ قرارات نهائية لا مرد لها.

كيف له أن يسكت بينما الجميع يتساءلون عن قضية شرعية أو تاريخية، وهو يعتقد أن البشرية تفتقر إلى مثل حكمته وبصيرته؟

من لم يعبد ربه عبد نفسه… الإكثار من ذكر النفس يولّد نسيان الله: (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)(البقرة:200)؛ ذكر الآباء تمهيد لذكر النفس، وعوضًا عن ذكر النفس شُرع لنا ذكر الله، ومن نسي الله أنساه نفسه: (نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(الحشر:19).

معظم الرذائل ناتجة عن “توثين” الذات… “آن جوبلز” كان وزير الدعاية لـ”هتلر”، وذات مرة كان يشرف على إعدام قسيس فقال له: اتق الله فيّ ولا تقتلني. ردّ الوزير: يا غبي لم يعد العصر عصر الله إنه عصر هتلر. انتهى به المطاف إلى أن انتحر هو وعائلته وزعيمه هتلر، والجزاء من جنس العمل.

استعلاء الذات يعني ازدراء الآخرين والنظر للشعوب على أنها “دهماء” و”رعاع” و”همج”، فلابد من الوصاية عليها وحمايتها من نفسها.

على النقيض يمكن استذكار “تشرشل” رئيس الوزارة البريطانية أيام الحرب الثانية، والذي حقق أعظم انتصار في تاريخ بريطانيا، لقد رفض أن يعلن الأحكام العرفية على شعبه أثناء الحرب وقال: “لا أجمع على شعبنا وطأة الحرب ووطأة الأحكام العرفية”. بعد النصر أخفق حزبه في الانتخابات العامة وترك الرجل الوزارة بصورة طبيعية، ولم تهتف له الجماهير في الشارع “بالروح بالدم!”.

في سورة العلق، قرن العلم بالإيمان لقمع الغرور المعرفي… وشرع العبادة والسجود والقرب من الله لقمع الذات الطاغية المنفصلة عن ربها: (كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7).

وذكّر بالرجعى الموتَ والبعثَ ليحفّز النفس على النظر في حالها… وذكر نموذج الطاغية أبي جهل الساعي إلى مصادرة حرية الناس في عبادة ربهم وهو الذي ينهى عبدًا إذا صلّى، وتوعده بقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)(العلق:15-16)، وفي السورة إشادة بالإنسان المترقي من “العلق” إلى “العقل”.

(*) عالم ومفكر وداعية / المملكة العربية السعودية.