شفاء القلوب

كان الفضيل بن عياض يعشق جارية، فواعدته ذات ليل، فبينما هو يرتقي جدارًا، إذ سمع قارئًا يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)(الحديد:16)، فرجع القهقرى وهو يقول: “بلى والله قد آن”.. فآواه المبيت إلى خربة فيها جماعة من الناس، وبعضهم يقول لبعض: “إن فضيلاً يقطع الطريق”، فقال: “أوّاه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله وقوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام”، فتاب وتعبّد وتعلّم حتى صار يلقب بـ”عابد الحرمين”.
وقال ابن المبارك: “كنت يومًا مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعًا بالضرب على العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضـربت على العود، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا أسمع: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، قلت: “بلى والله” وكسرت العود، وصرفت مَن كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. فصار عبد الله بعد ذلك من العلماء العابدين المجاهدين.
قال ابن مسعود: “ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين” (رواه مسلم). وقال ابن عباس: “إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم”. وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لما ترفهوا بالمدينة فنزلت هذه الآية.
وفي هذه الآية أربع فوائد:

إن لين القلب لا يكون إلا لمن اتبع الدين وعمل به وفق مراد الله تعالى

1- رحمة الله بعباده، ولين خطابه إليهم حيث يقول: (أَلَمْ يَأْنِ)؛ خطاب كريم من رب كريم رحيم، ليس فيه غلظة ولا قسوة ولا هجر، بل فيه لين العتاب، واستبطاء قلوب المؤمنين.
2- إن الله عز وجل يريد خشوع القلب لا خشوع الجوارح، وخشوع القلب ذلته وسكونه ورقّته، وإذ يعاتب الصحابة في خشوع قلوبهم، وهم أعلى الناس إيمانًا، فغيرهم أولى بالعتاب.
3- إن خشوع القلب يكون بذكر الله تعالى وما نزل من الحق، وهو يشمل القرآن والمواعظ وكل ما فيه تذكير بالآخرة والدين.. فمن لم يخشع إذا سمع الذكر والحق فهو داخل في العتاب.
4- إن قسوة القلوب من سمات اليهود، قال تعالى عنهم: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(البقرة:74)، وسبب قسوة قلوبهم، هو نقض عهدهم مع الله تعالى، وتحريفهم كلامه، ونسيانهم حظًّا مما ذكّروا به، وعدم أخذهم دينه بالقوة، قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)(المائدة:13)؛ فهذه من أعظم أسباب قسوة القلب. وإن لين القلب لا يكون إلا لمن اتبع الدين وعمل به وفق مراد الله تعالى. وإن خشوع القلب لا يتأتى إلا بأخذ الدين بقوة وصدق، لا بالحيلة والخداع والكذب؛ فالمحتال والمخادع والكذاب والعاصي قاسي القلب بعيد عن الرب. وقساة القلوب هم أسرع الناس استجابة لداعي الهوى ووسوسة الشيطان، قال تعالى:(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)(الحج:53).
فالقاسية قلوبهم هم الأقرب للفتنة والزيغ عن الدين. وفي قصة الفضيل، وابن المبارك، أن قارئًا قرأ تلك الآية العظيمة فكان سبب هدايتهما. فلا بد أن ذلك القارئ كان خاشعًا متدبرًا، فمن أجله لامست تلاوته قلوبهم، فأحرقت كل شهوة وذنب فيها حاضرة فيها، وكانت قراءته بالليل، وما أحسن قيام الليل وقراءة القرآن فيه، فإنه أعظم معين على تدبر القرآن وخشوع القلب وحضوره.
أما أسباب رقة القلوب فعدة أمور:
أ- ترك الذنوب، فإن الذنوب تميت القلوب، وإدمانها يورث الذل، فإنها تسود القلب وتمحو منه الإيمان شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى فيه إيمان.
بـ- كفالة الضعفاء كاليتامى والفقراء والمرضى، وزيارتهم والجلوس إليهم. فإن الذلة والمسكنة والخشوع عند هؤلاء، فمن خالطهم وجالسهم اقتبس منهم. فالمخالط لهم يرى حقيقة الدنيا وتقلبها بأبنائها، فيذهب عن قلبه الكبر الذي هو أكبر أسباب قسوة القلوب. جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: “يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي” (رواه مسلم).
فالرحمة تتنزل على الضعفاء.. جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم” (رواه البخاري). وفي بعض الآثار الإلهية: “ابغني عند المنكسرة قلوبهم”. يعني إذا أردت أن تجد قلبك، فاذهب إلى هؤلاء الضعفاء. وهذا بخلاف المخالط لأصحاب الدنيا المستكبرين، فإنها تورث الطغيان، ولا يجد عندهم إلا الأمل والحرص والطمع.
جـ- النظر في سير الصالحين من أنبياء وصحابة وتابعين، فإنه من أعظم المرقّقات؛ فصحبتهم بركة، ومجالستهم فيها الثمرة.. سيرتهم تدعو طواعية إلى سلوك سبيلهم، نماذج حية، وقلوب مضيئة، لكلامهم نور وبرهان يغني عن مخالطة الناس.. فاتخذهم صاحبًا ودع الناس جانبًا.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعس مرة فسمع قارئًا يقرأ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)(الطور:7)؛ فاستند إلى الجدار وحمل إلى بيته، ومرض شهرًا لا يدرى ما به. وبكى مرة عمر بن عبد العزيز -وهو أمير المؤمنين- فبكى لبكائه أهل الدار جميعهم، فلما سري عنه سألوه، فقال: “ذكرت منصرف الناس فريق في الجنة وفريق في السعير”.
وكان الحسن كثير الحزن، وكان يقول: “أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي”. ويقول مطر الوراق: “ما اشتهيت أن أبكي إلا نظرت في وجه محمد بن واسع، وكنت إذا نظرت إلى وجهه فكأنه قد ثكل عشرة من الحزن”. وفي ليلة بكى محمد بن واسع حتى بكى من في الدار لبكائه، فأرسلوا لأبي حازم ليستطلع الخبر، فلما جاءه سأله عن بكائه، فقال: قرأت قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(الزمر:47)، فبكى أبو حازم، وبكى محمد بن واسع.
د- كثرة النظر في أخبار الجنة والنار، وأهوال يوم القيامة، وأحوال القبر. فالقبر يضغط حتى تختلف الأضلاع، ويفتح باب إلى الجنة أو إلى النار، وهناك منكر ونكير. ويوم القيامة الشمس تدنو من رؤوس الخلائق مقدار ميل، والحساب والعقاب، والصـراط، والميزان حال كئيب، وزلزلة عظيمة، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)(الحج:1-2).

إن خشوع القلب لا يتأتى إلا بأخذ الدين بقوة وصدق، لا بالحيلة والخداع والكذب؛ فالمحتال والمخادع والكذاب والعاصي قاسي القلب بعيد عن الرب

والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أكلها دائم وظلها. والنار فيها العذاب المقيم والأليم، لا يقضى على أهلها فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها.
هـ- ذكر الموت هو أعظم واعظ. فالموت قاطع اللذات وهادمها، والموت فضح الدنيا فلم يبق فرحًا. وما ألزم عبد نفسه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا في عينيه، وهان عليه جميع ما فيها.
قال القائل: يا ابن آدم، لو علمت قرب أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك المال والولد، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة يوم الحسرة والندامة.
سكرات الموت شديدة، وإنما لا يصرخ المحتضر؛ لأن الكرب قد بالغ فيه، فلا يستطيع حركة، فتبرد أولاً قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ثم صدره حتى يبلغ الحلقوم، فحينذاك ينقطع نظره إلى الدنيا، وهذه هي الغرغرة، وعندها يغلق باب التوبة. رأى الحسن البصري رجلاً يحتضر، فرجع إلى أهله، فقالوا العشاء، قال: لا أريد عشاءً، لقد رأيت اليوم منظرًا، لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
تلك هي أسباب رقة القلب وخشوعه، ومن لم يخشع لله تعالى ولم يلن قلبه، خيف عليه من أمرين:
1- عذاب معجل في الدنيا، قال تعالى: (فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام:43-45).
2- أن يلين لكن في نار جنهم، فإن النار تذيب قلوب العاصين حتى يبكون الدم بعدما ينفد الدمع، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(الزمر:22)؛ فإن أهل النار يشهدون لله بالعدل والحكمة، ويرجعون على أنفسهم باللائمة والعتاب، فيقولون: (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)(الأنبياء:14)، (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(الملك:10).
(*) أستاذ بجامعة أم القرى، مكة المكرمة / المملكة العربية السعودية.