الهوية في ضوء الشبكات الاجتماعية

تحديات كبرى تطرحها الثورة الرقمية، على مستوى كافة المجالات، اقتصادية وسياسية ودينية واجتماعية ليس داخل البلد الواحد وإنما على مستوى العالم، ومن هذه التحديات الخطيرة نجد قضية الهوية، ولكي نقف عن قرب عند هذا الموضوع، نتوقف مع العالمة سوزان غرينفليد ورؤيتها لموضوع “الهوية في ضوء الشبكات الاجتماعية”.

على مدار السنوات العشر المقبلة، ترى سوزان غرينفليد، أنه من المرجح أن تتأثر هويات الناس بشكل كبير بفعل العديد من محفزات التغير المهمة، لا سيما سرعة وتيرة التطورات الحادثة في مجال التكنولوجيا. وهو ما نصت عليه افتتاحية “الهويات المستقبلية” وهو تقرير جرى إعداده بتكليف من السير جون بدينغتون، الذي كان يشغل حينئذ منصب كبير المستشارين العلميين للحكومة البريطانية، كانت نقطة انطلاقًا حسب سوزان هي “أن ظهور الارتباطية الفائقة وانتشار وسائل الإعلام الاجتماعية، وزيادة المعلومات الشخصية عبر الانترنت هي من العوامل الرئيسة التي ستتفاعل بحيث تؤثر في الهويات”.

وهنا يطرح السؤال التالي: هل هذه الرؤية تعد فعلاً تحديًّا وتهديدًا لهويتنا؟ ترى سوزان أن فكرة الذات الحقيقية طرحت لأول مرة عام 1951، من قبل عالم النفس الأمريكي المؤثر كارل روجرز، تستند نظريته عن الذات الحقيقية إلى الخصائص الموجودة التي لا تحتاج بالضرورة إلى أن يُعبّر عنها بشكل كامل في الحياة الاجتماعية العادية، ربما لأنه توجد بالضرورة مناسبات تكون فيها واضحة؛ وبدلاً من ذلك تُصور على أنها ردود أفعال معينة في حالات افتراضية. وبعد خمسين سنة، شهد العصر الرقمي قيام جون بارغ وفريقه بوضع مفهوم الذات الحقيقية على الإنترنت للإشارة إلى ميل الفرد إلى التعبير عن جوانب الذات الحقيقية من خلال الاتصال المجهول الهوية بالإنترنت بدلا من الاتصالات المباشرة وجها لوجه. وقد عقلت سوزان قائلة: تمثل الفكرة هنا في أن شبكة الإنترنت توفر للأفراد فرصة فريدة للتعبير عن ذواتهم الحقيقية، بما في ذلك الجوانب التي لا يعبر عنها بشكل مريح وجهًا لوجه. وبسبب هذا التأثير، يمكن النظر إلى التواصل عبر الإنترنت على أنه أكثر حميمية وشخصية من الاتصال وجهًا لوجه. إن من يكوّنون صداقات بهذا الطريقة من خلال مواقع الشبكات الاجتماعية يكونون أقرب احتمالاً لخلع أهمية عن الإفصاح الذاتي، على أمل التعبير عن ذواتهم الحقيقية”. وهذه النتيجة ليست دائما صحيحة، فقد يكون الانترنيت فرصة لإخفاء الهوية الحقيقية”.

في مقابل هذا الأمر تذكر سوزان أن الأشخاص الذي يعتقدون أنهم أكثر قدرة للتعبير عن ذواتهم الحقيقية على الإنترنت هم أقرب احتمالاً لتكوين علاقات وثيقة ظاهريا في الفضاء الإلكتروني. وعلاوة على ذلك “يكون الأشخاص الذين لديهم ميل قوي إلى التعبير عن ذواتهم الحقيقية بهذه الطريقة في عالم الإنترنت أقرب احتمالا من غيرهم لاستخدام الإنترنت كبديل اجتماعي. ينطوي استخدام الإنترنت كبديل اجتماعي على إقامة علاقات جديدة مع الغرباء، وامتلاك أصدقاء عبر الإنترنت فقط، وهؤلاء الأشخاص هم أقرب احتمالاً لاكتساب شغف وسواسي بالأنشطة التي يقومون بها على الإنترنت”.

وفي مسح أجري على طلاب الجامعات لاكتشاف دوافعهم إلى استخدام الفيسبوك، كنت نتيجة مثيرة للاهتمام وهي كما تذكر سوزان أن الأفراد الذي يمتلكون نزعة قوية للكشف عن ذواتهم الحقيقية على الإنترنت ذكروا أنهم يستخدمون الفيسبوك لإنشاء صدقات جديدة ولبدء أو إنهاء العلاقات العاطفية بشكل أكثر من الأفراد الذين هم أقل قلقا بشأن التعبير عن هويتهم. وبالتالي حسب سوزان يبدو أن بعض، وإن لم يكن كل، استخدامات الفيسبوك كوسيلة للتعبير عن الذات يسير جنبا إلى جنب مع كونه قناتهم الرئيسة للصداقة. وكذلك ترتبط الرغبة في التعبير عن ذات المرء الحقيقية من خلال الفيسبوك بالاستخدام المفرط له، ومرة أخرى ثمة مفارقة وهي أن أشد الناس رغبة للتعبير عن هويتهم “الحقيقية” هم بالتحديد أولئك الذي يعتمدون بشدة أكبر على العلاقات في الفضاء الإلكتروني. وبالتالي لا يتعلق الأمر بكون الفيسبوك جيدًا أو سيئًا بطبيعته، وإنما بكيفية استخدامه، وبالدور والأهمية التي يؤديها في حياة المرء.

وتظهر الأبحاث أن الهوية التي تُصور على الفيسبوك ليست هي الذات الحقيقية غير المأهولة التي كانت تُعرض سابقًا في البيئات الحاسوبية المجهولة الهوية ولا التفاعلات الثلاثية الأبعاد المعروضة ذاتيًّا والتي تتم وجهًا لوجه. وبدلاً من ذلك حسب سوزان فهي “ذات مشيدة عن عمد ومرغوبة اجتماعيًّا، يطمح إليها الأفراد لكنهم لم يتمكنوا حتى الآن من تحقيقها. ومما يثير الدهشة أن التواصل عبر الشبكات الاجتماعية قد أدى الآن إلى ثلاث ذوات محتملة: الذات الحقيقية  true self، التي يُعبر عنها في البيئات المجهولة من دون القيود التي تفرضها الضغوط الاجتماعية؛ والذات الفعلية real self، أي الفرد المتوافق المقيد بالأعراف الاجتماعية التي تتم وجها لوجه؛ والذات المحتملة possible self، التي تظهر لأول مرة، والمأمولة، التي تُعرض على مواقع الشبكات الاجتماعية.

بناء على هذه التقسيمات، يكون قد اتضح أن هناك فارقًا بين الكيفية التي يصنف بها أحد المراقبين شخصية صاحب صفحة على الفيس استنادًا إلى المواد المعروضة والسمات الفعلية لمالك صفحة الفيس. تعلق سوزان قائلة “وعلى الرغم من ذلك، فإن إمكانية إدارة الهوية على الإنترنت تسمح بالتشويه. ويتفق الباحثون على أنه مثل المرآة المشوهة، فمن المرجح أن تمثل الذات عبر الإنترنت إصدارًا مبالغا فيه من الذات الفعلية. وهذه مبالغة يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة. ليس الأمر أن موقع الشبكات الاجتماعية زودتنا بالفرصة الأولى من نوعها لتشويه هويتنا، وبالتالي علاقاتنا، لكنها تزودنا الآن بفرصة غير مسبوقة للقيام بذلك. إن إنشاء، وإدارة، والتفاعل من خلال مل على الإنترنت يمثل فرصة للإعلان عن نفسك من دون تحدٍّ من قيود الواقع، بحيث تصبح نسخة مثالية منقحة من ذاتك الفعلية”.

علاقة بما سبق، لقد طرحت سوزان غرينفليد سؤالاً مهما وهو: كيف سيشعر أي منا إذا عاش في مجتمع مستقبلي تتمثل غايته النهائية في تحقيق شعور بالرضا بفعل العدد المحض من الأشخاص الذين يلاحظون وجودك في الفضاء الإلكتروني؟ إجابة على هذا السؤال تسرد لنا سوزان القصة التالية: اعترفت لي صديقة من العالم الحقيقي قائلة “لقد حذفت الفيسبوك، لأنه أعاد إلى شعور المدرسة الثانوية نفسه مرة أخرى، حيث كل فتاة هي شعبية وجمالا منك”. في حين قد يكون بعض الأفراد على استعداد لكسر هذه الحلقة من السعادة الكاذبة تماما، فهم يظلون يمثلون الأقلية الساحقة. وفي العام 2011، حذف 100 ألف من مستخدمي الفيسبوك في المملكة المتحدة ملفاتهم الشخصية. وفي دراسات أُجريت على من أقعلوا عن استخدام الفيسبوك، كان السبب الرئيس الذي ذكروه هو المخاوف المتعلقة بالخصوصية. كان الأفراد ذوو المعدلات المرتفعة لاستخدام الإنترنت أقرب احتمالا لإلغاء حساباتهم على الفيسبوك، مما يشير إلى أنهم قد يشعرون بالقلق إزاء التواصل عبر الشبكات الاجتماعية. إن الحقيقة ذاتها في تسمية هذا الإقلاع بـ”انتحار الهوية الافتراضية” من قبل باحثي الشبكات الاجتماعية تشير إلى الأهمية التي يخلعها البعض اليوم على ملفهم الشخصي على الفيسبوك.

أخيرًا وليس آخيرا، يمكننا القول إن الهوية في ضوء الشبكات الاجتماعية، هي هوية خاضعة لطبيعة الأفراد ونواياهم وأهدافهم من استخدام تلك الشبكات، فكثير من الناس من أصيب بالصدمة عندما اكتشف أنه كان يتواصل شخص ذو هوية مزيفة ولربما أسقطه في مشاكل زوجية، أو مشاكل لها علاقة بالمحيط الذي يشتغل فيه، لتبقى إذن هذه الشبكة سلاح ذو حدين.