العالمية هي خصوصية حقوق الإنسان في الإسلام

يقول الله سبحان ه وتعالى في محكم آياته مخاطباً النبي الأكرم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107). و”العالمين” ليسوا فقط كل بني آدم، في كل زمان ومكان، وإنما هم عالم الإنس وعالم الجن وعوالم الحيوانات والجمادات، كل منها له حظ من الرحمة المهداة للعالمين، سيد الأولين والآخرين. وعليه فإن كل خير جاء به ودعا إليه وحض على التنافس فيه، لا يقتصر على جنس دون آخر، بل يشكل كل العالمين، ليذوقوا من نعمة الإسلام ، وليتعرفوا عليه عملياً قبل أن يطالبوا بالإيمان به وبعد أن يطالبوا به، سواء أجابوا داعي الله أم أعرضوا عنه ولم يجيبوه.
ولكن الجدل حول حقوق الإنسان في المنظور الإسلامي يتجه اتجاهات شتى، منها ما يؤكد الخصوصية والفرادة التي تميز الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان بمعنى يحصرها في صنف معين من البشر، وربما في مناطق جغرافية دون غيرها من العالم؛ ومنها ما يؤكد تطابقها تمام الانطباق مع النظرية الأوربية السائدة باعتبارها نظرية عالمية، ومن ثم يرفض أنصار هذا الاتجاه وجود خصوصية لنظرية حقوق الإنسان الإسلامية.
أصحاب الاتجاه الأول يظلمون الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان، إذ يحبسونها في إطار ضيق ويعطلون رسالتها العالمية؛ وأصحاب الاتجاه الثاني يتجاهلون جوهر هذه الرؤية وعمقها الإنساني ويحاولون تقريبها من الرؤية الغربية المفتقدة لهذا العمق الإنساني في كثير من جوانبها.

عالمية الرؤية الإسلامية

وفي رأينا أن الخصوصية الكبرى لمفهوم حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية تتمثل في “الشمول والعالمية”؛ فقد جاءت الشريعة بتقرير كل أنواع الحقوق المدنية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، الجماعية منها والفردية من جهة، وجاء الخطاب من جهة أخرى باحترام هذه الحقوق وحمايتها وضمانها شاملاً لكل بني آدم، أو لكل إنسان بوصفه إنساناً، وبوصفه إنساناً فقط لا أكثر من ذلك ولا أقل؛ بل تمتد هذه الحقوق -في جوانب كثيرة منها- لتشمل الحيوان والجماد والبيئة في منظومة متجانسة ومتناغمة.
إن خصوصية حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية هي في “عالميتها” إذ إن خطاب التكليف بها وبحمايتها موجه للآدمي بموجب كونه إنساناً، وليس ثمة حق واحد دينياً كان أو مدنياً، سياسياً أو اجتماعياً مقرر للمسلم وحده ومحظور على غيره. وهذه الخصوصية أيضاً هي في شمولها لكل أنواع الحقوق التي عرفتها المواثيق والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان في صيغها الحديثة والمعاصرة.
إن مصطلح حقوق الإنسان -المستعمل في الخطاب المعاصر- يشير إلى مجموعة الحقوق والمطالب الواجب الوفاء بها لكل البشر على قدم المساواة دونما تمييز فيما بينهم لأي سبب كان. ولكن هذا التعريف العام ليس مسلماً به لدى المجتمعات المختلفة؛ ذلك لأن نوع هذه الحقوق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتصور الأساسي عن الإنسان ذاته، فإذا كان الإنسان فرداً حراً ذا كرامة وقيمة ويمتلك العقل والضمير، ويمتلك القدرة على الاختيار الأخلاقي والتصرف السليم، ويملك أيضاً الحكم الصائب على ما هو في مصلحته، فإن حقوق هذا الإنسان سوف تنبني على أساس هذا التصور. والواقع يشهد بوجود كثير من صور التمييز الفعلي بين بني البشر، إضافة إلى انتهاك أبسط حقوقهم، وليس ذلك إلا نتيجة من نتائج الثقافات الاستبدادية والعنصرية كتلك التي ظهر فيها من يقول إنه “شعب الله المختار”، أو إن شعباً من الشعوب فوق الجميع، أو إنه يحمل عبئاً تجاه الأجناس الأخرى البدائية المتخلفة باعتباره جنساً أرقى، وكلها نزعات ظهرت وترعرت في الثقافات الوضعية، وتركت آثارها على علاقاتها مع أصحاب الثقافات الأخرى.
وإذا نظرنا إلى جملة حقوق الإنسان التي قررتها الشريعة على أي مستوى من مستويات التأصيل النظري سنجد أنها تؤكد على صفتي العالمية والشمول كما ذكرنا.

نظرة الإسلام إلى الإنسان

فالتأسيس المعرفي الفلسفي يبدأ بإسناد جميع الحقوق المقررة للإنسان إلى الله خالق الإنسان، ويجعلها واجباً مقدساً مفارقاً لأي سلطة وضعية، كما يضفي عليها قوة إلزامية يتحمل مسؤولية حمايتها كل فرد، فهي تسمو إلى مرتبة الواجب الديني. وبما أن هذه الحقوق مقررة من خالق الإنسان إذاً فهي لا تعترف بالفروق الجنسية أو الجغرافية أو العقائدية.
أما التأسيس الشرعي الأصولي فيؤكد على أن كل شيء في الأصل مباح وهو الأوسع دائرة، وأن الاستثناء هو التحريم وهو الأضيق دائرة، وأساس الإباحة والتحريم هو مصلحة الإنسان نفسه. ولا تقف حدود حرية الفرد وحقوقه إلا عند حدود حرية وحقوق الآخرين، فلا يجوز أن يخل أحد بحريةِ أو بحق غيره فـ”لا ضرر ولا ضرار”. ولابد في جميع الحالات من الالتزام بفضائل الأخلاق في ممارسة الحقوق أو في الدفاع عنها، فإن جادل فعليه أن يجادل بالحسنى، وعليه أن لا يقول ما لا يفعل، وإذا حكم أن لا يكون فظاً غليظ القلب، إلى غير ذلك من الأخلاقيات التي حضت عليها آيات الكتاب الكريم والسنة النبوية.
إن البحث في مضمون خصوصية حقوق الإنسان من المنظور الإسلامي يقتضي بادئ ذي بدء الرجوع إلى نظرة الإسلام إلى الإنسان وتحديد موقعه في هذا الكون. وهنا نجد أن الإسلام قد اعترف بكيان الإنسان كما هو في حقيقته، فكل إنسان أياً كان عرقه أو لونه أو دينه أو حضارته محترم وأخ لأخيه الإنسان، “كلكم لآدم وآدم من تراب”. وأياً كان المكان أو الزمان الذي يولد ويعيش فيه، هذا الإنسان في نظر الإسلام يولد على الفطرة، وهذه الفطرة هي واحدة في كل بني آدم، وهي موجودة كاملة غير منقوصة فيه منذ لحظة ميلاده، وتشمل هذه الفطرة نفخة من روح الله تعالى. ولا يولد الإنسان على الفطرة فقط، وإنما يولد مزوداً بأدوات المعرفة الأساسية: السمع والبصر والفؤاد، وهي الأدوات التي يستطيع بها أن يخدم ما في روحه من شوق إلى معرفة الله، وإلى الحرية بأوسع معانيها، وإلى التمتع بالحياة وتحقيق الازدهار الروحي إلى جانب الازدهار المادي وترقية نوعية حياته.

الاعتراف بحقوق الإنسان أصل كل الحقوق

ومن هنا كان أهم وأول حق من حقوق الإنسان تؤكده الخصوصية الإسلامية هو حق الاعتراف به كإنسان. إن هذا الحق هو أصل كل الحقوق الأخرى، وبدون تقريره على هذا المستوى الأصولي الروحي يكون عرضة لانتقاص كثير من حقوقه الأخرى تحت دعاوى كثيرة يختلقها الطغاة والمستبدون، وتبررها السلطات التي تتحكم فيه سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية. والتاريخ -القديم والوسيط والحديث والمعاصر- يقدم لنا كثيراً من الأدلة والشواهد التي تؤكد على أن عدم الاعتراف بآدمية الإنسان، أو بإنسانية الآدمي الذي كان هو البداية الأولى لإهدار كثير من حقوقه وحرياته الأساسية، كما يمدنا التاريخ بشواهد كثيرة توضح فداحة التضحيات التي قدمتها المجتمعات حتى وصلت إلى انتزاع الاعتراف بإنسانية الآدمي وكونه أهلاً للتمتع بالحقوق وممارستها وحمايتها.
إذا انتقلنا إلى التأسيس الفقهي/القانوني لحقوق الإنسان التي جاءت بها شريعة الإسلام، سنجد أنه حاول دوماً الاقتراب من النموذج الأساسي لتلك الحقوق في “عالميتها وشمولها”، ولكننا سنلاحظ أيضاً أن الاجتهادات التي أدلى بها الفقهاء قد تباينت عبر العصور لأسباب شتى -ليس هنا مجال التفصيل فيها- فاقتربت حيناً من النموذج الأساسي الذي أرسته المصادر المعرفية/الفلسفية، والأصولية، وابتعدت عنها حيناً آخر وعجزت عن استيعاب مضامينها الواسعة وقصرت عن الإحاطة بنزعتها الإنسانية الشاملة.
أما إذا انتقلنا إلى ما يمكن أن نطلق عليه “التأسيس العملي/التطبيقي” لتلك الحقوق، فسوف نجد أن الفجوة أضحت أوسع بين ما يجب أن يكون وما كان بالفعل عبر مراحل تاريخية مختلفة، أو ما هو كائن في واقعنا الراهن. ولهذه الفجوة أسباب كثيرة أيضا تفسرها وتشرح آليات اتساعها حيناً أو ضيقها حيناً آخر، وهذا موضوع لحديث آخر.

الصياغات المقننة لحقوق الإنسان

والأمر الجدير بالإشارة هنا هو أن الفقه الحقوقي الإسلامي المتعلق بمنظومة “حقوق الإنسان” قد تأخر كثيراً في تقديم صياغات قانونية تحدد هذه الحقوق بلغة معاصرة، وذلك بعكس ما فعل الفكر الأوربي الحديث والمعاصر الذي عني بتقنين هذه الحقوق وتحديدها بقدر كبير من الدقة، وقام بالتعبير عنها في صور متعددة مثل الإعلانات والمواثيق، والمعاهدات الدولية التي تباينت من حيث قوتها الإلزامية، من الإلزام المعنوي أو الأخلاقي، إلى الإلزام القانوني.
وأياً كانت الأسباب التي أدت إلى تأخر الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر عن تقديم صياغات مقننة لحقوق الإنسان في صورة مواثيق أو إعلانات أو معاهدات، فقد ظهرت خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي عدة صياغات في محاولة لتدارك هذا التقصير، وتمثلت تلك الصياغات في الآتي:
• “إعلان حقوق الإنسان وواجباته في الإسلام”. وقد صدر عن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في سنة 1979.
• “البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان”. وقد صدر عن المجلس الإسلامي الأوربي في لندن سنة 1980.
• “مشروع وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام”، الذي صدر عن مؤتمر قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في الطائف سنة 1989.
• “مشروع حقوق الإنسان في الإسلام”، الذي قدم إلى المؤتمر الخامس لحقوق الإنسان في طهران، في كانون الأول ديسمبر1989.
• “إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام” سنة 1990.
• “إعلان بشأن حقوق الطفل ورعايته في الإسلام”. وقد صدر في المغرب سنة 1994.
هذا إلى جانب مبادرات وصياغات أخرى متفرقة، بعضها بجهد فردي، وبعضها بجهد جماعي مؤسسي، وجميعها لا يزال في مرحلة الإعلان والبيان والتعريف دون أن تحمل أية قوة إلزامية وبخاصة في مواجهة أنظمة الحكم التي تمارس عمليات انتهاك حقوق الإنسان في كثير من بقاع العالمَين العربي والإسلامي، حسبما توضح التقارير الدورية التي تصدر عن منظمات حقوق الإنسان في العالم.

حرية الفرد دعامة أساسية في الإسلام

إن نقطة البدء في تأسيس خصوصية النظرية الإسلامية في حقوق الإنسان هي “عصمة الآدمي” في ذاته وكما خلقه الله، وهذا هو الأصل الكبير الذي يخوله الحقوقَ الأخرى جميعها.
ولمزيد من التأكيد على الأطروحة التي نتبناها وهي أن خصوصية نظرية حقوق الإنسان في الإسلام هي في عالمية هذه الرؤية، نقول إن الدعامة الأساسية التي اتخذها الإسلام لكل ما شرعه من عقائد ونظم وقوانين هي “حرية الفرد”، والإقرار بقدرته على الاختيار بملء إرادته دون حاجة إلى وسيط أو وصي، اللهم إلا في حالات نادرة واستثناءات محددة تتعلق بفقدان الأهلية، أو تعرضها للنقص بسبب عيب من العيوب، بل إن بعض الفقهاء العظام من أمثال أبي حنيفة النعمان ذهبوا إلى أنه لا يجوز الحجر على السفيه، والسفه عيب من عيوب الأهلية كما هو معروف، وعلل أبو حنيفة ذلك بالقول بأن الحجر على السفيه إهدار لآدميته، وإلحاق له بالبهائم، وأن الضرر الإنساني الذي يلحقه من جراء هذا الإهدار يزيد كثيراً على الضرر المادي الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله، وأنه لا يجوز أن يدفع ضرر بضرر أعظم منه.
وبتقرير الحرية الفردية على هذا النحو الذي ألمحنا إليه، تقررت جملة الحقوق الأساسية المرتبطة بكيان الإنسان وآدميته، وفي مقدمتها الحقوق المتعلقة بحرية التفكير والتعبير، وحرية البحث والتأمل. ولا يوجد في أصول الإسلام وتعاليمه، ولا في اجتهادات الأئمة المعتبرين أي توجيه يهدف إلى فرض الأخذ بنظرية علمية بشأن أي ظاهرة من الظواهر، عكس ما عرفته بعض الممارسات في تاريخ الأديان والثقافات الأخرى، وعرفت في سياقها محاكم التفتيش.