لم أقرأ لأحدٍ قولًا شافيًا في فلسفة الصوم وحكمته. أما منفعته للجسم، وأنه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره، فقد فرغ الأطباءُ من تحقيق القول في ذلك، وكأنَّ أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبَّةً تؤخذ في كلِّ سنة مرةً؛ لتقوية المعدة، وتصفية الدم، وحياطة أنسجة الجسم.

ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرَّعت هذا الشرع؛ لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملةً على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغير الحوادث وتَبَدُّلها، ولكي لا تجهل الدنيا معاني الترقيع، إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.

من معجزات القرآن الكريم أنَّه يدَّخر في الألفاظ المعروفة في كلِّ زمن حقائق غير معروفة لكلِّ زمن، فيجلِّيها لوقتها حين يضجُّ الزمانُ العلميُّ في متاهته وحيرته، فيشغَب على التاريخ وأهله مُسْتَخِفًّا بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة؛ ليستخلصَ من بين كفرٍ وإيمان دينًا طبيعيًّا سائغًا، يتناول الحياة أوَّل ما يتناول، فيضبِطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية؛ ليحقِّق في إنسانية العالَم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمُها المذاهب الاجتماعية، بين يدي علمائها لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها تبدأ من حيث تبدأ، ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ.

يضطرب الاشتراكيون في أوروبا وقد عجزوا عجزَ مَنْ يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه، ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهبَ كتب ورسائل. ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظامًا علميًّا من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة، فهذا الصوم فقرٌ إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضًا؛ ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئًا، كما يتساوى الناس جميعًا في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كلِّ مسلم، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحجِّ الذي تفرضه على من استطاع.

فقر إجباري يُراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح: أنَّ الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمّها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.

ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم، وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة. فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض، وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورةٍ مدَّ البطن مدَّه من قِوَى الهضم فلم يُبْقِ، ولم يَذَرْ.

ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء، ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد، وحسٌّ واحد، وطبيعة واحدة، ويُحْكِمُ الأمر، فيحول بين البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة [سيجارة].

وبهذا يضع الإنسانية كلَّها في حالة نفسية واحدة، تتلبَّس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعَلِّم الرحمة، ويدعو إليها، فَيُشْبِع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة؛ وهي تلك التي يكون عنها مساواة الغنيِّ للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته.

ومن هذين؛ الاطمئنان والمساواة يكون هدوءُ الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني، وإذا أنتَ نزعتَ هذه الفكرةَ من الاشتراكيّة بقي هذا المذهبُ كلُّه عَبَثًا من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخًا لا طبيعةَ له.

الأديب مصطفى صادق الرافعي

المصدر: إضاءات