أيها العليل

– لقد حكمت على أن كليهما عليلٌ يا صاح.. أوليس هذا عجيبًا!؟ فكيف يصيح أبكم؟ ولماذا يحاول استنفار غيره مع علمه بعجزه عن حيلة النداء؟ ولماذا ينادي على أصمّ؟ وأيّ خير يرجوه أبكمُ من أصمّ؟ إن كان يتوسل به لقضاء حاجة فلعل عجزه عنها لا يقلّ عن عجز المتوسل.. وإن كان يستفزه بالصوت ليثبت أمام ضميره قدرتَه على النداء ويقتل إحساس العجز في فمه فإن صياحه بأصمّ لن يَرجع إليه بشيء.. بل لو أقسم له الأصمّ بسماع ندائه لكان شاهدَ زور؛ إذ حمَّل نفسه شهادة لم تكن ولو كانت لم تبلغْه.. إذن فكيف يستنفر العليل عليلاً؟ غيِّر عنوانَ المقال، اكتب كلامًا معقولاً يا أخي!

– نادى أبكم على أصمّ.. وقد رأيتُ بأمّ عيني وسمعت بأذني هاتين.. هل سأكذِّب نفسي لأرضيك؟

– لا بأس.. اهدأ قليلاً.. لا داعي للانفعال.. يبدو أن حرارتك ارتفعت وتحتاج إلى دواء.. لا تقلق ستكون بخير.. لكن حدثني.. هذيانك هذه المرة يعجبني.. أين رأيت تلك الرؤيا العجيبة؟ أو أين سمعتها؟

– لا تستهزئ بي؟

– أنا لا أستهزئ صدقني.. طيب، عن أيّ أبكم وأيّ أصم تتحدث؟

– بل قلْ لي أنت أولاً.. ألم تر أبدًا رجلاً أعرج يدوس بقدمه الزمِنة ليستفز محرّك سيارة خرِب؟

– بلى رأيت.

– كلام جميل.. واصل كلامك، هات ما عندك.

– أما رأيت مريضًا أرخاه المرض يضرب بسَوطٍ بالٍ ظهْرَ حمارٍ سقيمٍ مدنِف؟

– بلى.

– أما رأيت تلميذًا بليدًا يتلصص إجابات امتحانه من آخر أشد بلادة؟

– بلى.

– أما رأيت فقيرًا من أهل الصدقة يستسلِف مسكينًا لا يجد قوتَ يومه؟

– بلى.

– كفى كفى! تحاول أن تستدرجني في حديثك هذا كعادتك، ولكن لن أتركك تنجح هذه المرة.

– عذرًا لم يكن قصدي.. انس كل ما قلتُ، أو اعتبره كلامًا مجردًا لا غرضَ من ورائه.. لكن دعني أعرض عليك أمرًا آخر، وليكن آخر حديثنا لهذا اليوم.

– لقد اتفقنا على استنفار العليل، ولم نتفق على مثالاته وصوره.. ولكن بالله عليك قلْ لي: ما تشخيصك للداء في الحالة الآتية، وما أعراضها؟

“نزل قوم من الفضلاء ذوي مروءة قريةً فقيرة استبد حاكمها بقوت أهلها واستغفلهم في أرزاقهم، فأرادوا أن يُنزلوهم جميعًا على قِسط السماء، فاقتسموا أعمالهم وأوكلوها إلى أصحابها، فانظر واحكم؛ علموا أنهم يحتاجون مجتهدًا يكشف لهم حقيقة تشريعات السماء في كل نازلةٍ، ويخطط لهم سبلَ الخلوص إلى غاياتهم الحميدة.. فلم يجدوا إلا مثقّفًا نبيلاً اطمأنوا إليه.

وعلموا أنهم يحتاجون متكلمًا شجاعًا، ليرفع شكوى الناس إلى مواضعها.. فلم يجدوا إلا شجاعًا غيرَ متكلمٍ، فأوكلوا الأمر إليه.

وعلموا أنهم يحتاجون ألف دينار ليبنوا مدرسة ويعولوا طلابًا فقراء، ويهذِّبوا، ويثقِّفوا، ويُربُّوا، ويبعثوا وعيَ ساكنيها من رفاته.. فنظروا في جيوبهم فلم يجدوا غير عشرة دراهم فقالوا: تكفي.

وعلموا أنهم يحتاجون مُعلمًا يستنهض الناس ويعرِّفهم حقيقةَ بؤسهم وحِطَّتهم.. فلم يجدوا إلا مُعلمًا غشومًا إن أراد أن يُعلِّم ذهب يُعيِّر ويوَبخ، فأوكلوا الأمر إليه.

وعلموا أنهم يحتاجون عامًا أو عامين حتى يتخلق أهلُ القرية بأخلاقهم ويجتمعوا على رأيهم، لكن ماذا يصنعون؟ إنهم يريدون الرحيل بعد ثلاثة أيام، لينزلوا قريةً أخرى بها ناس كالناس وحاكم كالحاكم.. فقرروا أن يفرغوا من مهمتهم في أيامهم الثلاثة.

وعلموا”..

– يكفيك.. يكفيك..

– هذا يا صاحِ داءٌ قديمٌ يُسَمُّونه “استنفار العليل”.

(*) كاتب وأكاديمي / مصر.