وقفات مع شعيرة الحج

نظرًا لحاجة المسلم الدائمة إلى انتهاز الفرص والمنح الربانية واستغلالها بشكل جيد لنيل للتقرب إلى الله، دون إغفال المقصد الرباني الايماني المتمثل في إفراد الله بالعبودية، والمكسب التربوي  الذي لا يعتبر نافلة من القول أو الكلام وإنما هو من أهم آليات نشر الفكر القويم المتمثل في بناء النفس الزكية ورقي بها في التمسك بالاستقامة الأخلاقية، فقد استدعى ذلك ضرورة النظر والتأمل في هذه الأيام المعدودات من الزاوية الإيمانية والتربوية المحضة بعيدًا عن المسائل الفقهية البحتة المبثوثة في مواطنها، إذ الطرح هنا لن يخرج عن إطاره الايماني والتربوي الصرف من خلال وقفات وتأملات في هذه الأيام المعدودات، والتي يمكن إجمالها في ما يلي:

تحقيق التوحيد وإظهاره لله تعالى    

المسلم لايسمي مسلما إلا عندما يستسلم لله وينقاد لربوريته و ألوهيته على سواء، إذ توحيد الربوبية لا يكفي وحده في حصولِ الإسلام، بل لا بدَّ أن يأتيَ العبدُ مع ذلك بلازمه من توحيد العبادة، حيث يحرر عقله من الأوهام والأضاليل التي علقت به، وتصفية القلب من  التوجه لغير الله، قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )(البقرة: 196)، أي له وحده دون غير ولا سواه، بل إن قول الحاج عند إحرامه بالحج: “لبيك اللهم لبيك” ثم تَكراره لها في مواقف كثيرة بالحج إعلانٌ واضح وصرح شامخ لمعلمة من معالم التوحيد العظمى، وإشارةٌ إلى مقصد عظيم من مقاصد الحج ألا وهو توحيد الله عز وجل. وعند التأمل أيضًا نجد أن معظم المواضع التي ورد فيها ذكر الحج في كتاب الله عز وجل  جاءت في سياق الحديث عن العقيدة والتوحيد، وإزالة المعاني الدخيلة التي جاءت بها الجاهلية الوثنية وقرنتها بالحج.

تزكية النفس البشرية والرقي بها 

قال تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فيهن الحَج فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ)(البقرة: 197)، إذ هذه الأيام أفضل فترة للتغيير الإيجابي عند المسلمين عامة والحجيج خاصة، لأنه يَعبُر من خلالها إلى مراقي الصعود في درجات الإيمان ومقامات التزكية العالية، بعد كبح جماح  عادات النفس السيئة وتركها، ومن تأمل هذه الآية الكريمة وجدها قد تضمنت ترتيبًا عجيبًا في المنهيات، فابتدأت بالرفث المفسد للحج على المشهور عند العلماء، ثم الفسوق الذي هو خروج عن حدود النفس، ثم الجدال الذي كان حاصل بين القبائل والشعوب آن ذاك، فما أجمل هذا الترتيب إذا تأملناه، و الحكمة من هذه المنهيات والمحافظة على ترتيبها هو  أن يتسنى للمسلم تزكية نفسه والرقي بها في مراتب الإيمان، بحيث أن المتمتع بالحج يكون أولا ًفي إحرام، ثم تزداد عليه الحرمة عند الدخول في الحرم، ثم تزداد عند الشروع في مزاولة أعمال الحج.

التربية على الوحدة والإخاء

ففي الحج تظهر معاني الوحدة الحقيقة التي أرادها الشارع الحكيم قال تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون)( الأنبياء 92). ومن مظاهر ذلك الطواف حول الكعبة والوقوف بعرفة تجمع القلوب وتذيب الفوارق وتمزج الثقافات وتوحد الشعارات وتخفي كل مظاهر الإقليمية والحزبية إذ لا فرق بين عربي وعجمي أو بين أبيض وأسود. الكل سواسية لتبقى أخوة الإسلام صرحا شامخا يندثر معه كل تمييز كيفما كان اسمه أو رسمه.

 

تربية النفوس على الصبر 

يتجلى في فريضة الحج  تربية النفس وتقوية إرادتها الذاتية على الصبر في تحمل زحام الطواف بالبيت والسعي ورمي الجمرات. وتشتد ذروة التربية على هذه الخصلة العظيم أول أيام عيد الأضحى حيث يرتفع منسوبه بشكل مضاعف إذ يجتمع فيه رمي الجمرات والحلق والتقصير والنحر والطواف بالبيت. حيث يتطلب هذا كله  من الحاج أن يكون قوي الإرادة بترك التكاسل والفتور،  لكي يستطيع تحمل هذه المشاق حتى يحقق المراد. وفي هذا تذكير بأن روح الصبر في الأمة لابد أن تبقى حية حتى يعود للأمة الاسلامية.

الإسلام ليس شكليات ظاهرة فقط

ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه” وقاله أيضاً: “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي شملت عليها هذه الأيام المعدودات و ليكون تجردا و خلوصا لله، ومن تم تنبض في القلب حقيقة المقصد المعني من هذا الأيام ألا وهو ربط بين العبادة حقائق العقيدة في الضمير، بحيث تكون العبادة مطية لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف في حدود التفكير فقط، وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصل المناهج لإحياء هذه الحقائق و منحها الحركة في عالم الضمير وعالم القيم والسلوك. وأن الإدراك النظري و التطبيقي هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم.

الحج مشهد مصغر 

أنزل الله في القرآن الكريم سورةً سميت سورة الحج، فبدأها بالحديث عن مشهد زلزلة يوم القيامة، وحشر الناس إلى ربهم، ثم بعد ذلك جاء الحديث عن مناسك الحج، وفي هذا إشارة – والله أعلم -إلى أنَّ الحج مشهدٌ مُصغَّرٌ يُقرِّبُ للمؤمن صورة مشهد يوم القيامة كل عامٍ حتى لا يغفل، حيث يحشر الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، لا يتميز بعضهم على بعض، وكذلك الشأن في الحج؛ فهم يحجون في ثياب متشابهة وفي صعيد واحد في عرفات وفي مزدلفة وفي منى، فعلى الحاج أن يستذكر مشهد الحشر في مواطن الزحام الشديد؛ كالطواف والسعي ورمي الجمرات، فإنه يحصل من التزاحم والتدافع ما يذكر بيوم الزحام الشديد في يوم القيامة، نسأل الله أن يلطف بنا فيه.

 

تربية النفس على مثل هذه المناسبات

حث الذات على اغتنام الفرص بتربية النفس المسلمة على الاهتمام بالمناسبات الدينية السنوية الثمينة التي لا تحصل في العام إلا مرة واحدة، وضرورة اغتنامها في عمل الطاعات القلبية القولية والفعلية، لما فيها من تقرب إلى الله تعالى، وتزويد النفس البشرية بالغذاء الروحي الذي يرفع من الجوانب المعنوية عند الإنسان، فتُعينه بذلك على مواجهة الحياة بكل ما تحمله.

الإكثار من ذكر الله تعالى عند إقامة مناسك الحج

من معاني بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ  فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ  وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا  فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)(البقرة: 198-203).

فانظر و تأمل كيف أمر الله بذكره واستغفاره ودعائه في هذه المواضع، ونبه على ذلك حثًا لحجاج بينه الحرام أن يستغلوا تلك الأزمان الشريفة والأماكن الفاضلة بما هي أهله من الطاعات والقربات، وأعظمها ذكره جل وعلا واستغفاره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما جُعِلَ الطوافُ بالبيتِ وبين الصَّفا والمروةِ ورميُ الجمارِ لإقامةِ ذكرِ اللهِ تعالى” رواه أبو داود. وقال أهل العلم: إنما كان ختام الأعمال الصالحة ومنها الحج بالذكر والاستغفار لأن العبد محل تقصير في أداء تلك الطاعة، يعتروه النقص والخلل وعدم أداء ما وجب عليه حق القيام”.

التمكن من ترويض النفس على الطاعة

التمكن من ترويض النفس على الطاعة في هذه الأيام، والذي يعد من أنجع وسائل التربية وأكثرها أثرا، لما فيه من تهيئ وتفرغ للطاعة، فكثرة المشاغل الدنيوية تبعد النفس عن تحقيق هدفها السامي الذي خلقت لأجله، لهذا فالحج يتيح فرصة عظيمة للوصول إليه، وفك أسر الذات من شواغلها المادية وكدحها الدنيوي.

لا يمكن فهم القرآن دون الرجوع إلى السنة

ومن ذلك تربية النفس على أن القرآن الكريم لا يمكن فهمه دون الرجوع للسنة النبوية، على عكس ما شاع وذاع مع «القرآنيين»، فقي قوله «الحج أشهر معلومات» (البقرة 197). لم يحدد أشهر الحج، لكن فصلتها السنة وبيّنتها، وهي: شهر شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. وأركان الحج وردت في آيات متفرقة، وهي: الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي، لكن كيفيتها وترتيبها وتفاصيلها أخذت من فعله عليه الصلاة والسلام، ولذلك أمر المسلمين بقوله: “خذوا عني مناسككم“. وفي هذا أبلغ رد على المبغضين للسنة النبوية، والداعين للاكتفاء بما ورد في القرآن، ونبذ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. والعجيب أن هؤلاء الضالين يسمون أنفسهم «القرآنيون».

اليوم الأعظم إنه يوم عرفة 

إن من الأيام الفاضلة عند الله عز وجل والتي من بها سبحانه على أمته هو يوم عرفة، فهو يومُ أهل الموقف، حيث الحجاج فيه على صعيد عرفات، يقول عليه الصلاة والسلام: “الحج عرفة“، وفضائل هذا اليوم العظيم كثيرة: منها أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأديان وأفضلها، لا يُقبل من أحد دين سواه، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلًا من اليهود قال له: “يا أمير المؤمنين، آية من كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال أي آية؟ قال: « اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا »، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي (ﷺ)  وهو قائم بعرفة يوم جمعة.

 

1- من فضائل يوم عرفة أنه يوم عيد لأهل الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “نزلت في يوم عيد، في يوم جمعة، ويوم عرفة“. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كلاهما بحمد الله لنا عيد”، وهو عيد لأهل الموقف خاصة، ويشرع صيامه لغيرهم كما سيأتي.

2- من فضائله أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنهما، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي (ﷺ) قال: “ما من يومٍ أَكْثرَ من أن يُعْتِقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيهِ عبدًا منَ النَّارِ، من يومِ عرفةَ، وإنَّهُ ليدنو عزَّ وجلَّ، ثمَّ يباهي بِهِمُ الملائِكَةَ، فيقولُ: ما أرادَ هؤلاءِ“.3- من فضائل يوم عرفة ما قيل إنه الشفع الذي أقسم الله به في كتابه، وأن الوتر يوم النحر، قال تعالى: « وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ» (الفجر: 1-3) . وقد روي هذه عن النبي (ﷺ) من حديث جابر فيما رواه الإمام أحمد وغيره: وقيل إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه. قال تعالى: « وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ » (البروج: 3). ففي المسند وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي (ﷺ) وموقوفًا عليه: “الشَّاهدُ يومُ الجمعةِ والمشهودُ يومُ عرفةَ“.

4- من طمع في العتق من النار، ورجاء مغفرة ذنوبه، وإقالة عثراته، والتجاوز عن سيئاته في يوم عرفة، فليحرص على الاتيان بالأسباب التي يرجب بها – بعد فضل الله ورحمته – ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال:

صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ” أمام الحجاج فالسنة في حقهم الفطر، كما هو هدي المصطفى (ﷺ).

5- من الأسباب أيضًا الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق ودعاء الله بها، فغن أصل دين الإسلام الذي أكمله الله في ذلك اليوم والدعاء فيه له مزية على غيره، فقد روى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: “خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيونَ من قبلي لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وله الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٍ“.

6- من الأسباب أيضًا الصدقة والإنفاق في سبيل الله، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم “اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ”.

تلكم بعضا من الوقفات التربوية والإيمانية لأفضل أيام وليس هذا فحسب؛ فهذه الأيام العظيمة زاخرة بهذا النوع من الوقفات، لذا ينبغي الاستفادة مما ذكر للتأهب لها بعزم صادق على الخير والإحسان، وجعل الهمة مصروفة إليها، فإنها أيام قد حُفت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفت، فأعد لقدومها عُدة، فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الأيام الفاضلات بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على الطاعات والعبادات. فقد كان سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان حريصين أشد الحرص على استغلال مثل هذه الأوقات، والمحروم من حُرم فضل الله وجوده، والشقي من تمر عليه هذه الأزمان الفاضلة، والأوقات الشريفة دون استغلال لها أو إفادة منها. ونسأل الله فيها التوفيق إلى حين اكتمالها، والابتعاد عن التفريط والإهمال والتكاسل فيها عن صالح الأعمال، فمنك يا رب السداد والهداية والرشاد.